آخر تحديث :السبت-27 أبريل 2024-09:18م

الجنوب العربي في عام الاستقلال الثاني

الثلاثاء - 02 يناير 2024 - الساعة 01:07 ص

هاني سالم مسهور
بقلم: هاني سالم مسهور
- ارشيف الكاتب


الدولة الجنوبية.. هل تكون سنغافورة الشرق
في نهاية عام 2023 يكون الجنوبيون قد أنجزوا أحد أهم أركان دولة الاستقلال الثاني، الميثاق الوطني الذي أقر في العاصمة عدن وشكل حجر الزاوية الرئيس في بناء الدولة الوطنية الثانية. الاستحقاقات السياسية التي أنجزتها الحركة الوطنية وإن هي جاءت في معتركات صعبة، إلا أنها أكدت على أن مسار الوصول إلى الإنجاز الأهم بإعلان بيان الاستقلال الثاني بات حقيقة، ووجب التعامل معها على أنها أهم الاستحقاقات على الإطلاق.

ولم تعد هذه الحقيقية اللحظية حالمة بمقدار ما هي واقعية، ولذلك فإن السياسيين العرب عليهم النظر إلى ما يحتمله ميلاد الدولة الجنوبية وعليهم أن يوفوا لها، كما أن على الجنوبيين أنفسهم أن يكونوا أكثر موضوعية مع متطلبات اليوم التالي من الاستقلال الثاني.

منذ أن وقّع المجلس الانتقالي الجنوبي اتفاق الرياض عام 2019 دار في أوساط المفكرين الجنوبيين تساؤل محوري حول مدى قدرة دولة الاستقلال الثاني على احتضان جبهة وطنية يمنية شمالية. هذا المفهوم العميق كان محلّ حوار طويل لموضوعيته، ولما يحتمل من قدرة صلبة على تكرار تجربة دولة الاستقلال الأول.

تعلمنا في مسيرة الحركة الوطنية الأولى كما الثانية، أن الحوار مفتاح لبلوغ الأهداف الكبرى، وهذا الحوار يجب أن يتواصل حتى ما بعد اليوم التالي للاستقلال الوطني

فالجنوبيون كانوا على إدراك بأن هذا الاستحقاق يجب التعامل معه بعد تحرير عدن في يوليو 2015، أيّ بعد خمسة أشهر فقط من انطلاق عملية “عاصفة الحزم”، لم يكن ذلك الاستشراف مجرداً بل كان واقعياً وشكل مساراً نضالياً ممتداً من انتفاضة المكلا في 1997 ومروراً بـ”التصالح والتسامح” في 2006 ووصولاً إلى إعلان عدن التاريخي في 2017.

الجنوبيون وضعوا أرضية وطنية كانت دائماً تحت اختبارات صعبة بل ومعقدّة للغاية. فالضغوط القاسية فرضت نهجاً براغماتياً للتعامل معها بمقتضيات كل مرحلة تحمّل فيها الشعب الجنوبي الثقل الأكبر، نظراً إلى الحالة المعيشية التي فرضتها قوى النفوذ اليمنية التي كانت شريكاً في الحكومات، بموجب ما اقتضته الاتفاقيات بين الانتقالي والقوى السياسية اليمنية.

والأشد من ذلك كانت الكلفة التي تكبدها الجنوبيون مع استمرار عمليات الاغتيال التي طالت القيادات العسكرية والأمنية والسياسية، وهي سلسلة بدأت من العام 1990 بعد أشهر من توقيع الرئيس السابق علي سالم البيض مع رئيس الجمهورية العربية اليمنية علي عبدالله صالح على الوحدة اليمنية.

اختبار صلابة العقيدة الوطنية الجنوبية ظل مسنودا بحليف إستراتيجي إقليمي كانت فيه دولة الإمارات العربية المتحدة ظهراً قوياً مع كل مرحلة. فالتحديات الأمنية شكلت رابطاً مشتركاً بين أبوظبي وعدن، وتحرير المكلا في 2016 من تنظيم القاعدة وما تلاها من تطهير محافظات لحج وأبين من داعش دفع بالإماراتيين إلى إسناد الجنوب لتشكيل الأحزمة الأمنية والنخب العسكرية الحضرمية والشبوانية، وهذه التشكيلات لعبت أدوراً متقدمة في الشراكات الإستراتيجية لكلا القيادتين الإماراتية والجنوبية على قاعدة محاربة الإرهاب، ومنها توسعت نطاقات التعاون في مساهمة تأسيس البنية التحتية الاقتصادية للجنوب الذي دمرت بنيته بالكامل من بعد احتلال عام 1994.

