آخر تحديث :الأحد-27 أكتوبر 2024-12:30ص

تأملات في معنى النهضة وشروط النهوض

السبت - 26 أكتوبر 2024 - الساعة 11:17 م

د. قاسم المحبشي
بقلم: د. قاسم المحبشي
- ارشيف الكاتب


نهض، ينهض، نهضة، بمعنى فعل حركة كائن محسوس ملموس وفاعلية كيان حي قادر على التململ والصحو والاستيقاظ والنهوض والوثب والتغيير والتبديل من حالة سلبية إلى حالة إيجابية من النوم إلى اليقظة من الخمول إلى النشاط من العجز إلى الإنجاز بكلمة النهضة من اسمها هي وثبة ارقى مما كان عليه الحال قبلها . وهي بذلك بعكس الموت والجمود والركود والسكون والنوم والغيبوبة إذ لا ينهض إلا حيا ولا يستيقظ الا واعيا ولا يكون الا كائنا. بهذا المعنى يمكن رصد معاني ورموز النهضة في كنانة كاملة من الكلمات الفاعلة في مختلف اللغات إذ تعني فعل نقلة وفاعلية طاقة وتفاعل كيان وحيوية ونشاط وزخم وتبدل وتحول وتغيير ونمو وتطور وصعود وغير ذلك من الكلمات والمعاني التي تدل عليها في عالم الإنسان والفعل والانفعال عالم ما تحت فلك القمر حيث تنمو وتولد وتموت الحياة والكائنات الحية كلها ولا عذر للاحياء من الحياة ولا عذر للكائنات من الكينونة طالما وهي موجودة بحسب سارتر. وسواء آخذنا بالوحي الإلهي ونظرية الخلق من عدم أو بالتفسير الاختباري ونظرية التطور المستمر ؛ يظل الإنسان فردا وجماعةً هو المعني بالنهضة والنهوض والتحول والتغيير والتعقل والتفكير والتأمل فهو من علمه الله الأسماء كلها وجعله خليفته في الأرض. والإنسان العاقل (باللاتينية: Homo Sapiens) هو الاسم العلمي للنوع الوحيد الغير منقرض من جنس الأناسي والمعروف بهومو (باللاتينية: Homo)، الذي يحتوي أيضاً على نياندرتال وأنواع أخرى من القردة العليا. صاغ كارولوس لينيوس الاسم الثنائي للإنسان العاقل (Homo Sapiens) في عام 1758م.

من المؤكد أن الكون اللانهائي واللامحدود والكائنات بكل تنوعها وتعددها الهائل لم تظهر وتكون مرة واحدة في هيئتها الكاملة المكتملة بل تطورت عبر مليارات وملايين السنين في مراحل تاريخية طويلة إذ تأكد الحفريات الآثارية والدراسات التاريخية والانثروبولوجية أن عمر الحضارة البشرية لا يتجاوز عشرة الالف سنة فقط وهي بالقياس إلى تاريخ الكون كله الذي يقدره العلم ب ١٤ مليار سنة ليست سوى غمضة عين في تاريخ العالم. حتى الله سبحانه وتعالي لم يخلق الإنسان في هيئته المكتملة الا عبر مراحل ومن مواد وعناصر سابقة ومنها العناصر الأربعة الماء والطين والهواء والنار.وتلك العملية ترمز إلى حالة تطورية واضحة. وليس هذا ما يعنينا هنا بقدر اهتمامنا بالنهضة ومعناها. نقرر منذ البدء أن النهضة لا تحدث الا في عالم الكائنات الحية ولا نهوض ولا نهضات في عالم الأموات وأن وجدت بقدرة الله سبحانه وتعالي فمن المستحيل أن يراها أو يحكم عليها الأحياء. فما هي النهضة وما هي معاييرها؟ هذا السؤال الكبير هو الذي تبادر إلى ذهني البارحة في وحدة الدراسات السياسية والاستراتيجية بالمعهد العالمي للتجديد العربي وأنا أتابع ندوة ( رؤية استشرافية لمشروع النهضة العربية) الذي قدم ورقتها الأساسية الدكتور محسن الندوي رئيس الوحدة ورئيس المركز المغربي للدراسات الاستراتيجية والدولية وعقب عليه الدكتور هاني الحديثي عميد كلية العلوم السياسية بجامعة بغداد سابقا وعضو المعهد وقدمها الدكتور حكمت طراونه بكفاءة واقتدار. كانت ندوة رائعة حلقت بناء في فضاءات صاخبة بالحلم والأسى والخوف والرجاء ففي حين جعلنا الدكتور محسن الندوي نحلق في فضاء رومانسي لمشروع النهضة الحلم الجميل أعادنا الدكتور هاني الحديثي إلى واقع الكابوس العربي المروع اليوم.

