آخر تحديث :الإثنين-23 سبتمبر 2024-02:30ص

الدور المصري قبل 26 سبتمبر (14 ــ 30)

الإثنين - 23 سبتمبر 2024 - الساعة 02:13 ص

د. ثابت الأحمدي
بقلم: د. ثابت الأحمدي
- ارشيف الكاتب


‏لافتات سبتمبرية

لن نغوصَ في تفاصيل العَلاقات اليمنية المصرية، والتي ترجع إلى التاريخ القديم، إبان الحضارة السبئية والمعينية، مع الحضارة الفرعونية سابقًا، ولن نتوقف هنا حتى عند علاقة مصر بثورة 48م الدستورية من خلال جماعة الإخوان المسلمين، وسنتكلم هنا عن الدور المصري في اليمن من خلال مصر عبدالناصر منذ ثورة يوليو المصرية حتى قيام ثورة 26 سبتمبر.

لا يخفى على البعض أهمية ثورة يوليو المصرية 1952م، ليس على مستوى اليمن فحسب؛ بل على مستوى المنطقة العربية كلها، فثورة يوليو 52م بقدر ما كانت مصرية الشأن كانت أيضا عربية التوجه والاهتمام، ومثلت الثورة الأم لكل ما جاء بعدها من الثورات العربية الأخرى في الجزائر والعراق واليمن وليبيا. وقد دعمها المعسكر الشرقي، في إطار صراعات الحرب الباردة يومها بين القطبين العالميين أمريكا والاتحاد السوفيتي.

وكانت هذه الثورة بأدبيّاتها السياسيّة وروحها الشبابيّة هي الملهمُ الأساس للشباب اليمني خاصّة ممن عرفوا مصر عبدالناصر وتأثروا بها وبأجواء القاهرة يومها التي كانت أجمل من بعض العواصم الأوربية مدنية وثقافة. هذا على سبيل الإجمال؛ أما تفصيلا، فلم تحظ ثورة عربية باهتمام مصر كما حظيت اليمن، وكادت أن تكون القضية الثانية لمصر حتى سنة المصالحة عام 70م. فمن أول يوم لثورة يوليو احتضنت القاهرة الثوارَ المناوئين للإمامة داعمة إياهم ماديا ومعنويا، فمثلا استطاع الزبيري العودة من باكستان التي فر إليها عقب فشل ثورة الدستور والاستقرار في القاهرة، وفيها انضم حوله ثلة من الشباب المستنيرين وأسس الاتحاد اليمني؛ كما كان من أبرز الأصوات الثورية في إذاعة صوت العرب، ومنها بث خطبه الثورية وقصائده الشعرية الملتهبة؛ بل لقد شكلت إذاعة صوت العرب من القاهرة مدرسة نضالية إلهامية لثوار الداخل، وكان صوت الزبيري يقض مضاجع الإمام في صنعاء أو تعز. وكان المعارضون هناك موضع اهتمام عبدالناصر ورعايته حتى قامت الثورة.

يقول الباحث ادجار اوبلانس عن تأثيرات مصر في مرحلة ما قبل الثورة: فإن برنامج راديو "صوت العرب" الذي يُذاع من القاهرة قد ملك مشاعر العرب في كل مكان داخل اليمن، لا لشيء إلا لأن أجهزة عبدالناصر الدعائية كانت أولا مقتدرة، وذات خبرة في آن واحد، وثانيًا لأنه لم يكن هناك بديل منافس. كما ساعد المصريون العاملون في البلاد كمدربين عسكريين ومدرسين وأطباء بمهارة وخدمة في نشر أفكار عبدالناصر، وتحت إلحاح ولي العهد سمح الإمام لبعض المدرسين المصريين في اليمن بالقيام بافتتاح عدد قليل من المدارس المدنية الحديثة، ولتقديم تعليم متقدم لأبناء العائلات الميسورة. وقد تزايدت أعدادهم خلال فترة غياب الإمام في إيطاليا. وكان لذلك تأثيره العميق على العقليات الشابة القلقة، والقابلة للتأثر بالتغيير في اليمن. وقد أمر الإمام بإغلاق هذه المدارس الحديثة قبيل موته بأسابيع.

