آخر تحديث :السبت-21 ديسمبر 2024-05:06م

في محاولة استيعاب نظرية أنور قرقاش

الخميس - 09 مايو 2024 - الساعة 10:47 م

هاني سالم مسهور
بقلم: هاني سالم مسهور
- ارشيف الكاتب


مع الأزمات السياسية الحادة ظهرت مسارات متعددة تقوم على الاقتصاد أكثر منها على الأمن، ولم تكن هذه المسارات موجودة في المنطقة العربية على مدار عقود طويلة بل لم تألفها منذ أن ظهرت الدولة الوطنية الحديثة بشكلها المعاصر.

اعتدنا في البلاد العربية أن تتحدد التوجهات على البعد الأمني والسياسي وهو ما شكل في إطاره مفاهيم عمّقت المبادئ التي تشكلت بين الدول مع بعضها بعضا ومنها تكونت الأطر الموسعة ككيان مجلس التعاون الخليجي، وفرضت التحديات الجيوسياسية أن تتكون هذه النمطية من التكتلات القائمة على الضمانات الأمنية، وبالرغم من أنها مازالت قائمة لكنها استهلكت جزءا كبيرا من مستهدفاتها، فالعالم شهد تحولات مهمة لم تكن جائحة كورونا والحرب الأوكرانية – الروسية والانسحاب الأميركي من أفغانستان إلا صور من تأثيرات تلك التحولات.

طرح عميد الدبلوماسية الإماراتية الدكتور أنور قرقاش بعد إعلان الممر الهندي الاقتصادي في 2023 ما يمكن النظر إليه كنظرية معاصرة لسياسات القرن الحادي والعشرين، فالتعليق الذي أردفه قرقاش من المناسب النظر إليه بعيون أوسع من كونه تعليقاً على إنجاز اقتصادي في قمة العشرين بالنسخة الهندية لأسباب أبعد من ذلك باعتبار أن الممر يأتي في تحوّلات داخل النظام الدولي، فالاستقطاب السياسي الذي يعيش فيه العالم خاصة لم يعد يمكن التعامل معه دون موضوعية، ففيما يبدو أن النظام أحادي القطبية الذي انفردت فيه الولايات المتحدة بعد الحرب الباردة يوشك على الأفول، وإنه في المقابل تتشكل قناعات دولية أن نظاماً متعدد الأقطاب تكوّن بالفعل أو أنه قاب قوسين أو أدنى من ذلك.

في منطقة الخليج العربي تحدث تحولات مختلفة تذكرنا بتحولات ما تلا الطفرة النفطية في السبعينات الميلادية وكذلك ما تلا حرب تحرير الكويت 1991، فما حدث خلال الفترتين أن الأولى حصل الخليجيون فيها على تدفقات مالية وفّرت لهم البدء في تكوين البنى التحتية لمجتمعاتهم، وفي الثانية تعمقت تكوينات الهويات الوطنية بعد الاختبار السياسي القاسي الذي عرفته منطقة الخليج، وأتاحت مرحلة ما بعد الأزمة المالية العالمية في 2008 التي عرفت ارتفاعات قياسية لأسعار النفط أن تطلق الإمارات تحديداً فلسفتها الاقتصادية التي كانت دبي أنموذجها حتى أنّها وسّعت من قاعدتها مع تمكين أكثر لسياساتها ولعب أدوار سياسية بما يمتلكه الشيخ محمد بن زايد آل نهيان من شخصية قيادية وضعته ضمن اللاعبين الدوليين.

بحلول العام 2018 كانت الإمارات قد بدأت نهجاً سياسياً اعتمد على ما اصطلح أنور قرقاش على تسميته أيضاً بسياسات “مدّ الجسور”، ومعها استعادت أبوظبي علاقاتها مع سوريا وتركيا وإيران وإسرائيل، بما اشتهر أنها “تصفير المشاكل”، وتشجعت القوى الإقليمية وخطت خطوات مماثلة تغيرت معها أولويات السياسات في المنطقة الشرق أوسطية، وكان من اللافت أن كل هذه التغيّرات اعتمدت على تبادل المصالح الاقتصادية خلافاً لما كان معمولاً به، فدول المنطقة تعيّن عليها أن تعدّل من إستراتيجياتها مما فرض عليها تعديلات في الديناميكيات السياسية لتتماشى مع المستجدات.

