آخر تحديث :الأحد-12 مايو 2024-10:55ص

بين العلم والاعتقاد ومعنى الحقيقة

الأحد - 28 أبريل 2024 - الساعة 01:13 ص

د. قاسم المحبشي
بقلم: د. قاسم المحبشي
- ارشيف الكاتب


لطالما حيرتني تلك الفكرة التي موادها؛ إذا كان الواقع المرئي المحسوس الملموس واحدا لجميع سكان العالم فلماذا يختلفون في رؤيته وتفسيره وتأويله وفهمه؟ فكيف سيكون حالهم مع النصوص التي تتحدث عن عوالم غير مرئية ويستحيل التحقق من وجودها بالحواس المجرد؟ وهكذا كل يوم تزداد حاجتنا الى الجشطالتية اقصد النظرة الكلية للكون والله والعالم والتاريخ والحضارة والمشهد الراهن للعالم الذي بات أشبه بالقرية الكونية الصغيرة بفضل ثورة المعلومات والاتصال التي أنجبت العولمة بعد إنكماش الزمان والمكان وتقارب الناس وتداخل المصالح وتزايد الاتصالات والارتباطات بين البشر افراد وشعوبا ودول وثقافات وحضارات وتشابك المجالات المحلية والأقليمية والعالمية والتفاعل والتأثير والتأثر بين الجميع في خضم هذا العالم المعولم. هذا التحدي الوجودي التاريخي يستدعي استجابة عقلانية في تغيير البارادايم أي نمط الرؤية الكلية للعالم بتشابكاته إذ إن الحقائق لا توجد في جوف النصوص والكلمات كما توجد البذور في الثمار ، بل إن الحقائق توجد باتفاق وتواضع الناس عليها، فإذا ما اتفق جماعة من الناس واعتقدوا إن ما يفعلونه أو يفكرون به هو الحقيقة ذاتها بحسب باراديم رؤية وتأويل محدد للعالم والأشياء والكلمات والدلالات والرموز والنصوص. فلا شيء يحول دون اعتقادهم بإن ما يرونه هو الحقيقة عينها! ولكل جماعة من الناس الحقيقة التي ترتضيها لنفسها وتعتقدها كذلك فمن يعتقد أن البقرة آلهه لا يشك في صحة اعتقاده لحظة واحدة وإلا لما اعتقد بِه اصلا! ومن يعتقد بشي يراه حقيقة ولا يراه باطلًا أبدًا ولا بطل اعتقاده وهذا هي طبيعة المعتقدات وتحولاتها في كل زمان ومكان
من الطواطم البسيطة حتى المجردات المتعالية. والناس يسلكون وفقا لما يعتقدون، فإذا اعتقدت أن هذا العالم مسكون بالجن والشياطين فلن تجرؤ على الخروج من بيتك وإذا اعتقدت إن بيتك مسكون بالأرواح الشريرة فلن تستطيع النوم فيه، وإذا أعتقدت أنك المدافع الأمين عن دين رب العالمين فسوف ترى بكل من يخالف اعتقادك كفرة وشياطين ومؤاهم النار وبؤس المصير! وإذا اعتقدت أن الناس في ضلال عظيم وأنك معني بهدايتهم إلى الطريق القويم فأمامك خيارين؛ الأول هو إقناعهم بالتي هي أحسن وجعل من ذاتك مثلا اعلى للزهد والتقوى والصدق والاستقامة والأمانة والتواضع والصبر والشفقة والرحمة والتسامح والعدالة والرحابة وكل القيم الفاضلة الجاذبة للناس لجعلهم يقتدون بك. والثاني؛ أن تشحذ سيفك وتعلن الجهاد تحت أي رأيه تحبها حتى تتمكن من جعل الجبناء من الناس يؤمنون وهو صاغرون لكنهم غير مقتنعين وسيظلون يتحينون الفرصة للثأر والانتقام منك ومن جماعتك ومعتقداتك . وهكذا تتغذى الحروب الأيديولوجية من داخل دائرتها المغلقة. هذا في مجال الاعتقادات والاراء والأفكار الأيديولوجية التي لا تحتمل القياس والبرهان التجريبي، أما في العلم والمعرفة العلمية فالحقائق يجيب أن تكون موضوعية ومحايدة ومختبرة ومجربة في عالم الممارسة والمشاهدة بالاستقراء المباشر والبرهان العقلي الواضح ؛ فالقول بإن كل الغربان سوداء، يمكن أبطاله إذا ما أكتشفنا إن بعض الغربان بيضاء. والقول: إن كل البشر حيونات عاقلة ، لا يمتلك قوة الحقيقة العلمية طالما