آخر تحديث :السبت-27 أبريل 2024-12:51ص

منوعات


سلاح البيت الأبيض السري لردع حرب بوتين الشبكيّة

سلاح البيت الأبيض السري لردع حرب بوتين الشبكيّة

الإثنين - 19 ديسمبر 2016 - 04:01 م بتوقيت عدن

- نافدة اليمن / الحياة اللندنية

ربما ارتسمت ابتسامات ساخرة على شفاه عربيّة كثيرة عندما سمع أصحابها الرئيس الأميركي باراك أوباما يهدّد بالرد على ما يعتقد أنه تدخّل روسي في الانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة، عبر أحد أشكال الحروب الافتراضيّة.

فقد تضمّن التهديد تلويح أوباما بالرد «في المكـان والزمان المناسبين»، وهي صيغة درجت أنظمة عربيّة على تردادها كلما تلقّت ضـــربة لا تســتطيع لها رداً، سواء جاءت الضربة من إسرائيل أو من غيرها.

وفي المقابل، الأرجح أن كلمات سيّد البيت الأبيض ليست على تلك الدرجة من الشلل والفشل والضعف، خصوصاً في مجال حروب الفضاء الافتراضي.

وقبيل الانتخابات الأميركيّة الرئاسيّة أيضاً، صدر عن أوباما تهديد مشابه، بل إن كلماته كانت أشد قسوة. وعلى غرار التهديدات المتبادلة بضربات نوويّة أثناء «الحرب الباردة»، جاءت كلمات ذلك الردّ الأميركي على ما وُصِفَ آنذاك بأنّه تدخل روسي في الانتخابات الرئاسيّة، عبر عمليات اختراق إلكتروني لمؤسّسات سياسيّة كبرى، تحديداً الحزب الديموقراطي، وسرقة بيانات حسّاسة منها.

وفي ذلك الرد عينه، توعّد البيت الأبيض موسكو بالرد على تلك الهجمات، محذّراً من أنها ستكون «متناسبة». وفي ذاكرة أيام «الحرب الباردة» أن ذلك الوصف كان مستخدماً آنذاك في وصف سيناريوات الحرب النوويّة بين العملاقين الأميركي والسوفياتي، خصوصاً التناسب بين الضربة النوويّة الأولى والرد عليها. وتساوى كلام البيت الأبيض مع الأوصاف التي وردت على لسان الجنرال جايمس كلايبر، الذي كان مديراً لـ «الاستخبارات القوميّة (الأميركيّة)»، وُصِفَت تلك الهجمات الروسيّة بأنها تهديد للأمن والسيادة للولايات المتحدة، وذلك قبل أيام قليلة من تصريحات البيت الأبيض في شأنها.

 

رسم الحدود الافتراضيّة السيادة الوطنيّة

قبل أيام قليلة، شارك أحد قادة الحزب الجمهوري الرئيس أوباما في الإعراب عن الشك في أن روسيا اخترقت أيضاً الـ «سيرفر» الرئيسي لموقع الحزب الجمهوري، ما يعني أن الضربات الروسيّة المفترضة لم تقتصر على الحزب الديموقراطي الذي دعم هيلاري كلينتون لتكون سيّدة البيت الأبيض.

هل تستأهل الاختراقات الروسيّة كل ذلك الضجيج؟ الأرجح أن الأمر يحمل من الجديّة والجسامة ما أوجب ورود تلك الأوصاف الحربيّة في كلام أوباما والجنرال كلابر وهو رئيس «مجتمع الاستخبارات» الذي يضم كل المؤسّسات الاستخباريّة (17 جهازاً، وربما أكثر نظراً الى إمكان وجود أجهزة سريّة) في «بلاد العم سام»، إذ أشار المسؤولان إلى أن تلك الهجمات مثّلت محاولة روسيّة للتأثير في الانتخابات الرئاسيّة، وهي فائقة الحساسيّة لأسباب تشمل التبدّل الاستراتيجي في النظام الدولي وموقع أميركا فيه، ما يعني أنها تضرب صلب القرار الوطني السيادي للشعب الأميركي. ما علاقة ذلك باستقالة الجنرال كلابر مباشرة بعد فوز ترامب بالرئاسة؟ هل نُظِر إلى الهجمات الروسيّة باعتبارها اختراقاً للسيادة الوطنيّة في العوالم الافتراضيّة للإنترنت، على رغم صورة تساقط الحدود الوطنيّة في تلك الشبكة؟