في عام 2023 شكلت الدبلوماسية الجنوبية وجهاً آخر من الفعل السياسي.. لندن ونيويورك وواشنطن وقبلها كانت موسكو محطات رئيسية للتواصل مع القوى الدولية الكبرى، وبموازاة ذلك كانت القاهرة وعواصم عربية متعددة جسوراً أخرى تعرفت على أهمية القضية الجنوبية في التكوين السياسي العالمي. ومع كل هذا الفعل كان الفعل على الأرض الجنوبية نفسها من خلال هيكلة المجلس الانتقالي الجنوبي وهيئاته وتفعيل مؤسساته الداخلية، جزءا آخر في الاعتماد على دماء شابة واستيعاب أكبر قدر من المؤهلات لاستيعاب حتمية العمل لليوم التالي من الاستقلال الوطني.

المشهد الأخير في جنوب البحر الأحمر وباب المندب، بعد أن شنت جماعة الحوثي هجماتها الصاروخية وإطلاقها للطائرات المسيّرة على السفن التجارية، وإن فرضت إعادة النظر حول القضية الجنوبية باعتبارها فرصة عالمية، كما صاغها مايكل نايتس من معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، تكرّر نموذج كوريا الجنوبية، وهي في واقع الحال نظرة متأخرة في واقعية ما كان يجب الوصول إليه منذ ما يقرب من العقد على أقل تقدير.

إن السياسيين العرب عليهم النظر إلى ما يحتمله ميلاد الدولة الجنوبية وعليهم أن يوفوا لها، كما أن على الجنوبيين أنفسهم أن يكونوا أكثر موضوعية مع متطلبات اليوم التالي من الاستقلال الثاني

ومهما يكن فهناك نظرة مختلفة معززة في أكثر من اتجاه لصواب ما يجب الذهاب إليه، وما يفترض أن يتحمله المجتمع الدولي تجاه هذا الاستحقاق السياسي في الشرق الأوسط ،على اعتبار أن هذه الدولة الجنوبية يمكنها أن تلعب دوراً في استعادة ما كانت مسؤولة عنه من بعد الاستعمار البريطاني، بتأمين أحد أهم ممرات الملاحة العالمية، كما أن عدن نفسها يمكن أن تكون سنغافورة الشرق كما كانت من قبل درة للتاج البريطاني.

ومع هذا الاستحقاق الموضوعي، تتطلب المهمة الداخلية استيعاباً لما قدمه رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي اللواء عيدروس الزبيدي باحتضان القوى اليمنية الشمالية لتكون الأرض الجنوبية أرضاً لجبهة العمل الوطني الشمالي لمواجهة جماعة الحوثي. وهنا يبدو المشهد جليّاً مكشوفاً بواحدية العدو، وتعريف اليمن ككيان سياسي بواقعية تكوينه السياسي في عام 1962.. أي أن الجمهورية العربية اليمنية دولة تخوض معركة استعادة لهويتها السياسية. وهذا التعريف مهمّ كمدخل للتعامل الدولي والعربي مع صنعاء كدولة، وليس كجماعات أيديولوجية متناحرة، وهو ما يقتضي مهامّ على اليمنيين الشماليين القيام بها، كما سبقهم الجنوبيون إلى ذلك، وهي مهام تتطلب تخففاً من الانتماءات ذات النزعة الدينية، سواء كانت إخوانية أو حوثية.

استوعبت قوى الجنوب واقعها، وعملت كثيراً حتى وصلت إلى أرضيات التفاهمات الوطنية الداخلية. ويبقى التحدي مع عام الاستقلال الثاني في أن تتكرّس الهوية الوطنية والانتماء القومي العربي، وإطلاق روح التسامح والتعايش ومدّ الجسور إلى دول العالم بكل الثقافات والهويات والأديان، مع توسيع الشراكات مع الهيئات والتنظيمات لرفع معدلات التعليم والتأهيل.

الجنوبيون كانوا أصحاب دولة وطنية صحيحة بعد استقلالهم الأول، وهم قادرون على استعادة ما تبقّى من تلك الهوية، مع الأخذ في الاعتبار نبذ أفكار التطرف التي لا يمكن إنكار وجودها في المجتمع المحلي.

لقد تعلمنا في مسيرة الحركة الوطنية الأولى كما الثانية، أن الحوار مفتاح لبلوغ الأهداف الكبرى، وهذا الحوار يجب أن يتواصل حتى ما بعد اليوم التالي للاستقلال الوطني، فهذه درجة رفيعة أوصلت البلاد إلى ما بلغته من استحقاق يوجب على العرب والعالم احترامه وتقديره ودعمه، باعتباره واحدا من أهم حركات التحرر الوطني نبلاً وشرفاً وإلهاماً لشعوب الأرض في نيلها للحرية في القرن الحادي والعشرين.