لا شكّ أن عمليّة تبادل الأسرى بين الحوثيين و”الشرعيّة” اليمنيّة، وهي عملية شملت أيضا الإفراج عن سعوديين وسودانيين كانت تحتجزهم “جماعة أنصار الله”، خبر مفرح. كلّ ما يطلبه اليمنيون، كشعب، وقف القتال كي ينصرفوا إلى معالجة وضعهم المعيشي البائس أوّلا. هناك ملايين من اليمنيين يعيشون تحت خطّ الفقر وتحت رحمة الجوع والمرض. هناك بلد تشظّى بكلّ معنى الكلمة، بلد يحتاج إلى صيغة جديدة من أجل إعادة تركيبه أو تشكيله.
لا شكّ أيضا أنّ عملية تبادل الأسرى ثمرة من ثمار الاتفاق السعودي – الإيراني الذي وقع في بيجينغ في النصف الأوّل من آذار – مارس الماضي، وهو اتفاق يكتسي أهمّية خاصة، على الصعيدين الإقليمي والدولي، في ضوء الرعاية الصينيّة له.
ما يبدو أكيدا، أقلّه في المدى المنظور، أن عملية تبادل الأسرى مقدّمة لهدنة بين “الشرعيّة” والحوثيين وبين الحوثيين ودول الجوار. ما ليس أكيدا هل تمهّد الهدنة لحل سياسي في اليمن يكون الحوثيون، الذين ليسوا سوى أداة إيرانيّة، جزءا منه؟
الخوف، في ضوء تجارب الماضي القريب، أي منذ الانقلاب الذي نفذه الإخوان المسلمون والذي توج باستقالة الرئيس الراحل علي عبدالله صالح في شباط – فبراير 2012، أنّ الحوثيين كشفوا أنّ لديهم مشروعهم لليمن. يتمثل هذا المشروع في السيطرة، انطلاقا من صنعاء على جزء من البلد في غياب العجز عن السيطرة عليه كلّه كما كانوا يأملون. صحيح أن لا مشروع حضاريا أو اقتصاديا للحوثيين، لكنّ الصحيح أيضا أن لدى هؤلاء مشروعهم السياسي واضح المعالم الذي يشبه إلى حد كبير مشروع “حماس” في قطاع غزّة. المهمّ بالنسبة إلى “حماس” بقاء القطاع تحت سيطرتها. أما أن يجد الغزاويون طعاما وفرص عمل، وأن يتخلّصوا من الحصار، فهذا أمر آخر…
سيستفيد الحوثيون من كلّ الإجراءات التي ستترافق مع الهدنة. سيستفيدون من فتح المطارات والموانئ. سيستمر مدهم بالأسلحة الإيرانيّة التي لن تعود هناك حاجة إلى تهريبها عبر طرق وموانئ غير شرعيّة. في النهاية، سيأتي يوم سيكون فيه السؤال ماذا بعد الهدنة وهل من أمل في حل سياسي للأزمة اليمنيّة… أم سيبقى الحوثيون في المنطقة التي يسيطرون عليها فيما تستمر “الشرعيّة” تعاني من حال التشرذم التي تعاني منها؟ إنّها “شرعية” برؤوس عدة. يمتلك كلّ رأس في هذه “الشرعية” حسابات خاصة به. لا قاسم مشتركا بين كل هذه الحسابات.
الواضح أنّ إيران تستعد هذه الأيّام لمرحلة ما بعد إعادة العلاقات الدبلوماسيّة مع السعوديّة. الأهمّ من ذلك كلّه أنّه يخشى من سعيها إلى فرض أمر واقع في اليمن. من يستعرض، وإن سريعا، كيف تحرّك الحوثيون في اليمن منذ الانقلاب الذي نفذه الإخوان المسلمون على علي عبدالله صالح في العام 2011، يكتشف أنّ هؤلاء استغلوا دائما كل الفرص التي أتيحت لهم أفضل استغلال وصولا إلى وضع اليد على صنعاء في 21 أيلول – سبتمبر 2014. في كلّ ما قام به الحوثيون، كان الإخوان المسلمون حليفهم الأوّل من تحت الطاولة أو من فوقها.
