آخر تحديث :السبت-20 أبريل 2024-11:06ص

منوعات


ما هي نظرة العلوم النفسيّة إلى الذكاء الاصطناعي؟

ما هي نظرة العلوم النفسيّة إلى الذكاء الاصطناعي؟

الأحد - 16 سبتمبر 2018 - 06:21 م بتوقيت عدن

- نافدة اليمن / رويترز

للوهلة الأولى، ربما بدا مستغرباً أن تساهم علوم النفس في النقاشات عن الذكاء الاصطناعي. ولعل شيئاً كثيراً من ذلك الإشكال يزول مع تذكر أن علوم النفس تبحث مسائل هي في صلب عمل الذكاء الاصطناعي، كالإدراك وعلاقة الدماغ بالقدرات المعرفية المتنوعة، وطرق تكوّن الذاكرة وأنواعها وغيرها. ويصعب تجاوز القول إن علم النفس المعرفي Cognitive Psychology تآزر مع علم النفس العصبي Neuropsychology (والطب المتصل بهما) في تطوير علم النفس وطبه، بعد جموده طويلاً أمام مدارس محدودة كالتحليل النفسي الفرويدي والمدرسة السلوكيّة والتحليل الإكلينيكي (العيادي) الوصفي وغيرها.


والأرجح أن صعود ظاهرة الذكاء الاصطناعي حرك عقولاً في الحقول السابقة، خصوصاً علمي النفس المعرفي والعصبي، للمساهمة في فهمه وإثرائه ونقده أيضاً. وساهم في الحراك نفسه أن المعلوماتية التي ولد منها الذكاء الاصطناعي، توصف بأنها تكنولوجيا جذريّة، بمعنى أنها لامست العلوم والتقنيات كلها، بما فيها علم النفس.

والأرجح أن بعض دارسي آليات الإدراك والتفكير في الدماغ رأوا في الاشتغال على مسألة الذكاء نفسها إثارة قصوى، إضافة إلى اتصالها بمحاولة تقليده بآلات ذكيّة. وطري في الذهن أن البروفسور المصري- الأميركي عمل طويلاً كأستاذ للبيولوجيا العصبية في جامعة لندن. واشتهر ببحوثه عن علاقة العين والنظر بالمعرفة. وفي تسعينات القرن العشرين، وضع كتاباً ذائع الشهرة عنوانه «الرؤية للدماغ» Vision For Brain، لاحظ فيه وجود تغيير يحدث في تركيب نسيج عصب البصر خلال مساره من العين إلى المنطقة الخلفية للدماغ المختصة بالرؤية. ورأى أن ذلك التغيير يكفي لتفسير وجود طرق مختلفة لتخزين الأشياء المنظورة مع ما يرتبط بها من خصائص متباينة في اللون والحركة والحجم. واقترح أن ذلك يشكّل تفسيراً عصبيّاً مباشراً لحدوث العملية الفكريّة المعروفة بـ «التعرّف إلى الوجوه» Face Recognition. وانتقل تأثير نظرته تلك إلى المعلوماتية عبر التقنية الرقمية- الضوئية التي تحمل الاسم نفسه، وهي مكّنت الكومبيوتر من تقليد عملية الإبصار بواسطة الكاميرات الذكية المتطورة.

هل يعني ذلك أن الأدوات الرقمية التي تتقن عملية التعرف إلى الوجوه، هي فعلاً «تعرف» من ترى؟ كيف نفهم قدرة الآلات على محاكاة إحدى عمليات الفكر الأساسية؟

كأنه بزّاقة عاجزة دوماً

في مقلب مغاير تماماً، يقف الفيلسوف الأميركي كولن ماكغن، من جامعة روتجرز- نيوجرسي. إذ يناقش في كتابه «مشكلة الوعي» أن الإنسان لن يتمكن أبداً من حل لغز «وعيه»، ببساطة لأنه... إنسان! واستخدم في شرحه مثالاً متطرفاً» «يشبه ذلك أن تحاول بزّاقة إجراء تحليل نفسي فرويدي لذاتها بذاتها... إنها محاولة فاشلة سلفاً ودوماً لأن الأداة المعرفيّة اللازمة ليست موجودة». هل الأمر كذلك؟

يتّفق جمع من الفلاسفة وعلماء النفس والمختصين في الذكاء الاصطناعي، على وجود خصائص فريدة للوعي الإنساني تجعله أكثر من مجرد تراصف معلومات وحساب احتمالات. تتمثّل إحدى تلك الخصائص في كيفية تحوّل الحواس مدركات حسيّة، ثم اندراجها في نسيج الوعي الذاتي أو ما يسميه البعض «تجربة ذاتيّة». أنت الآن تسمع صوتاً، أهو مواء قطة أو بكاء طفل؟ ربما إن الاحتمالات المتعددة تتدافع ثم يتسيد الموقف معلومة معينة «بكاء طفل»، ويتم التصرف على أساسها، بمعنى أن المعلومات اللاحقة تتدفق على قاعدة الموقف السائد. عند ذلك الحد، يتحوّل الإحساس الخارجي معلومات في وعي الإنسان. هل يكفي تحليل موجات الصوت ليكون فارقاً بين مواء قط وبكاء طفل؟ هل كلاهما يسيران على ذلك النحو في عقل البشر؟

