آخر تحديث :الخميس-25 أبريل 2024-12:30م

المعطف المسلوب (المغتصب)

الأربعاء - 20 مارس 2019 - الساعة 07:19 م

د . محمد حميد غلاب الحسامي
بقلم: د . محمد حميد غلاب الحسامي
- ارشيف الكاتب


 

القراء الكرام..

 

,,المعطف,, إنها قصة قصيرة للروائي الروسي الكبير ,,نقولاي غوغول,,  نشرت في العام 1842م لا يتجاوز عدد صفحاتها المترجمة السبعين صفحة, لكنها تصور وبعمق شديد مأساة الإنسان البسيط والبأس ممثلا ببطلها,,أكاكي اكاكيفيتش,, وحلمة بالحصول على ,,معطف,, يقيه بردوة الصقيع بعد أن ظل لسنوات عديدة يتدفأ بمعطفه القديم البالي والمهتري, والذي عجز كل الخياطين عن إضافة رقعة جديدة إلى رقعه العديدة التي أضيفت إليه مرات ومرات, مما جعل صاحبه في وضع لا يحسد عليه, إما الاستمرار في لبسه بما لذلك من آثار عليه..وإما شراء معطف جديد يقيه بردوة الصقيع, وهو موظف بسيط في إحدى الدوائر الحكومية مرتبه لا يكاد يكفيه في سد رمقه من الأكل والشراب وهو يعيش منفردا ووحيدا من الزوجة والأبناء, فما كان منه إلا بأن يتخلى عن بعض من ضرورىات الحياة اليومية, النوم بدون عشاء والذهاب إلى العمل بدون فطور ووجبة الغداء تكاد تسد رمق جوعه وتخفف منه,عدم شرب الشاي وغيرها وغيرها, وذلك كله حتى يستطيع توفير قيمة المعطف الجديد, وبعد شهور عديدة استطاع ذلك الموظف..توفير قيمة المعطف وشراءه ولبسه والذهاب به إلى مقر عمله تغمره الفرحة والسرور والابتهاج بذلك المعطف ,شاعرا بأنه ,حين إرتداءه, بأنه في ريعان شبابه, بالرغم من تجاوزه الخمسين سنة من العمر, متباهيا به أمام زملاءه في العمل ومفاخرا به, الذين دائما ما ينظرون إليه باستخفاف واشمئزاز ويتعاملون معه بفوقية واحتقار, حيث يصف ذلك غوغول بقوله :

 "كان اكاكي اكاكيفيتش يسير في اشد مشاعره ابتهاجاً واحتفالاً، وكان يحس في كل ثانية من الدقيقة ان على كتفيه معطفه الجديد.. وضحك بسخرية عدة مرات خِلسة؛ من فرط سروره الداخلي. ففي الواقع فائدتان: الاولى كونه دافئا والاخرى كونه جيداً".

لكن الكارثة الحقيقية التي حلت به والمصيبة الكبرى التي كانت بإنتظاره لم تكن لتخطر على باله ,فاثناء عودته من حفلة أقامها مرؤسا له وهو يخط السعى للعودة إلى منزلة لكي ينام قليلا حتى يصحي مبكرا للذهاب إلى مقر عمله يعترضه إثنان من اللصوص فيسلبوه ذلك المعطف,,الحلم,, بعد أن سددوا إليه لكمات أفقدته وعيه, وبعد لحظات من فقدان الوعي اسيتقظ لتجد نفسه في وسط الصقيع وبدون معطف يقيه ذلك وبأن حلمه قد تبخر في لحظة من لحظات صقيع روسيا القاسي ,وهنا كانت الكارثة الحقيقية عليه.

حيث يصف ذلك غوغول بقوله :

 "احس كيف نزع المعطف منه، وجهت اليه ركلة وقع على اثرها في الثلج على ظهره ولم يحس بشئ اكثر من هذا، وبعد بضع دقائق صحا على نفسه واستوى على قدميه. ولكن لم يعد احد موجودا لقد احس ان الجو بارد وان المعطف غير موجود فجعل يصرخ، ولكن بدا ان الصوت لايبلغ اطراف الساحة فانهد يركض مستميتا دون ان يكف عن الصراخ".