وأن الكثير من البشر لا يتصرفون بحسب معايير العقل والحس السليم. وهكذا هو الحال دائما مع الناس والمعرفة: العلم واحد والرأي كثير! وتكمن إنسانية العلم وحياديته في ذلك الاتفاق المدهش بين الجميع من مختلف الشعوب والحضارات واللغات والثقافات والأديان بشأن وحدته المنهجية والنظرية شكلا ومضمونا إذ أن 1+1=2، ومجموع زوايا المثلث ١٨٠ درجة. والخط المستقيم هو أقرب مسافة بين نقطتين. والماء يتكون من ذرتي هيدجين وذرة أكسجين. ولَكل فعل رد فعل مساوي له بالقوة ومضاد له بالاتجاه ، ولا شيء يحدث بدون سبب من الأسباب ، ولا تشتغل السيارة الا بالوقود والكهرباء وقس على ذلك حقائق العلوم الوضعية التي تتميز بالموضوعية والشمولية والوحدة في الصين أو في امريكا أو في اسرائيل أو في العراق ,الجميع يدرسون ذات العلوم والنظريات والقوانين العلمية بذات الطرق والاساليب ,بينما يكمن الخلاف والاختلاف والتنافر والتباعد بشأن الاراء والمعتقدات والايديولوجيات بما فيها من ديانات واعتقادات ومقدسات وتشريعات سماوية ووضعية وعادات وتحيزات ثقافية ,وسياسية هنا بالذات سوف نجد أن الخطابات تعلو وتنخفض والاصوات تحتدم وتهدى حينما يتم التعبير عنها ,وكلما كان المرء غير واثق من الاشياء التي يتحدث عنها كلما زادت نبرة صوته ارتفاعا ,وكلما افتقد المرء للبراهين والحجج المقنعة ,كلما زاد صراخه في تأكيد آراءه ومعتقداته الأيديولوجية بينما لايحتاج عالم الرياضيات أو الكيمياء أو الفيزياء الى الصراخ والاصوات العالىة للتعبير عن حقائقه وقوانينه العلمية. فالصمت هو سيد العلم الحقيقي والضجيج هو سيد الاعتقادات الايديولوجية الزائفة . ولكن ليس هناك إلا طريقتان لتوصيل افكارنا الى الأخرين :أما أن تجبرهم على قبولها بالتهديد والتخويف والوعد والوعيد وأما أن نجعلهم يقتنعون بها بقوة البرهان والاقناع المتولد تفكيرهم الذاتي ومن أرادتهم الحرة بدون جبر أو اكراه. وهناك فرق بين السياسي والواعظ والعالم؛ الأول يدعو الناس إلى الثورة وتغيير وضعهم والثاني يدعوهم إلى الصبر والقناعة والاحتساب إلى الله سبحانه وتعالى إذا كان رجل دين حقا وليس سياسيا والثالث يبتكر الادوات العلمية والتقنية الكفيلة بتخلص الناس من الفقر والجهل والمرض وتغيير الوضع برمته. وفي تمييزه بين الاختلاف الحقيقي والزائف كتب الفيلسوف أحمد برقاوي ما يلي" لو سأل سائل: أين تسكن الأشباح ومتى تظهر؟ فهذا سؤال زائف، وكل الأجوبة عنه زائفة، والاختلاف زائف، والمشكلة الناتجة عن الأجوبة زائفة.
ولكن لو سألنا: ما تفسير اعتقاد بعض الأفراد بوجود الأشباح؟ فهو سؤال حقيقي لأن بعض الأفراد يعتقدون بوجودها ويتحدثون عنها، والأجوبة عن هذا السؤال مرتبطة بعلم النفس المرضي الذي يفسر هذه الظاهرة بوصفها ظاهرة مرضية، أو يفسرها علم التحليل النفسي ويردها إلى نوع من الأحلام.. إلخ. وقس على ذلك.
وتواجهنا مشكلة من أعقد المشاكل وأخطرها ألا وهي الاختلاف الأيديولوجي الزائف المرتبط بالتعصب الذي يفسد الرأي العقلي.
فنحن نشهد مثلاً اختلافاً حول تقويم شخصية تاريخية قامت بدور مهم في التاريخ بين رأي إيجابي، وآخر سلبي، انطلاقاً من انتماءات تعصبية طائفية، وليس اختلافاً يستند إلى مناهج علم التاريخ. فكل اختلاف مرده إلى تعصب أيديولوجي هو اختلاف زائف.
والأخطر من ذلك حين يصبح هذا الاختلاف الأيديولوجي أساساً لصراع مسلح، وحجة للدفاع كل عن سرديته الماضية التي لن تعود أبداً."