في مسار متصل، يعتقد البروفسور رودني بروكنز من «معهد ماساشوستس للتقنية»، أن كومبيوتر المستقبل ربما يتوصل إلى «مناظرة عقل الإنسان»، إذا استطاع أن «يتعلم كالإنسان ويراكم تجاربه وخبراته مثله». ويدير بروكنز إنساناً آلياً، يسمية «كوغ» تدليلاً. ويملك ذلك الروبوت كاميرات حسّاسة هدفها تعريض «عقله الاصطناعي» إلى التجربة الحسيّة المتمثلة في البصر عند البشر، ولواقط للصوت لتجربة السمع، بل إنه مكسو بجلد اصطناعي مملوء بألياف السيليكون المحملة بالرقاقات الإلكترونيّة، بهدف تقليد تجربة «الحس»! وينتمي بروكنز من دعاة مدرسة «البناء من أسفل إلى أعلى» في العمل على الذكاء الاصطناعي التي تعتقد مبدئياً، بإمكان تحويل الأحاسيس معلومات ثم التصرّف على أساسها. لربما توصل «كوغ» إلى سحب «يده» لدى اقتراب نار منها، أو لعل «كوغ» سيقدر قريباً على تمييز صوت ما بوصفه بكاء طفل (...).

المدركات الحسيّة والعقلية

في المقابل، يجدر تذكّر أن عقل الإنسان يحوّل الإحساسيس مدركات حسيّة مجردة، بل تجربة داخليّة أيضاً. ألا يكون الأمر أعقد بما لا يقاس إذا انتقلنا إلى مجال «المدركات العقليّة» ذات الطابع المجرد والرمزي. هل سيتمكن «كوغ» من تجريد مفهوم «الغابة» انطلاقاً من رؤية «شجرة»؟ أن يستنبط نسقاً قبل ظهوره، خصوصاً ألا يكون سبق له أن «تعلّم» ذلك النسق عبر معادلات رياضيّة في رقاقاته؟ هل سيصل إلى أن يبادر، ويحدس، ويبتكر بمعنى أن يخرج بفكرة جديدة لم تقدم إليه سلفاً أبداً؟ هل يجد حلاً لم يطرح عليه قبلاً؟

تصل الأسئلة عن الخصوصيات المُكَوّنة للوعي الإنساني إلى مفترق طرق، حيث يقترح بعض العلماء أن تطور العلم قلّص مشكلة الوعي الإنساني إلى مجموعة من المسائل القابلة للجدل وخصوصاً في ضوء بحوث الدماغ.

وعلى عكس ذلك، ترى مجموعة أخرى من العلماء أن خصوصيات الذكاء هي تأكيد لخصوصية هوية الكائن الإنساني وليس لإمكان تقليده بالآلات. ويخلص الفيلسوف ماكغن من الخصوصيات إلى طرح إشكالية وجودية: لا يستطيع عقل الإنسان، بما هو أداة بحث وإدراك، أن يعلو فوق نفسه وقدراته، وعمليات التفكير الجارية في دماغه لن تتوصل أبداً إلى فهم ذاتها!

هل إن إنسانية الوعي هي نفسها حدود العقل؟ هل نحن في حاجة إلى «عقل ما» آخر، مختلف نوعيّاً، لفهم العقل البشري من خارجه؟ هل سيكون ذلك يوماً آلة فائقة التطوّر، كأن تأتي من إدماج دماغ الإنسان ورقائق الكومبيوتر المتقدمة تقنياً؟ إذا طرحنا الأمر من وجهة نظر داروينية، وهو ما يمكن الاعتراض عليه دوماً، من أن الطبيعة المجردة كلياً من التفكير «تمكنت» من إنتاج أشكال حيّة، ما لبثت أن تكوّن لها جهاز عصبي، ارتقى وتطور مع وجود تدرجات وأنماط مختلفة كمياً وكيفياً لتصل إلى الإنسان المفكر الذي يمتلك اللغة أيضاً. هل أن علماء الذكاء الاصطناعي والكومبيوتر والإنترنت يقومون بأيديهم ومختبراتهم، بأداء الدور الذي كانته الطبيعة للإنسان، ضمن ذلك الافتراض الذي ربما لا يكون صحيحاً بالأصل؟ هل الدرس المستفاد من كون الذكاء الإنساني نقطة عليا في سياق تطور أدنى وبكثير، أنه يمكن إيجاد ذكاء أعلى نوعياً، ابتداءً من النقطة الموجودة اليوم (الإنسان)، فتصبح هي في مرتبة أدنى؟ الحال أنه من المستطاع أيضاً رفض النظرية الداروينية تماماً وأن نسقط تلك التساؤلات كلها؟

ماذا لو أن الأداة المطلوبة لفهم العقل الإنساني جاءت من مسار مغاير تماماً... من حضارة كونية أخرى؟ في المقابل، مذا لو وصلتنا حضارة خارجية من إحدى المجرات أكثر تطوراً منا لكنها أيضاً تواجه ما نفكره من معضلة العقل والدماغ والآلات المفكرة؟