كمقهى صغير على شارع الغرباء،،،،
هو الحبُّ يفتح أبوابه للجميع.
كمقهى يزيد وينقُصُ وَفْق المُناخ إذا هَطَلَ المطرُ ازداد رُوّادُهُ، وإذا اعتدل الجو قلُّوا وملُّوا”
محمود درويش، ،
لا شك أن المنفى صدمة إنسانية والمقهى حالة ثقافية واجتماعية.
في ثنايا الحلقة الماضية وفي هذه الإطلالة أيضا أحاول تسليط الضوء على المنفى والمقهى والوطن وتمظهرات القلق لدى الإنسان المنفي، وكيف يمضي في مصيره واقداره الجديدة في غربته، بانواعها المتعددة، وكيف تؤثر بتقادم الأيام في ترك أثرها العميق الذي يحدث شرخا غائرا في عمق الوجدان والروح.
واخترت المقهى كنموذج بسيط يشير إلى حضور المكان الجديد في حياة المنفي، وكيف يصبح أحد الفضاءات التي يحلق فيها.
وسوف نستشرف شيئاً من عالم المقهى وعوالم الحب في حياة المنفيين في هذه الإطلالة، وقدرة الاوطان البديلة أن تُحقق الوجود والهُوية لهذه الذوات المهاجرة المنفية القلقة التي ظلت هُويتها معلقة هناك حيث الوطن الأم، يتخبطها الشعور بالإحباط، ومتلازمة العزلة والغربة والابتعاد والتشرد، وكيف لعب المقهى دورا في تخفيف شيء من هذا الوجع القاتل بحضوره الواسع واليومي في تفاصيل حياة المنفي وعلاقاته بالآخرين من خلال الساعات الطوال التي يقضيها فيه، وكيف اكتسب المقهى دلالة جديدة، واصبح حائط مبكى للبوح والفضفضة والتنفيس والنقاش السياسي والحديث في الشأن الوطني وأحيانا مسرحا لخطط واعمال وبيانات وافكار وللشجب واللعن وكل مفردات المعارضة عن بعد..
وكما هو معلوم تاريخيا أن المقهى كان له حضور بارز في حياة الكثير من الزعماء والرواد والأدباء عالميا.
ومع كل اختلاف والتباين في تحديد الزمن والبداية الحقيقية لظهور ظاهرة المقهى، من الإشارات التي تؤكد أن أول مقهى كان في العام 1500 في دمشق عرف باسم حانة قهوة تلاه مقهى البندقية الشهير في إيطاليا.
لكن القاهرة هي من جعلت من المقهى فضاء عاما لكل الشرائح الاجتماعية بعد أن كان المقهى نخبويا في أوروبا.
وإذا كانت القهوة هي اختراع يمني محض عبر أحد أقطاب الصوفية في مصادفة تاريخية مذهلة، ومن اليمن تم تصدير التجربة للعالم فإن مأسسة وتطويع المقهى إذا جاز التعبير هي تجربة مصرية ثم شامية ثانيا.
لقد شكلت مقاهي القاهرة الشهيرة من الفيشاوي الذي ارتاده نابليون، وزغلول وكل زعامات مصر ثم عبدالناصر والسادات لاحقا وكثير من زعماء العالم إلى مقهى ريش كمحطة للأدباء كنجيب محفوظ وغيره شكلت براحا ثقافيا وسياسيا بالغ الأهمية.
ولا تكاد تجد رواية ذات أهمية أو كتابا في شأن الفكر والثقافة والسياسة إلا ويذكر فيها مقهى ما.
ومقاهي مصر الشهيرة فقط بلغ تعدادها أكثر من تسعين مقهى على اختلاف في مناطقها، بينما تعد مصر أكبر بلد في العالم بعدد المقاهي والتي تتجاوز نصف مليون، وتضم أعدادا وجنسيات مختلفة، وتشكل مكان التجمع الاول قبل الحدائق والمولات.
