تحدد "الأولوية" الحالة التي يقدم فيها قضية ما على غيرها من القضايا، إما لسبب عامل الأهمية، أو عامل التأثير، أو عامل الزمن، أو عامل الجغرافيا، أو عامل الانتماء، أو عامل الهوية، أو عامل العاطفة، أو عامل الأيديولوجيا، أو لعوامل وأسباب متعددة أخرى. ويعتمد ترتيب "الأولويات" على مصفوفة قيم الفرد المتوارثة، ومجموعة العوامل الثقافية المجتمعية المغروسة؛ فإذا كان عامل الانتماء أو الهوية ذو أهمية عالية فإن الأولوية للقضايا الوطنية ستكون عالية، وإذا كانت العاطفة أو الأيدلوجية ذات أهمية مرتفعة فإن أولوية القضايا الأيدلوجية والعاطفية ستكون متزايدة تبعًا لذلك!. كما أن الثقافة المجتمعية المتأصلة تتيح -أو تحجب- المفاضلة بين ترتيب أولوية القضايا، أما تصاعديًا من الأهم إلى المهم، أو العكس من ذلك!. وعند النظر إلى خريطة قضايا الساحة الوطنية، فإن هناك قضايا سياسية واقتصادية واجتماعية، وقضايا أمنية، وقضايا ثقافية، وقضايا تاريخية وفكرية وحضارية، وقضايا احتلالية، والتي يجب ترتيبها وتحديد أولوياتها والعمل على حلها أولاً، قبل القفز إلى مناقشة قضايا الآخرين أو التطرق لمعالجتها!. وفيما يخص "قضايا الاحتلال"، يُجدر الإشارة إلى أن هناك العديد من أنواع الاحتلال، هناك احتلال عسكري، واحتلال استيطاني، واحتلال اقتصادي، واحتلال ثقافي، واحتلال أيديولوجي وفكري، واحتلال رمزي، واحتلال مركب (أي احتلال فكري يقود لاحتلال السلطة والثروة تحت مظلة الحق الإلهي)، وغيرها.
تبدأ تراتبية "الأولويات" وتسلسلها بشكل سليم ومنطقي من إطار الحيز الداخلي (القريب) ثم تتوسع إلى الإطار الخارجي البعيد ثم الأكثر بعدًا؛ أي ابتداءً من أولويات القضايا الخاصة بالفرد ثم الأسرة، يليها أبناء المجتمع والشعب، ثم الوطن كليًّا وأمنه القومي، ثم قضايا الأمة القريبة المرتبطة بدوائر الهوية، ثم قضايا الأمة البعيدة المتقاطعة مع دوائر الهوية، وانتهاءً بقضايا الإنسانية جمعاء. ولكن، عند القفز على الأولويات وتقديم ما حقه التأخير، بحيث تصبح أولويات القضايا الوطنية في ذيل قائمة الاهتمامات، وتقدم عليها القضايا الآخر وتصبح أكثر أولوية وأهمية، فإن ذلك يظهر اختلال التوازن القيمي الفردي والمجتمعي للأولويات، ويمثل اضطراب فكري وثقافي وحضاري؛ وكل ذلك ينتج دائمًا من تغليب "العاطفة الكاذبة" على المنطق والعقل؛ لأن "العاطفة الصادقة" تبدأ بالتضامن وتقديم المصلحة الداخلية للمجتمع ككل (القضايا الوطنية)، ثم تنتقل للقضايا الأخرى، لا العكس من ذلك!.
إضافة لذلك، يساعد التركيز على تحديد أولويات القضايا المجتمعية (الوطنية والعربية والإسلامية والإنسانية) على تأطير دوائر الاهتمام، ويساهم بمعالجة القضايا الآنية والمستقبلية الوطنية، ويعزز لاحقًا من التمكّين والانتقال لمساعدة الآخرين في معالجة قضاياها وإشكالياتها على المستوى العربي والإسلامي والإنساني؛ أما القفز على الأولويات وقلب تراتبية قائمتها، فذلك نوع من المخاتلة والوهن والهروب والعجز والفشل!.
تُسوق الكهنوتية السلالية على مدى قرون طويلة (وأيضًا بعض الجماعات المؤدلجة دينيًا مؤخرًا) بأن إعطاء القضايا الأخرى أولوية تفوق أولوية القضايا المجتمعية الوطنية يُعد ميزة توضح مستوى البذل والعطاء، وتروج بأن تقديم مصلحة الأمم الأخرى على مصلحة أبناء الشعب نوع من النخوة والمروءة؛ وفي الحقيقة أن ذلك تضليل، ومحاولة لتأصيل القفز الذي يؤدي إلى اختلال الأولويات وفقدان التوازن وضياع المنطق، وتعطيل بوصلة تراتبية القضايا!.
