آخر تحديث :الإثنين-06 مايو 2024-12:25ص

لا مجانين في الأرض !

الإثنين - 04 سبتمبر 2023 - الساعة 01:37 ص

ماجد الداعري
بقلم: ماجد الداعري
- ارشيف الكاتب


نصف ذكريات حياتي الجميلة تجمعني مع مجانين، سواء بعدن او بصنعاء، لكن للأمانة فان مجانين عدن،أكثر طيبة واحترامًا، و قناعة بالحياة. 
ولذلك، أكِنُ للمجانين عمومًا، معزة خاصة في قلبي إلى درجة باتت معها قناعتي شبه يقينية بعدم وجود مجانين حقيقة في الأرض، و إنما (متمجننين) لاغراض العمل، وبحكم طبيعة المهنة.

و أذكر لكم هنا قصتي مع ثلاثة مجانين كانوا يداوموا ليل ، نهار أمام بوابة صحيفة الوطني بالتواهي عدن، حينما كنت يومها في بدايات حياتي الصحفية، كسكرتير تحرير للصحفية بين الأعوام (٢٠٠٦-٢٠٠٨) تقريبًا، وكان معروف سقف الصحيفة المتهور يومها، والذي لم تكن هناك صحيفة لتجرؤ على ان تضع كلمة (الإحتلال اليمني) التي ترد ببيانات الحراك الجنوبي، بالبنط العريض بواجهتها، وعناوينها نتيجة القمع، والاعتقالات، والمحاكمات الصحفية التي انتهينا إليها جميعًا بمحكمة الصحافة والنشر بصنعاء، نحن طاقم الصحفية، ومعنا كتاب أيضًا، لا نعرفهم، ولا نعرف لهم عنوانًا، وكانوا ورطتنا الكبيرة يومها أمام المحكمة، وهو ما استدعى مقاطعة رئيس التحرير عبدالرقيب الهدياني - المغيب اليوم إعلاميًا، عجل الله ظهوره - لجلسات المحاكمة نهائيًا، وهذا موضوع يحتاج منشورات لحاله، سأدعه لوقت آخر واعود بكم إلى قصة المجانين الثلاثة أمام بوابة الصحيفة، حيث تعمدت ان اشارك المناوب منهم، الأكل معي احيانًا، او أن أقسم له نصيبه مع قليل من القات، والماء البارد من الثلاجة، وخاصة حينما يأتيني أكل وقات من ضيق ما، أو صديق عزيز، ممن كانوا يترددون علينا للمقيل بالصحيفة، وهم كثر، وقد أصبح منهم اليوم، مسؤولون ومحافظون، وقادة عسكريين بحجم وطن، وممن لا يشق لهم تراب..

المهم انني كوّنت علاقات جيدة مع المجانين، لطبيعة حرصي على التعامل الطيب مع الجميع من جهة
ولثقتي أنهم مكلفين بمهام أمنية تخص الرقابة على الصحيفة، ومن يدخلها وماذا يجري فيها، وغيرها من جهة أخرى.


ولأن الطيبة والاحترام هما الاصل في التعامل، فإن العيش والملح لا يهون، إلا على أرذل الناس، بينما ابن الحلال يبقى أصيلًا تحت أي ظروف كانت لا يمكن أن يتغير، او يتنكر.
لذلك، أقسم لكم بالله العظيم أن اثنين منهما كانا يحرصان على ان يعطوني إشارة بمغادرة الصحيفة فورا، عند أي خطر أمني، وقبل أن يأتي الطقم العسكري إلى باب الصحيفة..