لقد استمعت بحرص واهتمام إلى المداخلتين وتسألت: بيني وبين نفسي ولما لا ننهض نحن ؟ فمن حقنا معاودة التفكير في النهضة والبحث في ممكناتها ما استطعنا إلى ذلك سبيل. ولعل المعهد العالمي للتجديد العربي بميثاقه وكيانه المؤسسي هو مشروع نهضوي بالغة الحيوية والأهمية في تلك اللحظة التاريخية. وكما أنه لا توجد قواعد وترسيمها محدد للكائنات الحية بما في ذلك الناس لمعاودة نهوضها من سباتها كل يوم فبعضها تتثأب وبعضها تقفز وبعضها تنهض ببطء وبعضها وبعضها تتعوذ وبعضها تتحمد. فكذلك لا توجد قواعد ومعايير محددة لنهضة الشعوب والأمم، ولكل عصر من العصور ادوات ووسائل نهضته وحينما ننظر إلى تاريخ العالم اليوم نتبين أن كل مجتمعاته قد مرت بذات الخبرات والتجارب الحياتية التاريخية منذ مرحلة الصيد والرعي والحياة البرية إلى مرحلة الزراعة والحرث والسقي والحياة الحضرية وقد استخدمت في ذلك ذات الادوات الطبيعية الماء والتراب والريح والمطر والحجارة والخشب والفنية القوس والنشاب والرمح والمحراث وما انتجه من افكار ومعتقدات سحرية واسطورية وعقائد طوطمية وثنية ولكل مرحلة من مراحل التاريخ ادواتها ووسائل انتاجها. فما الذي يحدث للناس حينما يكتشفون حقيقة وضعهم بالمقارنة مع أوضاع الآخرين؛ أشباههم من بني حواء وآدم؟ ذلك هو السؤال المفتاحي لفهم المشهد الحالي في الفضاء الاتصالي الافتراضي وما يعج به من اضطراب شامل في كل مجالات الحياة اليومية. ففي الأزمنة القديمة.كانت الجماعات تدبر حياتها في بيئاتها المحلية بسلام وقناعة واكتفاء ذاتي ولا تعرف من الدنيا غير واقعها الثقافي المحلي المحدود جغرافيا. وكلما زاد تواصل الجماعات واحتكاكها مع جماعات أخرى كلما زاد وعيها بذاتها وبالاخرين، فالآخر هو مرآة الذات، لكن مشكلة وعي الذات وفهم الآخرين ليست من البساطة بحيث تنكشف للانا بذاتها ولذاتها دون عنأ أو جهد يذكر، بل هي عملية شديدة التعقيد وعسيرة الفهم، إذ قد يعيش الناس عشرات أو مئات السنين في بعض الحالات دون أن يتمكنوا من إختراق الحجب والأقنعة التي تحول دون وعيهم لذاتهم وللآخرين، فالذات إذا ما تركت لذاتها دون خبرة التفاعل والإحتكاك المباشر مع الآخرين تظل عمياء ساذجة وفطرية غير واعية لذاتها وغير مدركة لهويتها التي تميزها عن هوياتهم المختلفة إذ بأضدادها تتمايز الأشياء. والطريق الوحيد لتحقيق كشف المحجوب في عمليات الذات والآخر لا يتم إلا بالإحتكاك والتفاعل المتبادل بين الفاعلين الاجتماعيين في أثناء الممارسة الحياتية وتغذيتها الراجعة في سياق تفاعلي مقارن، فرصد الآخرين وتأويلهم هو الوسيلة الممكنة في فهم الذات؛ فالآخر هو دائماً مرآة الذات ومبعث هويتها. وتاريخ الدين والمعتقدات الايديولوجية يفسر تلك السيرورة الأنثربولوجية للمجتمعات البشرية من الطوطمية إلى السماوية. فكل المعتقدات الدينية جاءت استجابة لحاجات الجماعات المحلية إذ كان لكل عشيرة أو قبيلة أو جماعة محلية طوطم ( حيوان، شجرة، وثن، صنم) تقدسه وتعبدها ولم تأتي المعتقدات الكلية الا بعد تاريخي طويل من التعارف والاحتكاك بين الجماعات البشرية في العصور القديمة والوسيطة وقد كانت حياة الشعوب وثقافاتها تقليدية متشابهة في كل شيء تقريبا وذلك عبر تلاقح الثقافات وانتشارها في البيئات فبعد اكتشاف اللغة في أحد الثقافات، طورت الثقافات الأخرى أسلوب اللغة كأداة جديدة لاستخدامها كوسيلة