ويقول سامي شرف ــ وهو أحدُ الخبراء الكبار في ثورة يوليو، وفي الملف اليمني، وسكرتير الرئيس ناصر ــ في سياق حديثه عن نهجِ ثورة يوليو المصريّة في دعم حركة التحرر العربي: وسواء كان الهدف هو مقاومة المستعمر الأجنبي، أو تحقيق الإصلاح الداخلي، فلم تدخر القاهرة جهدًا في دعم هذه الحركات، ودعم تماسكها الداخلي، يستوي في ذلك احتضانُ مصر لثوار الجزائر ودعم توجههم النضالي المسلح، أو استضافة الزعامات الوطنيّة القادمة من المغرب وتونس وليبيا، وإعطائهم الفرصة للتعبير عن أهدافهم من داخل مصر، من خلالِ أجهزتها الإعلامية، ولم ترد القاهرة أيّ حركة وطنية، أو كوادر عربيّة جاءت تطرح أفكارها ومشروعاتها الوطنيّة للتحديث والتغيير.. أقول إن هذا الخط كان منهج القاهرة في كل أرجاء الوطن العربي، باستثناء اليمن، فقد جاءت المبادرةُ الأولى من جانب ثورة يوليو 1952م، وليس العكس، وكان لذلك ما يبرره. لقد كانت اليمن من أشد مواقع الوطن العربي تخلفًا وانعزالا عن كل ما يجري في العالم، فقد كان يحكمُها نظامُ الإمامة، على رأسه أئمة زيود، استأثروا بالسلطة الروحيّة والزمنيّة لأكثر من ألفٍ ومئةِ عام متصلة.. وقد انتهج حكمُ الإمامة أساليب غاية في الغرابةِ في تأمينِ استمراريته، أساليب فاقت ما كان معروفًا في العصور الوسطى..

ويضيف: إنّ دعم مصر لثورة اليمن لم يكن وليد ليلة 26 سبتمبر 1962م، ولم يكن مجرد رد فعل لردة الانفصال، أو تعبيرًا عن رغبةٍ في استعادةِ التوازنِ لصالح التيار القومي.. بل كانت اليمن حاضرة في تفكير ثوار يوليو منذ فترةٍ مبكرةٍ جدًا من عُمر الثورة. كانت اليمن هي نقطة الانطلاق الأولى في النشاط العربي الذي كُلف بإدارته السيد فتحي الديب الذي استعان بإمكانيّاتِ المخابراتِ العامّة في التحضير الجيد لهذا التحرك، فقد استعان بأفرع الجهازِ في حصر القياداتِ السياسيّة اللاجئة بالقاهرة والتعرف عليها، وكذا العناصر الطلابيّة التي كانت تتلقى الدراسة بالقاهرة، إلى جانب جمع أكبر قدرٍ من المعلومات عن العناصر المصريّة المُنتدبة أو المُعارة، للعمل في أرجاء الوطن العربي، بما في ذلك اليمن.

وفي كتابه "عبدالناصر وحركة التحرر اليمني" يذكرُ فتحي الديب التفاصيل الكاملة لعلاقة مصر باليمن من خلالِ ثورةِ السّادس والعشرين من سبتمبر 62م التي ابتدأت في وقتٍ مبكرٍ داخلَ أروقة جهاز المخابرات العامّة المصرية؛ والمذكور كان ضمنَ رجالاتِ الجهاز، متوليًا قسم الشؤون العربيّة فيه، حيثُ يذكر أنّ اللقاءاتِ والاتصالاتِ مع العناصرِ اليمنيّة المتواجدة في القاهرة ــ وعلى رأسهم الزبيري ــ بدأت من العام 1953م، سواء من الشطر الشمالي آنذاك، أم من "إمارات الجنوب" حد تعبيره.