صحيح انهم لم يخبروني بالأمر، وكانهم عقال، او يكشفوا فجأة عن عقلهم، وإنما بحركات يفهمها اي عاقل، وحتى انني ذات مرة كنت عائدًا من السوق، بعد أن تعشيت، وتجهزت لليلة مرثونية طويلة لإخراج الصحيفة مع المصمم الاخراجي معاذ الشيباني، الذي كان لا يأتيك يومها، إلا بعد ال١٢ ليلًا، وقد استنفذت كل طاقاتك، واهدرت كل قدراتك، وبحكم اني كنت المقيم داخل الصحيفة لوحدي اغلب الأيام، لذلك فقد تفاجأت بأحد المجنانين الطيبين من الثلاثة المكلفين بمراقبة الصحيفة، يقف امامي بطريقي لباب الصحيفة، وهو يقوم بإشارات تنبيهية، بهلوانية لم أعرها أي اهتمام يذكر، مادفعه ولأول مرة إلى الجلوس بباب الصحيفة، ومنعي من الوصول إليها بشكل بعث عندي الخوف والقلق منه وتصرفاته، معتقدًا انه قد يكون زعلانًا أو جائعًا يريد أن يعاتبني على العشاء لوحدي،


وحينها توقفت، وتلفت يمينًا ويسارًا، و وجدت صاحبه الاخر موجود أمامه بالجهة الأخرى من الشارع الفرعي، وكان هو الآخر يعطيني إشارات أيضًا، بأن علي ان أغادر المكان  فورًا ، أو بالصنعاني "رح لك من هانا"، لأقرر الانسحاب إلى طاولات مطعم كان قريبًا من الصحيفة، و أتابع ماذا يريد أصدقائي المجانين أن يوصلوه لي بالضبط يومها..

وماهي إلا لحظات حتى وصل طقم عسكري بأسرع سرعة، لم أعرف هويته بسبب الظلام حول المكان يومها، ولكني صُدمت بتقافز عسكر يرتدون خوذات على رؤوسهم، وبعضهم كانوا ملثمين لا يعرف لهم ملمحًا، وتوجيه أسلحتهم نحو بوابة الصحيفة، وكأنهم في مهمة اعتقال خلية إرهابية في غاية الخطورة، وأنا أشاهد مايجري عن قرب، وارتعب، وكأني أعيش كابوس حلم مرعب، جعلني أهم بأي الطرق أقرب لمغادرة المكان،دون رجعة تلك الليلة التعيسة..

قبل ان اتمكن من الانسحاب التكتيكي إلى الدور الأعلى من المطعم لمتابعة تفاصيل ما جري، شاهدت أحد العسكر وهو يطرق باب الصحيفة بقوة، قبل أن يتدخل زميل اخر له، لدقه بعقب بندقيته بكل قوة أيضًا، واستمرا بضع دقائق ، حتى توصلوا لقناعة بعدم وجود أحد بالداخل..

فكان عليهم أن ينهوا المهمة الأمنية الفاشلة، برمي المجنون الذي منعني من الدخول فوق الطقم، وكانه شوالة كدم، قبل أن ينسحبوا من المكان الذي ضاق بي، ولم اعرف طريقًا آمنًا للانسحاب منه ; كون المكان كان شبه محاصر، وان كان العسكر لا يعرفوني.

وبعدها، أبلغت الزملاء بما جرى، واتفقنا على تأجيل إخراج العدد، إلى الغد، وحتى نتدارس التهديد الأمني الغير مسبوق لحياتنا، وللصحيفة، وحرصت على ان أدعو الله من أعماق قلبي ان يحفظ ذلك المجنون الذي رجُم فوق الطقم بكل قسوة، وان يخفف عنه أي عذاب، او عناء لأني أدركت حينها أنه سيدفع ثمن فشل المهمة بكل تأكيد، كون ثالث المجانين اللئيم، الذي كان مداومًا نهارًا يومها ، هو من يقف خلف البلاغ الذي أبطله المجنون المعتقل، فرج الله همه.

لذلك فقد أيقنت من يومها بأن لا مجانين حقيقة بالأرض، وإنما بتمجننون حسب طبيعة العمل، والمهمات التي يُكلفون بها،
وان علينا حسن التعامل معهم من منطلق إنساني اولًا، وحتى نتجنب أي ردات فعل سيئة لهم ثانيًا.