آخر تحديث :الأحد-19 مايو 2024-03:30م

مُتفيدون في سبيل الله!!

الأحد - 12 فبراير 2017 - الساعة 06:01 م

بلال الطيب
بقلم: بلال الطيب
- ارشيف الكاتب


 

«ألا يا أهل الحدا يا أهل آنس.. عَشَاكُم البِلاد المُفسدات»، كان النداء، فكانت الاستجابة، «المُنادي» هنا ليس قاطع طريق، أو زعيم عصابة، إنه إمام اليمن «الناصر» أحمد حميد الدين، الفقيه الأديب؛ الذي قسَّم رعاياه إلى «أنصار» و«مُفسدين»، ومضى بروحه العدائية مُنمياً لـ «الشر»، مُهلكاً لـ «الخير»، مُعمقاً جراحات اليمنيين.

ثمة نداءات مُشابهة، رددها ذات الطاغية، وغيره من الأئمة، أراد وأرادوا من خلالها استنهاض همم «قبائل الهضبة»، للتوجه جنوباً، حيثُ «البلاد المُفسدات»؛ جعلوا من «الفيد» دين، ومن قطاع الطرق «مجاهدين»، انتشى على وقع صُراخهم الصراع، وانحسرت المودة، وارتسمت على الخارطة الخانعة فصولاً من «الكوميديا السوداء».

على مدى قرون، و«الرعية الشوافع» يتلظون بجحيم «الفيد المؤدلج»، عاشوا تفاصيل حياتهم في ترقب حذر، وذعر دائم، كثيرون منهم تحملوا الغزاة، إخوانهم في الدين الأرض؛ وصبروا على أذاهم، وقلة فقط تمردوا؛ وانتصراً للكرامة والعرض، أذل «المتفيدون» الجميع، كسب «الثائرون» أنفسهم، وخسر «الخانعون» كل شيء.

صور الشهيد محمد أحمد نعمان ذلك المشهد المظلم بقوله: «انداحت الأفواج المتلمظة الأفواه، المتحلبة الشفاه، تريد أن تأتي على الأخضر واليابس، لتعوض عن مجاعتها التاريخية، وحرمانها الطويل، ولذلك لم تكن عملية الانتقال من منطقة لمنطقة عملاً عفوياً سمحاً، بل اتسم بطابع الغزو الذي لم يفقد على مختلف العصور مبررات وأسباباً».

حدثت أشهر الغزوات «القبلية ـ الإمامية» في عهد الإمام «الناصر» صلاح الدين بن علي، نهاية القرن الثامن الهجري، الذي وحد القبائل، وقادها «جنوباً» و«غرباً»، في حروب عبثية، ناهبة للأرض، مُذلة للإنسان، ليأتي بعده بـ «150» عاماً، الإمام «الناصر» المُطهر شرف الدين، ويمارس ذات الجنون، بصورة أقل فظاعة.

في عهد «الدولة القاسمية» عاودت قبائل الهضبة غزواتها، وقد ألمح المؤرخ عبد الله الوزير في كتابه «طبق الحلوى» لتفاصيل مُتصلة، وقال في نقله لوقائع العام «1668»، في عهد «المتوكل» إسماعيل، ما نصه: «واشتد القحط بهذه الأيام، فكان بسببه انقطاع طريق العمشية في حرف سفيان، وهيجان دهمة ـ قريب برط ـ وتخطفهم لأطراف بلاد الجوف واليمن الأسفل»، كما اتهم سكان ذات القبيلتين، بالتقطع للمسافرين، ونهب ممتلكاتهم، ناقلاً في كتابه أكثر من حادثة، تؤكد ذلك.

في العام «1702» قام قبليون تابعون لـ «المهدي» محمد «صاحب المواهب» بالتنكيل بأهالي «ريمة» و«وصاب»، ووصلت الخسة بهم بأن قطعوا أذان النساء، طمعاً بالأخراص الذهبية والفضية، وهو الأسلوب الذي كرره «متفيدون» آخرون في «بيت الفقيه»، وغيرها من مناطق تهامة.

في كتابه «مئة عام من تاريخ اليمن الحديث»، نقل المؤرخ حسين العمري تفاصيل الغزوات التي حدثت خلال القرن الثاني عشر الهجري، خلاصة ما جاء فيه: خرجت قبائل «برط» و«حاشد» في عهد «المنصور» حسين «1732»، إلى مدينة «اللحية»، نهبوها وعاثوا فيها خراباً، لتهجم ذات القبائل بعد «26» عاماً، في عهد «المهدي» عباس، على «اليمن الأسفل»، أما قبائل «بكيل» فقد استباحت في العام «1778» منطقتي «ملحان» و«تهامة»، وعملت فيهما قتلاً ونهباً.

خلال الـ «20» عاماً التالية، من عهد «المنصور» علي، قامت قبائل «برط» بـ «7» غزوات، مُوزعة على عديد مناطق من «اليمن الأسفل»، كما قامت قبائل «خولان» بقيادة «أبو حليقة» بغزو «حبيش، وآنس، وعنس، وريمة»، حتى قبيلة «يام» في نجران؛ مارست ذات الجنون، اجتاحت في العام «1729» مدينة «بيت الفقيه»، وعملت فيها أبشع ممارسات النهب والقتل، وكررت ذات الأفعال الشنيعة في العام «1795»، وهي حقائق أكدها أيضاً المؤرخ لطف الله جحاف، في كتابه «درر نحور العين».

