آخر تحديث :السبت-04 مايو 2024-02:54ص

العقل اليمني وثقافة المكان

الأربعاء - 24 أبريل 2024 - الساعة 01:16 ص

د. محمد الميتمي
بقلم: د. محمد الميتمي
- ارشيف الكاتب


الانعزالية تولد العدوانية

اليمني كسائر بني الإنسان كائنٌ اجتماعي، حيث أحكامه وسلوكه وأفعاله تتباين بتباين البيئة الكلية المحيطة التي نشأ وترعرع فيها. فما يصدر عن عقل الإنسان، كما يقول الجابري، إن هو إلا بقدر ما يُصبُّ فيه وأن طبيعة البيئة المحيطة وخصائصها، وكذلك الخبرات المُبكّرة للفرد والجماعة والتقنيات التي يوظفونها في رعاية وتنشئة أجيالهم، بحسب باتاي، تمارس تأثيرا مستمرا على شخصية تلك الأجيال وتصُكُّ ثقافتهم. وسبق للفيلسوف البريطاني جون لوك أن أتى بفكرة اللوح الفارغ (Tabula Rasa) والتي تقول إن الإنسان يولد من دون محتوى عقلي مدمج وإن العقل يتشكل بناء على الخبرات الشخصية والتنشئة والاستجابة الذاتية.

وتقرّ الجغرافيا الثقافية بأن من وُلد ونشأ وترعرع في الجبل لا يتصرف ويسلك ويفكر كمن عاش في السهل أو الساحل. وليس ابن المدينة في أحكامه ومسلكه وملبسه كإبن الريف، ومن ولد وعاش وترعرع في مغارة ليس كمن ولد وعاش وترعرع في قصر. فثقافة المرء والجماعة لا يمكن فهمها أو معالجتها إلا باعتبارها جزءا من الزمان والمكان اللذين تتخلّق فيهما. الإنسان في الأول والآخر هو مُنتج الزمان والمكان بحسب تعبير هيغل. فثورة 14 أكتوبر 1963 الخالدة كحدث تاريخي عظيم في تاريخ الشعب اليمني، لم تنطلق من جبال ردفان فحسب، بل استلهمت عنفوانها ومعانيها في لحظة تاريخية معينة وفي تحالف عضوي مع جغرافيا الثورة السبتمبرية 1962 التي دوّى هدير ثوارها من ساحة التحرير في العاصمة صنعاء.

الثورتان اليمنيتان في ستينات القرن الماضي تؤكدان أن إحداثيات التاريخ اليمني في الزمان والمكان سلسلة متصلة يخطئ من يسعى للفصل بين حلقاتها.

ولا ينبغي تمييز الجماعات المختلفة عن سواها من خلال ملبسها ومأكلها وطرق عيشها فحسب، ولكن أيضا -وهو الأهم- من خلال نظرتها للآخر وللعالم ككل، من خلال أولوياتها ومعتقداتها وطرقها المختلفة في التعامل مع هذا الآخر، أحكامها وسلوكها، وتصرفاتها.

ولهذا فإن فكرة التعايش والسلام بين البشر جميعا، سواء كانوا أفرادا أو جماعات، شعوبا أو أمما، تتقرر -إلى حد كبير- على ضوء المشتركات الثقافية التي تتخلق وتتبلور في رحم زماني ومكاني متقارب ومتشابه، ديناميكي ومتفاعل.

وكلما كان المكان الذي تتموضع فيه الجماعة البشرية نائيا ومنعزلا ومعزولا عن الزمان والمكان اللذين يشكلان محيطها ودوائرها الأوسع، كانت الجماعة ذات ثقافة إقصائية انعزالية عدائية، منغلقة لا تقبل الآخر ولا ترى العيش والتعايش معه إلا بوصفه الضد لها والنفي لوجودها.

الزمان باعتباره ديناميكية مقررة للتاريخ الإنساني هو الآخر قد يحاصره -في شروط معينة- المكان المغلق ويكدّسه عند نقطة معينة ويكسبه هوية وموعدا وملامح وخصائص تقيد حركة التاريخ إلى الأمام. إن النهار الذي يسطع ضوؤه في بقعة ما على الأرض في لحظة معينة قد يكون ظلاما دامسا في بقعة أخرى في نفس تلك اللحظة الزمنية. وزن الإنسان على كوكب الأرض يختلف عن وزنه على كوكب آخر، ومثل ذلك امتداد الزمان الذي يدور حوله. الجماعات التي تحاصر عقولها سلطة الزمن الماضي أو المكان المقفل الذي اختارته لنفسها الحيوانات السياسية لا تعيش الحاضر ولا يمكن أن تصنع المستقبل أو حتى تدركه.