تواصل ضمن أفراد الثقافة الواحدة. حيث تسعى كل فئة إلى تعديل اللغة بشكل يتناسب مع أفضل أسلوب يعبر عن ثقافة هذه الفئة. فكل الشعوب القديمة استخدمت نفس الادوات والاساليب والطرق والعادات في تدبير حياتها؛ النار والقوس والرمح والنشاب والزراعة والحيونات وكل شيء تقريبا ويعد الدين أحد أهم العناصر الثقافية المتأثرة بنظرية الانتشار الثقافي. حيث تتبنى أغلب الحضارات المجاورة لبعضها البعض نفس المعتقدات والمبادئ الدينية الأساسية، مع وجود بعض الاختلافات التي تعبر عن خصوصية كل حضارة. ففي المنطقة العربية انتشرت الأديان السماوية، وكان كل دين مكمل للدين الذي يسبقه مع الاحتفاظ بكثير من التعليمات الدينية بين الحضارة السابقة واللاحقة، ومن أشهر القصص التي تم انتشارها، هي قصة الخلق التي بدأت بالنبي آدم وزوجته حواء" ومنذ الثورة الصناعية والعلمية الحديث انتشرت في العالم كله ادواتها وانماطها وقيمها وعاداتها ومؤسساتها وكل شيء تقريبا إذ إن التكنولوجيا لا تحدث فقط تحولاً في العالم ، بل أنها تخلق عالمها المجازي فعالمنا الراهن بعد انكماش الزمان والمكان اضحى بفضل ثورة المعلومات والاتصال شديد التقارب والتداخل والتواصل والاتصال والترابط والتفاعل وصيرورته قرية كونية صغيرة يتشارك سكانها كل خيراتها وشرورها. فمن ذا الذي يشاهد العالم ولا يتأثر بما يحدث فيه؟ وحينما تنكشف الفوارق الحضارية والثقافية والمعيشية بين الشعوب المتفاعلة في ذات اللحظة تحدث الكثير من الاضطرابات. أن وحدة التاريخ العالمي تتبين في شبكة العلاقات بين الشعوب والحضارات إذ يعصب دراسة تاريخ بريطانيا بمعزل عن تاريخ الهند والصين ومصر واليمن ويصعب فهم تاريخ مدينة صغيرة مثل عدن في جنوب الجزيرة العربية بمعزل عن تاريخ بريطانيا ومصر ويعصب فهم تاريخ الاسكندرية بمعزل عن تاريخ اليونان وروما ويصعب فهم تاريخ اسبانيا بمعزل عن تاريخ بغداد ودمشق وهكذا هو التاريخ العالمي أشبه بالنهر الكبير وكل تواريخ الشعوب المحلية تصب فيه. ربما قرأنا عن تشبيه التاريخ بالنهر بوصفه صيرورة دائمة الحركة عبر الزمان من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل إذ أن التاريخ يجري كما تجري مياه الأنهار إلى مصالتها؛ أنها تجري باستمرار يستحيل الاستحمام بها مرتين! بحسب هيرقلطيس. لكن هل هذا التشبيه دقيق ويشبع المعنى؟ الأنهار تجري في مسار واحد تنساب أو تجرف لكنها جميعها تصب في آخر المطاف في البحر ؛ البحر البحر هو من يشبه التاريخ أو يشبهه التاريخ إذ أننا نعيشه كما تعيش الأسماك بالماء وكما هو قانون البحار وحياة الأسماك الكبيرة التي تتغذى على الأسماك الصغيرة يمكن النظر إلى التاريخ وحركته المستمرة. نعم هو يتحرك حركة ذاتية نسبية ولكنه لا يسيل إلى مكان ما خارج هذه الكوكب. ومن البحر استلهم الشاعر الكاريبي ديريك والكوت قصيدته ( البحر والتاريخ) فالبحر هو محور التاريخ حيث يحتفظ بالذكريات في قاعه كما يحتفظ بجثث ضحاياه وسفنهم ومقتنياتهم. ومن الاخطاء الفادحة في الدراسات التاريخية التقليدية أن الباحثين في التاريخ والآثار انشغلوا في تدوين ما حدث ويحدث في اليابسة وكل ما هو متاح للرؤية والمشاهدة بينما ظل التاريخ الحقيقي محتجبا عنكم في اعماق البحار والمحطات التي تشكل ثلاثة أرباع الكرة الأرضية مجازنا بينما هي في حقيقتها كرة مائية أو بحرية وصف أقرب إلى الحقيقة.