وبعد فترة وجيزة مات ذلك الإنسان الفقير والمسكين وحيدا في غرفته ويدفن دون أن ينتبه لحياته ولمماته أحدا ,ليظل كابوسا ليليا يؤرق ويفزع سكان تلك المدينة التي عاش فيها ودفن وحيدا,ولكن إلى حين!!!

............

القراء الكرام

فإنني كلما تذكرت ذلك الإنسان ومعطفه (حلمه ) واعدت قراءة تلك القصة القصيرة, أحسست بأن كل منا هو,, أكاكي اكاكيفيتش,, بمأساته ومعاناته وآلامه وأوجاعه ومقاساته اليومية ، وكذلك بحلمه وطموحه وأمله بالخلاص من كل ذلك، والرحلة الطويلة التي قضاها في سبيل الوصول إلى تحقيق ذلك...، وبالمصير الذي آل إليه، ويجعلني أقول لنفسي :

إذا كان أولئك اللصوص قد سلبوا منه معطفه في ليل مظلم حالك السواد دون أن ينتبه إليه أحد بما نتج عن ذلك ذلك المصير المأساوي الذي آل إليه، فإن ما تعرضنا إليه ليس سلبا بل اغتصابا وفي وضح النهار وأمام مرأى ومسمع من الجميع ومننا جميعا، بحيث وقفنا وحيديون نعاني من ذلك الاغتصاب وغير قادرين على منعه أو التصدي له دون أدنى مساعدة من أولئك الذين وقفوا يشاهدون عملية الاغتصاب تلك، بل إن الأدهى والأمر والافدح والأشد فظاعة والاعمق إيلاما والأشد حسرة وتندرا والخيبة أملا أن بعض من أولئك الذين وقفوا يشاهدون عملية الاغتصاب تلك التي تجري علينا هم أولئك الذين كنا نظن بأنهم أول المنجدين لنا وأول المدافعين عنا وأول السباقين لنصرتنا والدفاع عنا، وإذا بنا نجدهم من ضمن أولئك المشاركين في اغتصابنا، ومن لم يشارك منهم في ذلك وقف ينظر إلينا متشفيا بنا ولسان حاله يقول لنا جهرا أو سرا مع نفسه : تستحقون ذلك وأكثر....

لحظتئذ ينتابني فزع شديد وهلع وخوف شديدين مما نحن فيه..وعليه..وممن اغتصبوا ومازالوا يغتصبون معطفنا( ربيعنا..) ومن أولئك الذين وقفوا يشاهدون عملية الاغتصاب تلك...دون أن يملكوا ويحسوا بأي وازع يردعهم,دينيا كان أم غير دينيا,, ويجعلني أتسأل :

ترى  ما مصير كل أولئك الذين قاموا باغتصاب ,,معطفنا,,عفوا " ربيعنا..." وشاهدوا ذلك...؟؟؟!!!

 وهل بإمكاننا استعادته منهم؟ وكيف؟

أم أنه وجب علينا بأن نبدأ مجددا بتفصيل معطف جديد؟

 أم أن مصيرنا سوف يكون مثل مصير صاحب " المعطف " ؟؟؟!!!

..........

القراء الكرام........

يقول الروائي الروسي الكبير تيودور ديستويفسكي :

 ,,كلنا خرجنا من معطف غوغول ,,

ترى متى سوف نخرج نحن ؟؟؟!!!

آآآآآه ثم آآآآآه ثم آآآآآه ثم آآآآآه

لقد اغتصبوا,, معطفنا,, عفوا,,ربيعنا,,

لكنهم لن يستطيعوا النيل من أحلامنا وإرادتنا..وعزيمتنا..

ونقول لهم أيضا :

إذا كنتم قد استطعتم فعل ذلك..فلن يكون باستطاعتكم فعله مجددا....

........

القراء الكرام......

قد يكون بإمكانهم وباستطاعتهم قطف زهور وورود وثمار هذا الربيع...والعبث بها وتشويهها أو منعها من أن تينع وتثمر، لكن ليس بإمكانهم وباستطاعتهم منع الربيع..من الحلول مجددا 

بكم..يتجدد الربيع..ويثمر