هذه الظاهرة يقابلها في الخليج الديوانية وفي اليمن ظاهرة المقيل، على اختلاف نسبي في الشكل والمضمون.
وظاهرة المنفى ملتصقة بالمقهى وبالادب ومتمازجة أيضا معه وليس ذلك لدى العرب وحدهم، لكن تاريخه عربيا يتعدى أكثر من قرن من الزمان منذ الموجات المتلاحقه للمنفيين العرب، في فلسطين ولبنان ثم العراقيين بعد حرب العراق والتشرد العراقي الكبير ثم بعد ذلك كل دول الربيع العربي بدون استثناء، وزحوف تلك السيول البشرية إلى دول عربية وغربية، وافريقية شكلت واحدة من اكبر ظواهر التشرد في الأرض والهجرات العربية.
وأصبح وطننا العربي وطن المنافي بامتياز، وكانت مصر كعادتها من الدول التي استقبلت الموجات الوافدة بعد حرب العراق، كما كان للجالية السودانية حضور واسع سابق ثم أتت موجة كبيرة من السوريين إلى مصر وهي موجة تحولت إلى طاقة عمل ملحوظة، حيث جاء السوريون إلى مصر يحملون أفكارهم ونشاطهم المعهود فشيدوا مصانع ومعامل ومطاعم ومحلات وشركات تجارية بصورة نشطة حتى إن أحياء كاملة في الجيزة ومدينة أكتوبر باتت وكأنها مدن سورية جديدة.
أما اليمنيون فتاريخهم في الأصل هو تاريخ الغربة منذ مطلع القرن وحين كانت بريطانيا تستخدم العمالة اليمنية للعمل في مناجم الفحم في ظروف بالغة الصعوبة، لا يتحملها بشر، ترهق الأجسام وتؤدي للموت البطيء، لكن اليمنيين كانوا يذهبون فرادى وأفواجا نحو المملكة المتحدة (بريطانيا).
ثم أصبحت أمريكا لاحقا ودول إفريقية كالحبشة وجيبوتي وغيرهما محطة جديدة في تاريخ الاغتراب اليمني، إلى ان أصبح النفط هو المتغير الجديد في المنطقة العربية والطفرة النفطية الخليجية التي أحدثت طفرات كبيرة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي في المنطقة العربية، وأصبحت دول الخليج هي رحلة الشتاء والصيف لليمنيين في مفارقة تاريخية لسياق التاريخ الاقتصادي في الجزيرة العربية وانعكاس اتجاهاته.
ولا شك أن اليمنيين في هذه المرحلة كانوا اكثر العمالة الحاضرة في دول الخليج واسهموا في بناء تلك الدول المتحولة إلى اقتصاديات تجارية هامة واصبحوا مصدرا عالميا للطاقة، رغم هشاشة بنيتها.
وكما يحب عبدالرحمن منيف بتسميتها "مدن الملح" الا ان تاريخا جديدا للاغتراب اليمني قد بدأ وكانت له فوائده على الاقتصاد اليمني لا سيما في فترة الرئيس الحمدي، لكن موجة الغربة في السنوات السبع الأخيرة الأكثر قتامة في تاريخ اليمن الحديث، وهي الاكثر قسوة لانها اولا اجبارية اضطرارية، ولانها ثانيا صعبة ومحبطة وتحتاج كلفة كبيرة لم تكن معهودة من حيث اشتراطات السفر وعوائق الدول المستقبلة وتقلص عددها، بالإضافة إلى انها منفى اجباري في براري وصحاري الضياع والتيه، وغير محسومة بنهايتها فهي مفتوحة على اللانهاية، وثارات مزروعة.
والربط هنا بين المنفى والمقهى ليس اعتباطيا، البتة ويدركه من يتابع ويختلط بأبناء الوطن العربي، ويلتقيهم يوميا على ضفاف المقاهي المتناثرة.