العلامة «ابن الأمير الصنعاني»، أبرز مُصلحي اليمن في القرن الـثاني عشر الهجري، عاصر الإمام الطاغية «المنصور» الحسين بن القاسم، وتصدى بقوة لجبروته، وجبروت «قبائل الفيد»، وموروثة حافل بعديد كتب ومكاتبات توثق ذلك، وتأكيداً للتفاصيل أعلاه، نورد ما قاله في إحدى قصائده:
يا ساكني السفحَ من صنعاءَ هل سفحت
لكم على ما جرى في الدينِ أجفانُ
عن اللحية هل وافاكمُ خبرٌ
تفيضُ منهُ من الأعيانِ أعيانُ
تجمعت نحوها من كلِ طائفةٍ
طوائفُ حاشدٍ منها وسفيانُ
وذو حسينٍ وقاضيها وقائدها
درب الصفا وقشنونٌ وجشمانُ
أسماءُ شرٍ وأفعالٌ مقبحةٌ
طوائفٌ مالهم يمُن وإيمانُ
فكم أخافوا وما خافوا وكم نهبوا
وأخربوا فلهم في الأرضِ نيرانُ
في دولة الملك المنصور كم هلكت
بنادر ومخاليف وبلدانُ
لا تنس قعطبةَ إن كنت ذاكرها
فقد أباح حماها قبل قحطانُ
وهل نسي أحد بيتُ الفقيه وقد
صُكت بأخبار يام فيه أذانُ
كم من عزيزٍ أذلوه وكم جحفوا
مالاً وكم سلبت خودٌ وظبيانُ

في القرن الثالث عشر الهجري، أنقلب السحر على السحر، واكتوى الأئمة القاسميون بسعير تلك القبائل، دخلوا صنعاء، وحاصروها أكثر من مرة، وناصروا أمراء طامحين، حتى استنفدوا ما بأيديهم من أموال، قتلوا، ونهبوا، ومارسوا جميع الموبقات، وبرروا اجتياحهم ذات المدينة، بحماية «المذهب الزيدي»؛ من خطر «النواصب»؛ أمثال «ابن الأمير»، ومحمد علي الشوكاني!!.

في العام «1794» ساندت قبائل «بكيل» الأمير القاسمي المُتمرد، علي بن أحمد، وخرجوا معه زاحفين صوب صنعاء، لتدور في «حدة» معارك شديدة، اسفرت عن قتل المئات من الجانبين، انكسرت القوات الغازية، واكملت مسيرها ومعها ذات الأمير صوب «اليمن الأسفل»، وعاثت فيه قتلاً وخراباً.

نقل «الشوكاني» تفاصيل تلك الوقائع، في كتابه «البدر الطالع»، وذكر أن أئمة عصره حاربوا قطاع الطرق، كما شنَّ في كتابه «الدواء العاجل» هجوماً على تلك القبائل، ومن ضمن ما قاله: «غالبهم يستحل دماء المسلمين واموالهم، ولا يحترمها، ولا يتورع عن شيء منها، وهذا مُشاهد معلوم، لا ينكره جاهل، ولا غافل، ولا مقصر، ولا كامل، ففيهم من آثار الجاهلية الجهلاء، اشياء كثيرة يعرفها من تتبعها».

كان «متفيدوا الهضبة» خلال الغزوات السابقة يعودون بالغنائم، يأبون الاستقرار، إلا النادر منهم، وحين حدثت مجاعة بكيل الكبرى «1823» تغير الحال، خرجوا خرجة رجل واحد، كبارهم وصغارهم ونساؤهم متشكلات بأشكال الرجال، وصلوا إلى مشارف صنعاء، نهبوا وقتلوا، ثم توجهوا صوب «اليمن الأسفل»، استوطنوا، وتزوجوا، وتمشيخوا، واستولوا على الحصون العالية، والأراضي الخصبة، وحولوا ملاك الأرض الأصليين إلى «أجراء»، لا «حول» لهم ولا «زرع».

تفرد مؤرخ زيدي مجهول في ذكر تفاصيل تلك الحملة، نشرت فيما بعد في كتاب «حوليات يمانية»، قال فيه أن تلك القبائل كانت قد تألفت أراضي «إب» الخصبة في غزوات لها سابقة، وأضاف: «فلما وصلوا سمارة، وكل واحد طرح عربونه في محل وتقاسموه جميعاً، كأنه خلفه لهم ابوهم ميراثاً»، وكانت تلك المناطق تحت أيديهم أشبه بـ «دولة مستقلة»، حتى أخرجهم سعيد بن ياسين «1840»، إلا أن غالبيتهم عادوا بدعم إمامي لتلك المناطق، بعد هزيمة الفقيه الثائر.

سجل بعض المؤرخين قيام الأئمة بتوزيع قطاعات كبيرة من أراضي «اليمن الأسفل» الخصبة لكبراء تلك القبائل، وقد نشر الشيخ سنان أبو لحوم في مذكراته، صورة لوثيقة قديمة، تؤكد ملكية أسرته لـ «جبل وراف» في إب، سبق وأن أعطي لأجداده من قبل أحد الأئمة القاسميين، وذكر بأن أباه كان يتهمه بالبخل، ويعايره بأنه «ورافي»!!.

تحالف الشر «القبلي ـ الإمامي» سام «الرعية الشوافع» سوء العذاب، أكتوى اليمنيون ـ جميعهم ـ بناره، ولم يجنوا منه سوى الخراب، صحيح أن الأمم الوحشية ـ كما قال ابن خلدون ـ أقدر على التغلب ممن سواها، إلا أنها كما اثبتت الأيام، لا تستطيع أن تحكم أو تتحكم بنفسها أو بسواها.