لقد شهدت معظم شعوب العالم منذ الاف السنين نهضات وحضارات وتحولات متنوعة حينما كانت تعيش في عزلة نسبية عن بعضها بعضا. أما اليوم من غير الممكن أن يجد شعبا أو أمةً فرصة لتدبير أمر ذاته بمفرده. فكيف السبيل إلى استئناف مشروع النهضة العربية في عالم التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي ؟

من المهم التذكير بالنهضة الاوروبية

لعل الذكرى تنفع الباحثين عن نماذج ملهم👇🏾


في معنى النهضة الحديثة وفلسفتها


كانت التحولات الحضارية والمدنية والثقافية في المرحلة المبكرة من الحداثة الاوربي مرتبطة بالنهضة التي تمتد نحو ثلاثة قرون منذ القرن الرابع عشر حتى القرن السابع عشر، إذ تميزت النهضة باضطراب شامل وتداخل لانماط متعددة من صور الحياة وقيمها وانماط السلوك والمواقف والافعال القديمة والجديدة، الشاذة والطبيعية، كان عصراً يعج بالحركة الدائبة والتغييرات الكثيرة، ومعنى النهضة هو بعث واحياء وحرفيا ميلاد جديد، او تكرار الميلاد ولقد اعادت النهضة بعث تراث الثقافة الكلاسيكية اليونانية والرومانية القديمة الى الحد الذي اطلق على ايطاليا القرن الرابع عشر، "هيلاس الجديدة". لكن النهضة لم تكن مجرد بعث التراث الكلاسيكي، بل توظيفه في سياقات جديدة.

كانت ولادة شي ما لم يحدث ان تصوره او صممه انسان في الزمن الماضي، في كل مكان آخذت تشع نظرة جديدة للحياة والعالم والكون، تغيرت نظرة الانسان الى ذاته والى العالم والى الحياة والزمان، الفاعلية هي الشعار الجديد، الانسان الجديد يعمل وينافس ويتقدم ويغامر ويجازف ويخسر ويربح، ومع النهضة اخذت تنحسر "فلسفة البعث والنشور" التي كانت تصور الانسان مكبل بالاثم والخطيئة المقدرة عليه منذ ادم ولا فكاك له منها، الا بعون الله وارادته. ويذهب ارنولد توينبي، الى انه "خلال المدة الممتدة نحو 1400-1550م تبدلت الصورة العقلية لموطئ الانسان على الارض ومكانته في الكون، وذلك منذ اكتشاف الفكلي البولندي كوبرنيكوس (1473-1543م) إن الارض تدور حول الشمس مرة في السنة وانها تدور حول نفسها مرة كل اربع وعشرين ساعة"

ثمة جانبان لهما الاهمية القصوى في نهضة اوروبا هما حسب- برتراند رسل:- تضاؤل سلطة الكنيسة وتزايد سلطة العلم، ويتصل بهذين الجانبين جوانب مختلفة الابعاد.

لقد كان عصر النهضة في بدايته عصر نقد وتمرد وتصميم وتشكيل، اكثر منه عصر بناء وتشييد وتعمير، ذلك لان الكثير من ملامح العصر الوسيط ظلت قائمة متداخلة في نسيج المجتمع الناهض، فمن الناحية الواقعية لم تنته العصور الوسطى بقيمها وتقاليدها الثقافية الراسخة، فجأة عند نقطة ما وظهر المجتمع الحديث الى الحياة عند نقطة اخرى بل قد احتاجت أوروبا نحو ثلاثمائة سنة للانتقال من الجو الذهني للعصور الوسطى الى الجو الذهني للعالم الحديث وربما كانت الميزة الاساس التي تمتاز بها النهضة في كونها أفلحت في زعزعة الاسس القديمة التي كانت تقوم عليها فكرة الانسان والعالم والتاريخ في العصر الوسيط اكثر مما نجحت في تكوين تصور متكامل لما يجب ان يكون عليه الانسان الحاضر والمستقبل.