شكل المقهى حضورا بارزا في حياة وتفاصيل الوقت اليومي لكل المنفيين من كل هذه الدول، وكان متنفس المنفى الرئيسي، وفضاء يعطي الفرد مساحة للتطبيع مع واقعه الجديد.
وفي بعض لحظات النشوة يعطيه المقهى فسحا وأماني جديدة وأحاديث ذا شجون.
والمقهى بهذه الوظيفة اخذ دور الحزب والمنتدى ومكان ممارسة طقوس الاعتراض وهواجس الديمقراطية وتقييمات الوضع وانتقاد المعارضين ومن هم في صف الوطن أيضا حد اعتقادنا.
يتسع المقهى بينما تضيق دوائر العيش في الوطن الجديد وتمر ساعاته بين الامتاع والمؤانسة وبين استرجاع الوطن وذكرياته.
وهذا الامر مقتصر على الرجال بينما تغيب الانثى عن المقهى العام، لكي تصنع المقهى الخاص بها، وله شجون مختلف ومتعدد تبدأ بالسياسة وتنتهي في دهاليز المطبخ والموضة، وعوالم المشاهير، وأغاني الوله والحب، تصنع المنفية عادة ما يشبه الصالونات في منازل متعددة مع محيطها وجيرانها، لتشكل بيئة سريعة مع جاراتها وتنسج علاقات اسرع تخفف عليها جروح المنفى وتتعافى سريعا أكثر من الرجال.
"الحب والشعر والأدب في المنفى"
من المقهى انطلقت بعض البدايات الأولى، لكثير من المشاريع الادبية وقصص الحب، حيث يشكل المقهى رحلة اكتشاف لعام المنفيين فمن خلاله تتعرف على مجمل اخبارهم وعوالمهم الجديدة، من خلال البوح الذي يسارع اليه الجميع بصورة تفصيلية تبعث على الدهشة وكان الامر واحة من واحات الاعتراف أو مشاركة وجدانية للحصول على رأي أو نصيحة، أو اقتناص فكرة ما، حيث تتعدد القصص الاجتماعية والتجارية، والحمقى والمغفلين ممن وقع في فخ أو ما شابه، لكن اكثرها إثارة للتشويق هي تلك المتعلقة بالجانب العاطفي وحالات العشق والهيام والحب أو مشاريع الزواج العابرة للاوطان، وهي شائعة وان كانت مخفية في مجملها تحت أغطية التخفي والكتمان لا يكشفها الا المقهى وما يظهر منها لا يشكل حجمها الطبيعي.
ولأنني من الأشخاص الذين يقضون وقتا لا بأس به في المقهى الجامع لجنسيات مختلفة في القاهرة، فإن لدي فرصة لا نهائية للاطلاع على قصص في غاية التشويق، وهو شيء فيه من المتعة لإنسان جبل على التأمل فى الناس اكثر مما فى غرائب الفن والطبيعة.
وخلاصة الأمر، إن هناك فراغا عاطفيا ملحوظا وأنت تتحدث مع أي منفي على المقهى، وكثيرون من يجدون في القلوب الجديدة اوطانا جديدة تعوضهم خساراتهم، وتجلب لهم شيئا من السكينة والاستقرار، فالفراغ قاتل ولا يملؤه الا حب دافق وتجربة بالغة القوة، غنية بالمشاعر دافقة بالاحاسيس.
وتتعدد وتختلف قصص الحب والتي تفضي احيانا إلى زواج، بينما يضيع في منتصف الطريق بعضها الآخر، وقد تكون القصة مع شخص من نفس الوطن لا سيما والمنفى يتيح لأبناء الوطن الواحد علاقات أكثر أريحية مما كانوا عليه في وطنهم، وربما يكون الحب مع شخص من الوطن البديل، ذلك انه بقدر ما تُمثله تجربة المنفى من ضراوةٍ وقسوةٍ على المنفيين فإنها على الجانب المقابل تمنح المنْفيين الكثير من الخصائص المتضافرة، ما بين السّلب والإيجاب، وتعيد اكتشافه لنفسه.