إن الزمان والمكان بوصفهما بُعدَيْ التاريخ البشري الرئيسيّيْن يتبادلان في لحظة معينة وعند نقطة معينة التأثير ليرسما معالم الوجود الإنساني كما ترسم البيضة معالم الدجاجة والدجاجة معالم وخصائص البيضة، فيما يظل البعد الثالث للتاريخ البشري ألا وهو العقل -أو منتوجه وهو الثقافة بمعنى آخر- هو الذي يرجّح دور الإنسان في تغيير معادلة المكان والزمان اللذين يشكلان بيئته. البشر هم من غيروا معادلة الزمان والمكان وأصبحوا يعطونهما مفهومهما وقياساتهما وأبعادهما ومعانيهما في سياق التطور الإنساني. وحدها الحيوانات والمجتمعات البدائية يكتسب الزمان والمكان عندها وعليها سلطة مطلقة، حتى بلغ الأمر أن صنعت منهما أشكالا مختلفة من الآلهة لتعبدها. ما يميز الإنسان العاقل عن الحيوان أو الإنسان البدائي أن الثاني يمكن أن يعيش في المجتمع لكن الأول هو من يصنع المجتمع الذي يعيش فيه ويطوّره. إن الزمان والمكان متقاطعان بوصفهما إطارا للوجود كما يقول كانط وبوصفها شرطا قَبليا للمعرفة. إن الزمان مكان متحرك والمكان زمان ثابت وذلك دلالة على الترابط الوثيق بين الزمان والمكان.

المؤسف والمحزن هو الحال الذي وصل إليه اليمن اليوم بعد أن كان فيما مضى منارة مضيئة في التاريخ الإنساني. لقد سقط في وهد مصيدة الجغرافيا وانتقامها المدمر، وكبّل الزمن في معتقلات الجهل والتخلف. فها هو اليوم مطوق بمكان مغلق وزمن يغرق في الثبات. وفي ظل هذه الشروط تجمد العقل واستسلم لسلطة الزمن الماضي والمكان المعزول. اليمنيون قبل آلاف السنين كانوا يمتلكون ناصية الزمان والمكان فأقاموا حضارات أبهرت العالم ومازالت آثارها شاهدة عليهم حتى اليوم. إنهم اليوم -ويا للمفارقة- يغرقون في ظلام دامس وجمود مطبق كالأموات. إلى أن ينتفض العقل اليمني من سجنه الراهن ويتحرر ويعلن القطيعة مع سلطة الزمن الماضي والمكان الآسن فإن نكبة اليمنيين وعزلتهم التاريخية ستظلان ترافقانهم إلى زمن غير معلوم بما قد يشكل فاصلا بين انقراضهم وبقائهم كأمة حية عظيمة بين الأمم.

عندما يصنف العالم اليمن اليوم على أنه يقبع في ذيل سلم البشرية بكل المعايير فذلك لأنه استسلم لسلطة مطلقة ولثقافة المكان المغلق والزمن الماضي وترك أصابع الشر تحرك صيرورته التاريخية. لقد حققت بعض شعوب وأمم الأرض تقدما هائلا في حياتها وتفكيرها وثقافتها بعد أن أمسكت بناصية الزمان والمكان وجعلتهما رهنا لتصرفها ورؤيتها للكون والحياة. لقد بلغ الأمر حداً مذهلا عند المجتمعات المتقدمة في السعي لتغيير بعض الخصائص الفيزيائية للبشر أنفسهم بما يتوافق مع سرعات التطور التكنولوجي والرقمي، يفوق بملايين المرات ما أكسبته الطبيعة وقواها الهائلة من تحول وتطور للإنسان عبر الزمن الذي يسكن هذه الأرض وحوّرها طبقا لرؤياه ومصالحه كما يشاء.

التنظيمات والميليشيات الفاشية والنازية والعنصرية والأصوليات الدينية المتطرفة والدول المارقة على المبادئ والقيم الإنسانية سعت في الماضي ومازالت تجاهد حتى هذه اللحظة لتجميد روح العدالة والتعايش والسلام ومعاني الحرية والديمقراطية، وإعاقة حركة التغيير إلى الأمام في بقاع كثيرة من عالمنا المعاصر بما فيها اليمن وإغراقها في سلطة زمن ثابت ومكان مغلق طبقا لأهوائها ومصالحها الأنانية الضيقة فنجحت في حالات وأماكن معينة، وأخفقت في أخرى. المجتمعات المتعلمة والحرة بمؤسساتها وتنظيماتها المدنية وقواها الاجتماعية الفاعلة رفضت ذلك وقاومته وبالنتيجة أسدلت على تلك المحاولات الستار لتبقى تلك المجتمعات تُحرّك التاريخ وتتحرك معه.