النظرية يمكن النظر إليها على أنها تعتمد الواقعية السياسية، وهذا أحد أهم التحديات في العقل السياسي العربي، وبالعودة إلى الدبلوماسية الإماراتية يمكن استيعاب أن هناك مراجعة تمت لمسار السياسات وعلى ضوئها تقرر أن تتعاطى مع الواقع الجيوسياسي في العالم وتأثيره على المنطقة العربية والشرق أوسطية لتنتج مسارها القائم على وضع قواعد السياسات وفقاً للمصالح الاقتصادية فهي الضمانة التي يمكنها أن تساهم في التنمية الداخلية وتنتج الفرص الاستثمارية، وهذه المراجعة الذاتية من المؤكد أنها درست البعد الزمني المتوسط والبعيد وما يجب أن تكون عليه البلاد مهما استمر الاستقطاب الدولي.

التكيف مع النظام الدولي يتطلب فهماً مغايراً للسياسات وما يجب أن تكون عليه المرونة في التوازنات لتحقيق أعلى درجات الاستقرار، معادلة دقيقة في الاستثمار الاقتصادي الذي لا يمكن له أن يكون موجوداً إذا ما تواصلت حدّة النزاعات السياسية، ودون الموضوعية في التقديرات السياسية لا يمكن الوصول إلى أن تحصل البلاد العربية على الفرص الاقتصادية مع حقيقة أن تزاحم الإنتاج الاقتصادي بين الدول العظمى بات هو أحد أهم معايير النفوذ في النظام الدولي، وهذه المفاهيم تقدمت فيها الإمارات خطوات وضعتها كإحدى أهم الفرص المتاح الاستثمار فيها، فلم تعد دبي وحدها المقصد الوحيد بل شملت كل البلاد لتحصل على الفرص الاقتصادية.

بفضل التفكير الواقعي أنتجت النظرية الفرص التي يمكن مشاهدتها في أكثر من دولة خليجية بمجرد أنها بدأت في انتهاج نظرية قرقاش، وحصلت على المزيد من الفرص الاقتصادية، ومع ذلك تبقى أمام هذه النظرية تحديات مرتبطة بالتراكمات التاريخية بين الدول والتي تتطلب إرادة لمعالجتها، كما أن تحدياً آخراً يظهر مع تجفيف منابع الإرهاب وتجديد الخطاب الديني لما لهما من انعكاسات على المجتمعات، وتغليب لغة الحوار الدبلوماسي يشكل رافداً يحقق الاستقرار ويضمن الأمن وسيخفف تماماً من تراكمات التاريخ السياسي فهذه قضايا عالقة تتطلب وقتاً لتذويبها.

تُقدم نظرية أنور قرقاش إطارًا جديدًا لفهم العلاقات الدولية في القرن الحادي والعشرين. وتُشير هذه النظرية إلى أهمية التعاون الاقتصادي والدبلوماسية الواقعية في تحقيق السلام والازدهار، كما أنها في أهم ما يمكن أن تقدمه أنها تتيح للجيل الحاضر فرصاً في الحصول على المعرفة الرقمية، فمع الانفتاح الاقتصادي ستتاح الفرص أكثر وأكثر أمام المشاريع الاستثمارية في مجالات التكنولوجيا والفضاء، وهذه مجالات لم تكن متاحة في المنطقة العربية، فالفرص الاستثمارية فيها ولن يكون ثمة من فرص بغير انتهاج مسار النظرية الجيواقتصادية سواء عبر التكتلات الإقليمية أو الدولية أو حتى بواسطة العلاقات الثنائية بين الدول.

ما نحاول قراءته في نظرية الدكتور أنور قرقاش متعدد الأبعاد ويتطلب من البلدان العربية النظر إليها باعتبارها مدخلاً صحيحاً يمكن المضي به في هذا القرن من التاريخ، فالتغيير العقلي في أن نطلق التنافسية باتجاه المعايير الأعلى في جودة حياة المجتمعات، وهذا ما سيحرك العالم العربي من دائرة الحدّة السياسية إلى فضاء مفتوح سيوفر للشعوب مجالات العمل وتطوير مجتمعاتها، فمقدار ما نحتاجه فعلياً هو القدرة على أن نجعل من نظرية قرقاش واقعاً في السياسات العربية، ويجدر بهذه الشعوب أن تحصل على هكذا مسار يوائم بين مقتضيات حاجاتها وترميم ما أصاب الحضارة العربية من أضرار.