يكثّف المنْفِيّ شعوره بأهميته الشخصية فتتضخم ذاته على مستوى الذاكرة والمخيلة تحديدا، فالمنفى يعمّق من رومانسية الشخص المنفِيّ.
هناك حالات الحب تتبعت ثلاث حالات منها وهي حالات لأصدقاء يمنيين مع زميلات لهم مصريات وحالات أخرى سوريات كما تتبعت حالتين يمنيتين لعلاقة مع شباب مصريين، أثمرت إحداها زواجا.
وتعتبر حالات الحب والرومانسية للمنفيين العرب ظاهرة مكتملة، تستحق التدقيق والبحث، ودراستها عبر علم النفس والاجتماع، فمعظم الذين يتم لهم الفرصة في التعارف بين أفراد الجاليات يوقعون في الحب سريعا، وكثيرا ما شاهدت تتويج ذلك بالزواج لا سيما في الحالات اليمنية، انها حالات التماهي والتوحد بين الحب والمنفى.
ولا شك أن العشق والهيام في المنفى له طعمه المختلف ونكهته الخاصة، وظرفه المختلف، ومن المنفى ثم المقهى أيضا انطلقت مشاريع أدبية وفنون أدبية.
ومن نافلة القول إن الأدب العربي عرف لونا جديدا من الادب عرف باسم ادب المهجر وشعراء المهجر، كانت اوجاع الغربة هي حافزه الرئيس، وتخلقت بداياته على يد الأدباء الفلسطينيين واللبنانيين كونهم الأقدم والأكثر حضورا في منافي العالم، ثم تلاهم ادباء سوريا والعراق وبفضلهم عرفنا هذا اللون الباذخ بالجمال المتعدد والمتنوع اسلوبا وشاعرية بكل اتجاهاته الجديدة، حيث اسس لفاتحة في الرؤية والافق الشعري والبلاغي، وفتح آفاقا في إثراء كلمات ومصطلحات اللغة العربية التي تجمدت لقرون وتوقف ثراؤها، واصبحت معظم مفردات العلم والأدب الجديد في العالم بعيدة عن متناولنا بسبب الفجوة اللغوية، والتي ساعد الكثيرون في بقائها من خلال تمجيدهم المكرور للغتنا العربية دون انتباه انها توقفت عن النمو والحياة.
كان جبران، وايليا، ودرويش ونزار، ومطر، ابرز رموز الجيل المتمرد والتعيس بغربته الحالم بوطنه ومنهم وغيرهم تفتحت مداركنا على الغرب، في مجال الأدب والشعر والثقافة.
كما أن هناك روايات وقصصا بعضها تحدث عن ظاهرة المنفى وجسدها بتفاصيلها وهي كثيرة ولعل من أفضل ما كتب رواية "الحب في المنفى" لبهاء طاهر، والتي تدور أحداثها في بداية الثمانينيات راصدة ما يدور في لبنان قبل وبعد الاجتياح لإسرائيلي بيروت بعين صحافي سرعان ما سيلقى حتفه أثناء قيامه بعمله، وهي تجسد الخيبات التي مني بها العالم العربي عبر شخوص مهزومة تعاني من الاغتراب والإحساس بالعجز، وتلاحقها الفواجع.
ولعلي بهذه الإشارة إلى هذه الرواية وغيرها أفتح أفقا لمن يريد الغوص في تفاصيل المنفى، والمقهى، وحركة الاتصال بالوطن، وحجم العذابات والأوجاع المنثورة، والتي رصدتها تلك الروايات والأبحاث مما لا يسهل الاستفاضة للحديث عنه هنا في مقال عابر....