وهنا لا بد أن اكتب لبعض اليمنيين بعض السطور الهامة التي لا مفر منها، ولكل من يؤمن بقضية الأمة العادلة المنصفة، هل عدائكم للكيان الغاصب البغيض منطلقاً من رؤيتكم له بأنه محتل استيطاني خارجي دخيل على الجغرافيا والتاريخ والحضارة، أم أن ذلك العداء ناتجًا فقط من كون لديه أيدلوجية دينية تختلف عن أيد لوجيتكم الدينية؟ّ!. وإذا افترضنا بأن الكيان الغاصب بَدَّل أيدلوجيته الدينية إلى إيدلوجيتكم الدينية، فهل سيكون ذلك الاحتلال أمرًا مقبولًا، ويحق له أن يستولي على الأرض ويتولى السلطة والثروة في أرض غيره؟!. وقبل إجابتكم عن ذلك، حاولوا أن تسقطوا ذلك التساؤل بنفس السياق على الغازي والمحتل الفارسي لليمن "باذان" الذي سُمح له بأن يحكم أرض سبأ وحِميّر بعد أن غير أيدلوجيته (سواءً كان ذلك أيمانًا أو لمصلحة)، وبنفس السياق واصلوا إسقاط ذلك على الشظايا والدخلاء والغرباء من أحفاد باذان، وأحفاد الرسيّ، القادمين من خارج الحدود الجغرافية (وقارنوا بين إجاباتكم هل هي متسقة أم متضاربة!).
وبالتالي، أليست قضية الاحتلال للأرض والسلطة والثروة تحت مظلة الحق الإلهي، التي استمرت لقرون طويلة من قبل شظايا ودخلاء وغرباء الكهنوتية السلالية، والتي زرعت أيديولوجية ضالة فاسدة جعلت من بعض أبناء القبائل اليمنية (القفازات القذرة) أداة حادة قاتلة مسلطة لقتل إخوانهم وأخواتهم من أحفاد سبأ وحِميّر، تعد أهم قضية وعلى رأس قائمة الأولويات التي يجب مناقشتها ومعالجتها جذريًا قبل كافة القضايا الأخرى؟!. قطعًا، لو تفاعلت بعض المجتمعات التي تعاني كثيرًا من الاحتلال المركب، مع قضاياها الداخلية ذات الأولوية والأهمية العالية والمؤثرة على مسار حياتها ومستقبل أجيالها، بنفس تفاعلها مع القضايا الأخرى (وقبل القفز إلى قضايا الآخرين)؛ لتم حل كافة قضاياها وإشكالياتها، ولـ تمكّنت فيما بعد من تقديم المساعدة والعون لحل قضايا الآخرين!.
ختامًا، الحزن على الأبطال الأحرار المقاومين للاحتلال البغيض بمختلف أشكاله، دون اقتفاء أثرهم واتباع منهجهم في مقاومة المحتل المركب الدخيل الذي على أرضكم وبين جنباتكم هو "حزن مضلل"، والجسد الذي يتداعى ويعطي الأولويات لـ أوجاع والآلام أعضاء جسد أخرى (ولا يتداعى لأعضائه)، هو جسد مشلول ومعتل ومختل وظيفيًا، ويحتاج إلى علاج وإنعاش!. وبديهيًا، من لم يستطع معالجة قضيته، وتحرير نفسه من الاحتلال المركب المستمر لقرون طويلة، كيف له أن يعالج قضية احتلالية لمدة عقود معدودة، وخارج نطاق حدوده الجغرافية (فاقد الشيء لا يعطيه)!.وكذلك، من لم يحزنه ويؤلمه ما حدث (على مدى قرون من احتلال مركب لوطنه) وما يحدث حاليًا لأبناء شعبه (أحفاد وحفيدات سبأ وحِميّر) من قتل وتدمير وتهجير وتجهيل وإفقار واعتداء ونهب، في جميع مناطقها شمالًا وجنوبًا وشرقًا وغربًا، ولا يعدّها قضيته الأولى (ثم تليها القضايا الأخرى بناءً على تراتبية الأولويات التي تم الإشارة لها سابقًا)، ولا يتفاعل معها بقدر يفوق تفاعله مع قضايا الآخرين، ويتألم على القضايا الأخرى أكثر من تألمه على أبناء جلدته وشعبه؛ يتوجب عليه مراجعة فوضى دوائر اهتماماته، ومعاينة فتور هويته، وفحص اضطراب انتماءه، ومعالجة اختلال توازن أولوياته!.