وليس بعيداً من الذاكرة أن خللاً في نظام التصويت الإلكتروني في الانتخابات الرئاسيّة لعام 2000، أحدث فارقاً حاسماً في التوجّهات الرئاسيّة في أميركا، بل رسم مساراً سياسياً مغايراً على امتداد الكرة الأرضيّة. ومع الخلل في نظام «فوتوماتيك» Votomatic، وإعادة احتساب الأصوات في فلوريدا، وصل الرئيس المتطرف جورج دبليو بوش مع بطانته من المحافظين الجدد (رونالد رامسفيلد، بول وولفوفيتز، ريتشارد بيرل، ديك تشيني، جون بولتون، ويليام كريستول...). وحمل هؤلاء خيارات متطرفة في النظرة إلى العالم، وضمنها تعميم النظام النيوليبرالي على العالم اقتصاديّاً، ونظريات كـ «الفوضى الخلاّقة» و «الحرب الاستباقيّة» وغيرهما. وكانت تلك الخيارات في صلب اندفاع أميركا إلى تعميم نموذج النيوليبراليّة عبر ما يشار إليه اليوم بـ «العولمة المتوحشّة»، وإلغاء اتفاقيّة «كيوتو» للمناخ مع رفض تصديق ظاهرة الاحترار المناخي وإطلاق يد شركات البترول، إضافة إلى الحروب في أفغانستان والعراق التي لم تكن بعيدة من مصالح النفط ما عبّر عنه حينها شعار «لا دم مقابل النفط» المناهض لبوش وإدارته. ويصعب التغاضي عن كون تلك التوجّهات الإستراتيجيّة (وكذلك السياسات المستندة إلى نقضها والتخلّص منها) تقف في أساس المشهد المأساوي المذهل في المنطقة العربيّة. ولعله ليس من مجازفة كبرى القول إن مسارات إستراتيجيّة مختلفة ربما كانت لترتسم (خطين تحت ربما، لأن في سياسات الدول الكبرى ثوابت راسخة، لا تتأثر بتداول في رأس السلطة)، في حال خسر بوش الابن وتيار «المحافظين الجدد» تلك الانتخابات.

 

السلطة بيد من؟

يبدو أن سابقة فلوريدا ما زالت حاضرة في المؤسّسة السياسيّة الأميركيّة، إذ أدى الخلل الإلكتروني في ولاية فلوريدا، مع أشياء اخرى بالطبع، إلى عدم وصول المرشح الديموقراطي آنذاك، آل غور. وفي مصادفة محمّلة بالدلالة، تساوقت تصريحات البيت الأبيض عن التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسيّة، مع اندفاعة قويّة من آل غور لتجديد تأييده للمرشحة الديموقراطية هيلاري كلينتون. وحينها، استعاد غور سابقة البطاقات الإلكترونيّة غير الواضحة التثقيب (عرفت باسم «شاد» chad)، ليصف نفسه بأنّه المثل الحيّ على أهمية التصويت وعمليات احتساب الأصوات.

وترد كلمات آل غور، وإن بصورة غير مباشرة، مع التطمينات التي صدرت عن كلابر وأوباما، عن مناعة نظام التصويت الإلكتروني، بمعنى طمأنة الشعب الأميركي على مناعة قراره الوطني وممارسته السياديّة في ذلك المجال.

وحاضراً، هناك أشياء تحدث في العوالم الافتراضيّة، ربما لا تظهر دلالتها الكاملة إلا عبر «ترجمتها» إلى ما يوازيها في العالم الفعلي. وبداهة يعني تدخل دولة ما في الانتخابات الرئاسيّة لدولة اخرى انتهاك مبدأ سيادة الدول واستقلالها والتجاوز على إرادة شعبها. كيف يكون الأمر عندما يحدث ذلك التدخل في دولة كبرى، بل القوة العظمى الوحيدة حاضراً، وهي مؤثّرة في شؤون الدول كافة؟ كيف يكون ذلك عندما يتعلّق التدخل في تلك الانتخابات بدولة (روسيا) ويتمثّل توجهها الإستراتيجي أساساً في تعديل وزنها دولياً بالمقارنة بالولايات المتحدة في مرحلة خروجها من أحادية هيمنتها على النظام العالمي والانتقال إلى نظام من التشابك المعقّد بين القوى الدوليّة؟

 

أوجاع «ياهوو»

 

في سياق تأمل ظلال «الحرب» الافتراضية الروسية التي يشك في أنها طاولت الانتخابات الرئاسية الأميركية، ينفتح أفق للتأمل في مغزى استخدام السلطة الأميركية لغة مستوحاة من قاموس الحرب النووية والردع الاستراتيجي الدولي، في الحديث عن الهجمات الإلكترونية الروسية على الحزبين اللذين يتداولان السلطة تاريخياً في الولايات المتحدة، وكذلك إمكان تدخل روسيا بهجمات إلكترونية مباشرة في الانتخابات الرئاسية. كذلك، تظهر دلالة الكلمات المهددة التي استخدمها الناطق بلسان البيت الأبيض جوش إرنست، في وصف الردّ المحتمل لبلاده على «الغزوة» الروسية في الفضاء الافتراضي، إذ أوضح إرنست أنّ أوباما وضع على الطاولة «الوسائل المهمة التي تتمتع بها الحكومة الأميركية للدفاع عن أنظمتنا المعلوماتية في الولايات المتحدة»، إضافة إلى إمكان «شن عمليات هجومية في دول أخرى».

