الأزمة اليمنية.. قصاصة في ملفات أكثر تعقيدا

صحيفة العرب

بعد ست سنوات من الحرب في اليمن، يمكن القول إن معظم الأطراف المحلية قد فقدت القدرة فعليا على إحداث أي تحول نوعي مميّز في مسار هذه الحرب التي باتت على الأرجح في طريقها لتصبح ملفا رثّا على مائدة التجاذبات الإقليمية والدولية وبندا مملا ومستهلكا ضمن أجندات مجلس الأمن الدولي.

فعلى الصعيد العسكري وصل الحوثيون إلى نهاية المطاف في رحلة انتصاراتهم غير المستحقة التي حصدوها نتيجة فشل وارتباك خصومهم وانهماك التيارات المناهضة لهم في صراع داخلي عقيم للفوز بكعكة نصر لم يتحقق، وفي ذات الاتجاه بدا وكأن “الشرعية” قد أوصدت باب آخر معاقلها في مأرب بإحكام في وجه جحافل الحوثيين التي تهاجم المدينة المكتظة بالنازحين تحت شعارات جوفاء مفادها أن الطريق إلى القدس يمرّ عبر كل مدينة عربية ما عدا القدس ذاتها!

ومع فشل الحوثي في تحقيق انتصاره المأمول، الذي كان من المفترض أن يؤهله لاختطاف ورقة الشمال، ما زالت تلوح في أفق التجاذبات اليمنية بوادر صراع قادم بين طرفين أحدهما يحرص على تمثيل الجنوب في أي مشاورات قادمة للحل النهائي، في الوقت الذي يرى طرف آخر في “الشرعية” أن معركة الاستحواذ على هذه المساحات الشاسعة من السلطة والنفوذ في جنوب اليمن لم تنته بعد وإنها ما زالت في بداياتها.

ومن بين ركام هذه الفوضى السياسية والضبابية في المواقف والاتجاهات والتعثر العسكري على مختلف المستويات، يسعى ضابط شاب متحمّس، ومدفوع برغبات الثأر لعمه الذي فشل في حمايته لمرتين، إلى انتزاع بطاقة صغيرة أو حتى قصاصة تؤهله للجلوس على طاولة مشاورات قد يجتمع حولها الكثير من الخاسرين الذين خلفوا وراءهم وطنا مدمّرا وفصائل متناحرة وزعماء حرب متعطشين للسلطة والمال!

وفي منأى عن كل هذه السوداوية التي تجتاح المشهد اليمني من الداخل، لا يخالج كل مراقب حصيف للواقع اليمني وعارف بخفاياه أي شك بأن الأطراف اليمنية لم تعد صاحبة القرار الحقيقي في تحديد مصير بلادها، بعد أن تم تدويل هذا الملف الذي تشابكت مصالح الأطراف الإقليمية والدولية فيه، نتيجة فشل النخب السياسية اليمنية في خلق نموذج وطني حقيقي جامع يلتفّ اليمنيون المتعطشون للدولة حوله أو حتى فرض سياسة أمر واقع تمكن الشرعية من حقها أو تجعل الانقلاب أمرا واقعا.

وعلى وقع التغيّرات المتسارعة في طبيعة الأزمة اليمنية وتحولها نحو الطور الإقليمي والدولي على شاكلة العديد من الملفات الساخنة في المنطقة، يتهيأ ثالث المبعوثين الأمميين إلى اليمن مارتن غريفيث لمغادرة منصبه بعد رحلة حافلة بغياب الواقعية السياسية والمخاتلة والسعي للجمع بين المتناقضات، وإرضاء الأقوياء، في الوقت الذي يمرّ فيه الملف اليمني بواحدة من أكثر فتراته جمودا وضبابية، بعد أن تمكنت التأثيرات الخارجية في هذا الملف من إزاحة عوامله الداخلية ووضعه في قالب أممي بارد من اللاسلم واللاحرب.