كان الكلام المتداول، مباشرة بعد توقيع البيان السعودي – الصيني – الإيراني عن أنّ التركيز سيكون في البداية على اليمن. هذا الملفّ يهمّ الرياض قبل أي ملفّ آخر. كلّ ما يمكن قوله الآن، على الرغم من عملية تبادل الأسرى إنّ هذا الملفّ شائك إلى أبعد حدود. نعم، الملفّ شائك إلى أبعد حدود نظرا إلى أنّ “الجمهوريّة الإسلاميّة” لا تبدو مستعدة لتقديم تنازلات حقيقية في اليمن تتناول مناطق سيطرتها. في الحسابات الإيرانية، تمثّل المناطق اليمنية التي تسيطر عليها “جماعة أنصار الله” كيانا مستقلّا تحت سيطرة “الجمهوريّة الإسلاميّة” لا مجال للتخلي عنه. سيكون اليمن الامتحان الأول لمدى صدق إيران في تعاطيها مع المملكة العربيّة السعوديّة، عبر الصين. كذلك سيكون امتحانا للصين نفسها ومدى جدّيتها وأهمّية دورها.
هل التصعيد العسكري الحوثي الذي سبق عملية تبادل الأسرى أمر تكتيكي أم أنّه جزء من إستراتيجية إيرانيّة تتجاوز اليمن وتصل إلى الوجود العسكري الأميركي في سوريا… أو إطلاق صواريخ من جنوب لبنان بذريعة أنّ “حماس” وراء إطلاق هذه الصواريخ؟
من هنا أهمّية اليمن في معرفة نيات “الجمهوريّة الإسلامية” ومدى التزامها بما ورد في البيان الثلاثي عن “احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخليّة”. أكثر من ذلك، سيتبيّن في الأيام والأسابيع المقبلة هل تكون الهدنة المتوقعة في اليمن مجرّد استراحة محارب بالنسبة إلى الحوثيين وما يمثلونه والمشروع الذي تحدث عنه زعيمهم في الأيام التي تلت مباشرة وضع اليد على صنعاء. وقتذاك، قال عبدالملك الحوثي، ما معناه، أنّ نظاما جديدا قام في اليمن على أنقاض النظام الجمهوري الذي ولد من الانقلاب العسكري الذي وقع في 26 أيلول – سبتمبر 1962.
في ظلّ ما يجري منذ استيلاء الحوثيين على صنعاء قبل أقلّ بقليل من تسعة أيّام، استفاد هؤلاء من تعثّر “الشرعيّة”. نفّذوا في الوقت المناسب عملية اغتيال استهدفت علي عبدالله صالح الذي كانوا يعرفون أنّه خصم لدود لهم. غاب علي عبدالله صالح في أواخر العام 2017، يوم الرابع من كانون الأوّل – ديسمبر تحديدا. تبيّن، في ضوء الجريمة الحوثيّة، أنّ كلّ الحروب التي شنت على علي عبدالله صالح، بما في ذلك العقوبات الدولية التي شملت أيضا ابنه أحمد، صبّت في واقع الحال في مصلحة الحوثيين وإيران التي تقف خلفهم. أين المنطق في استمرار هذه العقوبات؟
يحتاج اليمن في الوقت الراهن، في ضوء عملية تبادل الأسرى إلى مقاربة مختلفة تأخذ في الاعتبار أنّ موازين القوى يجب أن تغير بكلّ الوسائل المتاحة. في غياب مثل هذا التغيير، الذي ليس مطلوبا بالضرورة أن يكون عبر الوسائل العسكريّة، لن تكون الهدنة سوى استراحة محارب للحوثيين لا أكثر.