آخر تحديث :الجمعة-26 أبريل 2024-10:19م

منوعات


لورانس أبو حمدان فنان يستخلص من صرخات المعذبين عمارة سجونهم

لورانس أبو حمدان فنان يستخلص من صرخات المعذبين عمارة سجونهم

الثلاثاء - 11 ديسمبر 2018 - 07:01 م بتوقيت عدن

- نافدة اليمن / بي بي سي

هل يمكن أن نعيد من صرخات المعذبين من السجناء ومن ذاكرتهم الصوتية بناء عمارة للأماكن التي عذبوا فيها تدين سجانيهم، وأن نستخلص من الأصوات أدلة جنائية عن انتهاكات حقوق الإنسان والجرائم ضد الإنسانية، وأن نستثمر كل ذلك في أعمال فنية توثق عذابات الضحايا وتستنهض الضمير وتقدم جماليات مضادة.

يحاول لورانس أبو حمدان،المولود في الأردن عام 1985، الحفر في هذه المنطقة النادرة الخاصة التي تتقاطع فيها عدة حقول واهتمامات تتراوح بين الفن والعلم، والتكنولوجيا والسياسة، والصورة والصوت، والعمارة والصحافة الاستقصائية، إذ يستثمر خبرته في الموسيقى وعمله في مجال استخدام الصوت في حقل الأدلة الجنائية لإنجاز أعماله الفنية التركيبية "انستليشن" التي تعتمد وسائط متعددة ، ليعيد بناء ما يمكن أن نسميه "عمارة الضحايا" من صرخات عذابهم والأصوات المحيطة بهم.

وسبق أن استخدمت أبحاث أبو حمدان في مجال الأدلة الجنائية الصوتية، كأدلة لدى محكمة الهجرة واللجوء في بريطانيا، واستخدمتها منظمات حقوقية من أمثال منظمة العفو الدولية ومنظمة الدفاع عن الأطفال العالمية.

قدمت أعمال أبو حمدان مؤخرا في العاصمة البريطانية لندن في معرض حمل عنوان "مسرح شاهد سماع" في غاليري تشيزنهيل، فضلا عن عرض أدائي تحت عنوان "ًWALLED UNWAALLED" في متحف التيت للفن الحديث، ويمكن أن نقترح له هنا مرادفا تقريبيا، وإن افتقد طباق السلب الذي لعب عليه في صوت كلمة جدار الإنجليزية، هو "جدران مخترقة" لمجرد التقريب إذ لا يطابق كليا عنوان المعرض.

الإعلانات

"مخترق الجدران"

يحاول أبو حمدان في أدائه أن يكون مخترقا للجدران (نستعير هنا عنوان قصة شهيرة للكاتب الفرنسي مارسيل إيميه)، منطلقا من فكرة علمية عن قدرة جسيمات الميوون على اختراق طبقات الكتل الصلبة.

والميوون هي جسيمات أولية غير مرئية تتميز بشحنة كهربائية سالبة مثل الإلكترون تحملها الأشعة الكونية التي تخترق الغلاف الجوي للأرض، ويمكن لملايين الملايين من هذه الجسيمات اختراق طبقات من الكونكريت أو الصخور أو طبقات التربة الأرضية.

وقد تمكن العلماء من تطوير تكنولوجيا استخدام خاصية هذه الجسيمات لرؤية ما خلف الكتل، واستخدمت هذه التقنية على سبيل المثال لا الحصر للغوص في أعماق الجدران الصخرية للإهرامات واكتشاف غرفة سرية في عمقها، أو في فحص محتويات صفوف من الحاويات الفولاذية الكبيرة المستخدمة في النقل البحري.

ومن هذا المنطلق، يرى أبو حمدان أن الجدران التي تتكاثر حولنا باطراد، ووصلت إلى نحو 63 سياجا أو حاجزا ماديا تفصل بين الدول في أربع قارات، بعد أن كان مجموعها 15 سياجا أو جدارا محصنا في عام 2000، لم يعد لها معنى.