وهكذا هو الحال دائما مع الناس والمعرفة. والفلسفة بوصفها ربيبة الدهشة وحكمة المعرفة هي المعنية دائما بتحطيم الأوثان؛ اوثان العقل ذاته وذلك بنقدها وبيان تارخانيتها عبر المزاوجة بين ملاحظة سلوكاته الذاتية” وسلوكات” الموضوعات الخارجية التي يسعى إلى تعقلها ومنحها المعنى وهذا ما يسمى بمنهجية الوعي الانعكاسي المتمثل في مراوحة العقل بين ادراك العالم وتمثله مفهوميا ثم قدرة العقل على وعي ذاته وتطهيره من الأوهام والأوثان وتلك هي وظيفة الفكر النقدي بوصفه يقظة العقل الدائم التساؤل والاندهاش. خذ أي مفهوم تاريخي كلي وحاول أن تفهم دلالته الحقيقية في سياقاته المتعينة مثل مفهوم ثورة. جاء في لسان العرب لأبن منظور أن «ثار» الغبار سطع، و«أثاره» غيره، و «ثوّر» فلان الشر هيّجه وأظهره، و «الثور» ذكر البقر، و الأنثى «ثورة»، و «الثور» برج من أبراج الفلك. وعلى صعيد الاستخدام، تُطلق كلمة ثورة على ظواهر وأشياء عديدة ومختلفة، طبيعية وتاريخية: ثورة البراكين، ثورة الغضب، ثورة أسبارتاكوس، ثورة الزنج، الثورة الزراعية، الثورة الصناعية، الثورة الزراعية في ألمانيا، الثورة الإنجليزية، الثورة الفرنسية، الثورة الأمريكية، الثورة البرجوازية، الراديكالية، الثورة الروسية، الثورة الصينية، الثورة الثقافية،، الثورة العلمية، الثورة المعلوماتية، الثورة المضادة، الثورة المسلحة، الثورة السلمية، الثورات الاجتماعية، الثورة الشعبية، ثورة البروليتاريا، ثورة الشباب في أوروبا 1968، ثورة الطلبة، الثورات التحررية، ثورة الخبز، الثورة البرتقالية، الثورة المخملية، ثورة الحرية والكرامة، ثورات الربيع العربي،.. إلخ وهكذا نجد أن مفهوم «ثورة» قد أخذ يتسع ويغطي ظواهر كثيرة ومتنوعة، لا علاقة تجمع بينها في بعض الأحيان.
إن الثورة من حيث هي ظاهرة تاريخية ومفهوم مجرد تنتمي إلى العصر الحديث، وترتبط ارتباطاً عضوياً بمشروع الحداثة التي شهدتها أوروبا منذ بزوغ فجر النهضة في القرن الرابع عشر الميلادي، وامتدت لنحو ثلاثة قرون. ويمكن القول، أن مفهوم الثورة لم ينشأ في الفراغ، بل نشأ وتبلور وتمت صياغته في السياق التاريخي الاجتماعي المشخّص لحركة المجتمع وتطوره على جميع الصُعد: الحضارية والثقافية والمدنية. إذ ما كان لفكرة الثورة أن تتوطد بالحجج المجردة، والتنظيرات المنطقية، بل كان يحكم عليها من خلال الدليل والوقائع والحقائق التي كانت تتنضد في عالم الممارسة المشخصة، في لحظة شهد فيها التاريخ أعظم عملية تحول ثوري من التقليد إلى الحداثة. فظاهرة الثورة ارتبطت بجملة من الظواهر والممارسات والأفكار والمفاهيم العلمانية، العقلانية، التقدم، الحرية، العلم، الليبرالية، الديمقراطية، الدولة – الأمة، المجتمع المدني. كتبت حنا أرندت: «إن ما نسميه الثورة هو بالضبط تلك المرحلة الانتقالية التي أدت إلى ميلاد مملكة علمانية جديدة»، وإن ارتبطت فكرة الثورة منذ البداية بمعاني الجَدّة والبداية والعنف، فذلك لأن «إرهاصات الجَدّة الغربية التي تميز العصر الحديث قد احتاجت نحو قرنين من الزمان لتخرج من العزلة النسبية للفكر العلمي والفلسفي، ولتصل إلى ميدان السياسة» وهو ما أكده روبسبير بقوله: «أن خطة الثورة الفرنسية كانت مكتوبة بإسهاب في كتب مكيافيللي».
خلاص الكلام ؛ هناك فرق بين الحقائق والوقائع
الحقائق تتصل بالمعتقدات والوقائع تتصل بالخبرات. فإذا ما اعتقدت جماعة من الناس بأن ما تعتقده هو حقائق صحيحة فهو كذلك في نظرها وحدها فقط ويستحيل إجبار الآخرين بذلك . أما الوقائع فهي قابلة للاختبار والتجربة لكل من أراد التحقق منها. وبهذا المعنى كتب نيتشة " الحقيقة هي حقيقة اللغة عبر الاستخدام الطويل لها نسي الناس أنها كذلك.