يقول فتحي الديب: قررتُ أن أبدأَ أولَ تحرك للاستطلاع الميداني إلى اليمن في أوائل أكتوبر 1953م، واستلزم التحضيرُ للسفر عدة جلسات مع القاضي الزبيري وإخوانه من العناصر الوطنية، لاستكمال الصورة التفصيليّة، وتجميع كافة المعلوماتِ عن الشخصيّات الوطنيّة الموثوق بها، والتي يمكنُ الاتصالُ بهم في إطار الثقة التامة، سواء في محمية عدن، أو في مُدن اليمن الرئيسية: تعز، صنعاء، الحديدة.. وكان إجماع كافة الأطراف اليمنيّة مركزًا على أنّ أصدقَ الناس ثورية وإيمانا بالقوميّة العربيّة، وارتباطا بثورة 23 يوليو ومبادئها هو العقيد أحمد الثلايا، أحد ضباط حركة الانقلاب ضد الإمام يحيى، والذي أفرج عنه الإمام أحمد مؤخرًا وقربه إليه، لما عُرف عن العقيد المذكور من قوةِ شخصيّة وشكيمةٍ وصَلابة، جعلته مكتسبًا لاحترامِ كافة اليمنيين المسؤولين وغيرهم..

يقول اللواء عبدالله جزيلان عن ثورة يوليو المصرية: إن نجاح ثورة 23 يوليو 1952م في مصر أعطانا آمالا واسعة وعميقة في اليمن، لما حققته من انتصارات هائلة؛ حيث خاضت معارك ضد الإقطاع والاستغلال والاستعمار، وأنجزت كثيرًا من الأعمال الداخلية والخارجية، مما جعل الشعب العربي في كل مكان ينظر إلى تلك الثورة وكأنها ثورته. وكان هذا الإحساسُ موجودًا عند كل يمني، مما جعل احتمال قيام ثورة ناجحة في اليمن مشجعًا لكل ثائر.

ومع تنظيم الضباط الأحرار الذي كان قد تشكل في صورته النهائية في ديسمبر 1961م كان علي عبدالمغني دينامو تنظيم الضُّباط الأحرار، ومن أكثر الأعضَاء ثقافة ونباهة ونشاطا، متأثرًا إلى حد كبير بأستاذه نبيل الوقاد، فتواصل مع السّفارة المصرية سرًا، عارضًا برنامج تنظيم الضباط على السفارة، طالبًا دعم جمهورية مصر العربية للتنظيم في مهمته التاريخية القادمة، وبعد أخذ ورد، واستفساراتٍ بين القيادة المصرية من جهة، والتنظيم الذي يمثله أمام السفارة المصرية علي عبدالمغني جاء الرد من الزعيم جمال عبدالناصر عبر السفارة: "نفذوا وسأفي بكل التزاماتي".

ولا ننسى الجهودَ المصريّة التي كانت تُبذل سرًا من خلالِ البعثة العسكريّة المصريّة المتواجدة في اليمن، رغم الصعاب التي واجهتها، والعراقيل التي وُضعت أمامها من قبل الإمام أحمد نفسه، وكانت هذه البعثة تُوافي قيادتَها بكل الصعاب والعراقيل التي توضع أمامهم، ومع هذا تأتي التوجيهاتُ من القاهرة صارمة بضرورة ضبط النفس وتحمل الصعاب مهما كانت. ومن أبرز أعضاء تلك البعثة تأثيرًا على نفسية الطلاب: الصاغ صلاح المحرزي، والصاغ محمود عبدالسلام، والنقيب عادل السيد، والشهيد نبيل الوقاد. وهذا الأخيرُ هو أولُ شهيدٍ مصري سقط على أرض اليمن.
د. ثابت الأحمدي