وفي العرض الأدائي الذي قدمه متحف التيت للفن الحديث، قدم عرض فيديو تركيبيا يعتمد سرد عدد من الحالات القضائية تتركز على أدلة مستخلصة عبر الجدران، عبر الصوت في الغالب، محاولا إعادة بناء صوتي مرفق بتجسيدات بصرية لها تتخللها مونولوجات عنها سجلها في استوديوهات فونكهاوس (موقع مجمع استوديوهات إذاعة جمهورية ألمانيا الديمقراطية السابقة في الخمسينيات).

يبتدئ أبو حمدان في عمله من قضية داني لي كيلو الذي استخدمت السلطات الأمريكية فيها جهازا لتسجيل مستوى الانبعاث الحراري عبر جدران بيته، لتكتشف كمية حرارة أكبر منبعثة من المرآب الملحق بمنزله، كدليل على استخدامه إنارة صناعية لتنمية نبات الماريوانا، وأصدرت بناء على ذلك أمرا قضائيا بتفتيش منزله حيث اكتشف أنه يزرع أكثر من 100 نبتة ماريوانا هناك.

ويعرج أبو حمدان إلى استخدام دليل وصول الصوت عبر الجدران في قضية محاكمة العداء الجنوب أفريقي مبتور الساقين، أوسكار بيستوريوس الذي قتل صديقته وأدعى أنه لم يسمع صرخاتها بسبب جدران الحمام.

وينتقل أبو حمدان إلى استخلاص أدلة من الذاكرة الصوتية لسجناء سابقين في سجن صيدنايا سيء الصيت في سوريا، وهو مشروع كان نتاج عمله عام 2016 في إجراء "تحقيق صوتي" بالتعاون مع منظمة العفو الدولية ومجموعة "عمارة الأدلة الجنائية"، لبناء ذاكرة صوتية، بل قل لغة غير لفظية عبر مقارنة الأصوات فيه، بحسب تعبيره، للسجن نفسه، الذي ظل بمنأى عن دخول مراقبين مستقلين ومعرفة ما يجري داخله.

وتقول منظمة العفو الدولية إن 13 ألف شخص قد لقوا حتفهم داخله منذ بدء حركة الاحتجاجات في سوريا عام 2011.

وكانت ذاكرة بعض من اُطلق سراحهم المصدر الرئيسي المتوفر لمعرفة ما جرى داخل السجن و توثيق الانتهاكات التي جرت فيه، مادامت قدراتهم على رؤية ما يجري في داخله محدودة جدا.

"شهود سماع"

استخدم أبو حمدان هؤلاء السجناء السابقين الذين يسميهم "شهود سماع" لإعادة تخطيط عمارة السجن، الواقع على بعد 25 كيلومترا إلى الشمال من دمشق، وصممه ونفذه معماريون من ألمانيا الشرقية في عام 1987 ،في ثلاثة أجنحة تنطلق من مركز واحد بشكل أشبه بعلامة شركة مارسيدس الألمانية للسيارات.

بدأ أبو حمدان باستحضار ذاكرة شهوده باستخدام مواد من مكتبة المؤثرات الصوتية لبي بي سي وشركة الانتاج السينمائي الأمريكية وارنر بروذرز، بيد أنه لم ينجح عبرها في استحضار تصور دقيق منهم للأصوات التي سمعوها فلجأ إلى تجريب استخدام مواد مختلفة كالمطاط والجلود والعلب المعدنية والحبوب ومختلف المواد الأخرى للوصول إلى تصور أدق لبناء الأصوات التي سمعوها.