إذاً، إنها حرب على أعلى مستوى، على رغم صمتها النسبي المتأتي من كون ساحة المعركة فيها هي الفضاء الافتراضي لشبكة الإنترنت.

 

«اليوم الصفر»

في ذلك الفضاء، هنالك ما لا حصر له من الوسائل والأدوات التي تستخدم في حروب الإنترنت. وبعد كشوفات الخبير المعلوماتي الأميركي إدوارد سنودن، ظهر إلى العلن سلاح لم يكن الحديث عنه مألوفاً قبل سنودن، هو: «ثغرات يوم القيامة» Doomsday Vulnerabilities الذي يُسمى أيضاً «هشاشات اليوم الصفر» Zero Day Vulnerabilities، مع ملاحظة الطابع الحربي للتسميتين. ويطلق تعبير الهشاشة (أو الثغرة) على أخطاء في تصميم النُظُم الإلكترونية، بمعنى أنها أخطاء في الشيفرة الإلكترونية الأساسية التي تكتب بها صيغ تلك النظم. بقول آخر، تشبه الثغرة - الهشاشة «كعب أخيل» الأسطوري الذي كان نقطة الضعف في الجسد غير القابل للاختراق لذلك البطل الذي لم تصمد أمامه حصون طروادة، لكن سهماً في كعبه أودى به إلى الموت.

وتبرز تلك الثغرات إلى الإعلام العام في حوادث كسرقة بيانات المؤسسات الكبرى، لعل أقربها هو ثغرة كشف في أواخر كانون الأول (ديسمبر) الجاري، أنّها مكّنت من السطو على بليون حساب من شركة «ياهوو». وفي مطلع 2016، تمكن «هاكرز» من استغلال ثغرة في نظام «سويفت» للتبادل المالي عالمياً، مع السطو على البنك المركزي في بنغلادش، في حادث غير مسبوق تاريخياً.

 

ابحث عن... إيران!

 

تفيد وثائق سنودن بأن الاستخبارات الأميركية، خصوصاً «وكالة الأمن القومي»، تجمع ثغرات - هشاشات نُظُم المعلوماتية والاتصالات في العالم بأسره. هل تقرأ المقال على كومبيوترك من موقع «الحياة» مثلاً؟ فكّر في أن هنالك ثغرة ما وأن الاستخبارات تستطيع وقفك عن القراءة، إما بضرب كومبيوترك أو موقع «الحياة»! والمثير أن عصر الإنترنت حمل تساوياً نسبياً بين أطراف كالدول والشركات الكبرى والمجموعات الخاصة كتلك التي يستند إليها تنظيم «داعش» الإرهابي. هناك تجارة في العالم لتلك الثغرات - الهشاشات، بمعنى أن هناك من يجمعها ويبيعها لمن يدفع أكثر. في المقابل، تعمل الشركات على اكتشافها لتعزيز أمن نظمها ومواقعها، وهو أمر يحصل يومياً على كل كومبيوتر في العالم.

في شهادته أمام الكونغرس، قدّم مايكل هايدن، المدير السابق لـ «وكالة الأمن القومي» تعريفاً لمصطلح متداول في أوساط الوكالة هو «نوباس» NOBUS الذي يتألّف من الحروف الأولى لعبارة «لا أحد سوانا» بالإنكليزيّةno body but us وهي إشارة إلى اكتشاف ثغرة يرجح ألا يعرفها أحد سوى الوكالة.

وكذلك تدل وثائق سنودن، على أنّ ثغرات «نوباس» عرضة للانكشاف، فيما هناك ثغرات - هشاشات تحرص الاستخبارات الأميركية على حمايتها لأنها تشكّل سلاحها الرادع الأقوى (والملاذ الأخير أيضاً)، بمعنى أنها تعطيها القدرة على ضرب أعدائها بصورة مؤثرة وواسعة. واستعملت بعض الـ «نوباس» في تصميم فيروس «ستاكس نت» الذي ضرب مفاعلات إيران النووية، فأوقفها لفترة من الزمن.

ويعطي توقف مفاعل نووي لمحة خاطفة عن مدى الضرر التي تستطيع «ثغرات يوم القيامة» إلحاقها بروسيا، فيما لو قرر الجالس على كرسي «المكتب البيضاوي» توجيه ضربة إلكترونية استراتيجية ضد روسيا بوتين. هل يحدث ذلك، أم تسير الأمور إلى مسار آخر، على غرار الاتفاق الذي أنجزه أوباما مع الرئيس الصيني جي شينبينغ (2015)، بالتوقف عن حروب الفضاء الافتراضي؟