وبالرغم من وصمة الفشل التي لاحقت كل محاولات غريفيث للدفع نحو إيجاد حلول شكلية للمعضلة اليمنية، إلا أنه قد نجح إلى حد كبير منذ تعيينه مبعوثا أمميا إلى اليمن في تفكيك خيارات السلام وشروطه، بل إنه أحرز تقدما كذلك في تفكيك خيارات الحرب والحسم العسكري عبر سلسلة طويلة من المبادرات الجزئية التي كان يسعى لتجميعها في نهاية المطاف مثل قطع لغز متناثرة على خارطة التعقيدات اليمنية، لتبدو كوصفة سحرية لإنقاذ بلد يحتضر.

وفي الحقيقة فإن التدخلات والأجندات الخارجية في اليمن تبلورت بشكل صارخ مع مجيء غريفيث الذي عبّر إلى درجة كبيرة عن مصالح دول بعينها ورؤيتها لمستقبل المنطقة وفي مقدمة ذلك بلده بريطانيا التي يبدو أن الفجوة التي كانت تتّسع كل يوم في جدار الأزمة اليمنية قد أغرتها للعودة إلى المنطقة من خلال هذه النافذة المشرعة التي اجتذبت إليها أعدادا متزايدة من التدخلات التي كان آخر مظاهرها الدور الأميركي المتزايد، بعد أن ظلت واشنطن لسنوات تتبنى رؤية التحالف العربي بقيادة السعودية.

ولا يبدو الاهتمام الأميركي المتزايد بالملف اليمني منذ وصول الرئيس جو بايدن بمعزل عن محاولات الإدارة الأميركية الجديدة ترتيب أولوياتها في الشرق الأوسط، وتوفير الأجواء المناسبة التي تساهم في إنضاج رؤيتها لحلحلة ملف الخلاف مع إيران من خلال طمأنة حلفائها حينا وابتزازهم أحيانا أخرى.

وإذا استعرضنا سريعا مسار التعقيدات التي لازمت عمل الأمم المتحدة في اليمن وصلة ذلك بتصاعد الأجندات الإقليمية والدولية، نجد أن فترة المبعوث الأول جمال بنعمر بين عامي 2011 و2015 اتسمت بسعيه للظهور كمبعوث محايد، إلا أن أجندته الشخصية وارتباطه بالمشروع القطري الذي اتضحت ملامحه في ما بعد، تسببا في ردة فعل متوقعة من دول التحالف العربي في اليمن انتهت به بعيدا عن المنصب الذي حلّ فيه المبعوث الموريتاني إسماعيل ولد الشيخ أحمد (2015 – 2018) الذي يمكن اعتباره أكثر المبعوثين الأممين واقعية ومهنية، وهو الأمر الذي تسبب في استهدافه من قبل الحوثيين عبر إطلاق النار على موكبه في صنعاء ومن ثم رفض استقباله، وقد كانت هذه الفرص الضائعة التي غادرت مع بنعمر وولد الشيخ فاتحة لانتقال الملف في جزء كبير منه إلى خارج دائرة التأثير العربي، بعد تعيين غريفيث في هذا المنصب (2018 – 2021).

وعلى الجانب الآخر عمقت حالة ارتهان الحوثيين المتفاقمة للقرار الإيراني من تعقيدات الملف اليمني وتحويله في ما بعد إلى مجرد ورقة في أضابير الخارجية الإيرانية التي يتأبطها محمد جواد ظريف في حوارات فيينا حول الاتفاق النووي بين طهران والمجتمع الدولي، وهي حالة الارتهان الخارجي الأكثر حدّة والتي بلغت مستوى جديدا بعد إعلان النظام الإيراني عن تعيين الضابط في الحرس الثوري الإيراني حسن إيرلو سفيرا لدى الحوثيين في صنعاء.

وفي نهاية المطاف وبعد ست سنوات من الحرب يمكن حشد الكثير من الشواهد المرّة التي تؤكد على أن حل الأزمة اليمنية ليس يمنيا كما كان يتردد طوال السنوات الماضية، فقرار جميع الأطراف اليمنية دون استثناء اليوم، ومصادر تمويلها لم تعد في الداخل، كما أن شروط تسوية هذه القضية باتت مرتبطة بقضايا وصفقات تتجاوز نطاق اليمن الجغرافي والسياسي.

مقالات الكاتب