هذه المواد كانت مادة المعرض الذي استضافه غاليري تشيزنهيل، الذي تتقدمه تجربة الدخول في غرفة مظلمة تستحضر الفضاء الذي كان يعيشه السجناء ويُستمع فيها عبر مكبرات الصوت إلى خلطة من أصواتهم والمؤثرات الصوتية التي يسمعونها، ثم ينتقل المشاهد لرؤية المواد التي استخدمها أبو حمدان لبناء هذه المؤثرات واستحضار الذاكرة الصوتية لشهود سماعه

ويخلص أبو حمدان في بحثه إلى أن هذا السجن، الذي بني على غرار نمط عمارة السجون في ألمانيا الديمقراطية، والتي استخدمت في الستينيات والسبعينيات في بناء سجون في دول المعسكر الاشتراكي سابقا وفي كولومبيا وأنغولا ومصر ولبنان وسوريا، تستثمر ما يمكن أن نسميه "السجن الصوتي"، إذ صممت بطريقة تجعل الأصوات تصل إلى مركز المراقبة في الوسط وتتضخم في زنزانات السجناء، الذين يشعرون بصرخات زملائهم وأصوات عمليات التعذيب وكأنها تحدث قربهم حتى لو كانت على مبعدة منهم، حيث يكون الصوت وسيلة إرهاب وإرعاب للسجناء الآخرين أكثر من الألم الذي يعيشه السجين الذي يتعرض للضرب والتعذيب، بحسب تعبير أبو حمدان.

"عمارة الأدلة الجنائية"

يقول أبو حمدان إنه استلهم في بداية عمله بالمشروع استخدام شهادات "شهود السماع" من قبل المنظمات الحقوقية التي قادت إلى الكشف عن السجون السرية التي استخدمتها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي آي أيه) للتحقيق مع المشتبه بهم وتعذيبهم في برنامج التحقيقات بعد 9/11، وتحديدا ما عرف باسم الموقع الأسود لسي آي أيه في بوخارست برومانيا.

وقد عمل أبو حمدان مع مجموعة "عمارة الأدلة الجنائية" في كلية غولدسميث بجامعة لندن، التي حصل منها على شهادة الدكتوراة، وتهتم هذه الجماعة التي يقودها الأكاديمي والمعماري، إيال وايزمان، في استخدام العمارة وتكنولوجيات البحث المعماري فضلا عن حقول بحثية أخرى في التحقيق بانتهاكات حقوق الإنسان والعنف الذي تمارسه الدول في مختلف أنحاء العالم.

وتعتمد الجماعة في عملها على باحثين من حقول ومناهج متعددة، من بينهم فنانون، معماريون، صحفيون استقصائيون، مخرجون سينمائيون، آثاريون، محامون، وعلماء، للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها دول أو مؤسسات كبيرة لمصلحة منظمات المجتمع المدني.

ومن أعمال هذه المجموعة، تقريرها الذي رفعته في عام 2012 إلى اجتماع الدول الموقعة على معاهدة حظر أنواع معينة من الأسلحة التقليدية عن استخدام إسرائيل لذخيرة الفسفور الأبيض في هجماتها بغزة في ديسمبر/كانون الأول 2008 ويناير/كانون الثاني 2009 والذي أدى في النهاية إلى اعتراف إسرائيل لأول مرة باستخدام هذا النوع من الأسلحة.

كما عملت بالتعاون مع منظمة العفو الدولية في عام 2015 في رسم خريطة وتحديد مواقع مئات الضربات الإسرائيلية فيما عرف بيوم الجمعة الأسود في غزة ورفح في 1 أغسطس/آب 2014، من تحليل مقاطع فيديو صورت بالهواتف النقالة للانفجارات هناك. وكذلك المشروع الذي موله مجلس البحث الأوروبي عن سجن صيدنايا في سوريا بالتعاون مع منظمة العفو الدولية أيضا.

وقد رشح عمل المجموعة من بين أربعة أعمال أخرى في القائمة القصيرة لنيل جائزة تيرنر البريطانية للفنون في عام 2018.