لقد قدمت النهضة "الثقافة" التي شكلت الارض الخصبة لتحضير ولادة الفيلسوف والفنان والعالم والاديب والسياسي والمؤرخ والحكيم والفقيه...الخ, "لقد كان عصر النهضة يتطلب عمالقة فأنجبهم، عمالقة في قوة الفكر "والاندفاع والطبع" امثال: كوبرنيكوس 1473-1543، وكلبر 1571-1630، وجاليلو 1564-1642، وجبلر 1540-1603م، في المغناطيس وربرت بويل 1627-1691م في الكيمياء, وليفنهوك 2632-1723م، مكتشف الحيوانات المنوية واسحاق نيوتن 1642-1727م، مكتشف قانون الجاذبية وقوانين الحركة الديناميكية, لقد عززت الاكتشافات العلمية من ثقة الانسان بقدراته يقول الشاعر:

"لقد كانت الطبيعية وقوانينها محجوبة في الليل" فقال الله لنيوتن كن وتحول كل شي الى نور" وشهد عصر النهضة اهم الاكتشافات الجغرافية للمناطق المجهولة فقد القى الاسباني كولمبس مراسيه في العالم الجديد عام 1492م، والقى البرتغالي فاسكودى جاما مراسيه على ساحل الهند الغربي 1498م واستطاع ماجلان في السفينة فكتوريا ان يدور لاول مـرة حول الارض (1519-1522), وغير ذلك من الاكتشافات الجغرافية, وعلى صعيد الفلسفة والادب والتاريخ والسياسة، هناك كوكبة لامعة من الاسماء التي ازدهرت في عصر النهضة امثال جوردانو برونو (1548-1600م) وبيك دولامير اندول 1494 وتوماس مور (1487-1535م)، ونقولاي ماكيافيلي (1467-1527م)، وكأمبلانيلا ومارسين فيسين 1499 كل هذا الزخم الثقافي العلمي الفني الأدبي ، ترافق مع حركة الاصلاح الديني على يدي لوثـر (1483-1546م) وكلفن 1506-1564م)، وزونغلي (1484-1531م)، الذين نادوا باصلاح الكنيسة وبالخلاص الفردي، ولم تكن هذه النهضة الثقافية الشاملة في حقيقة امرها الا حصيلة تفاعل جملة من العوامل والقوى الاجتماعية والاقتصادية والمدنية، تطور المدن وازدهار التجارة والصناعة ولدول والثورات الاجتماعية والعلوم والمناهج. ويمكننا اجماع الموقف كله بالقول، انه عصر الاكتشافات الفلكية والاكتشافات الجغرافية والاصلاح البروتستانني وضروب الابداعات الثقافية واختراع وانتشار الطباعة والسفينة البخارية والبارود، والبوصلة، وبروز الامم الدول، على اسس قومية وبدايات الاقتصاد الرأسمالي وظهور المدن وبداية التمايز الاجتماعي والصراع الطبقي.

لقد اطلقت النهضة طاقات الانسان، وافضى ذلك الاهتمام المتزايد بالحياة الانسانية، وبالجسد الانساني والطبيعة الحية، الى رؤية جديدة لكل شي، وبدلا عن المحنة حل الفرح، وباستعمال الانسان للقوى التي وهبها اياه الله حلت الحرية في توجيه العقل بدلا من الخضوع لارادة الكنيسة، واخذ البحث الفكري يحل مكان التبلد والعقم والكسل- وبكلمة تفجرت من ذات الانسان طاقاته الانسانية الكامنة المتعطشة للحرية والابداع والتنافس والصراع والمغامرة والطموح والبطولة والشجاعة والايمان باللحظ واغتصاب الفرص.

لقد نظرت النهضة الاوروبية الى الانسان وقواه بعيون انسانية إذ جعلت "انسانوية" النهضة من الانسان غاية المعرفة واداتها في ان واحد، يقول فيلسوف النهضة (بيك ميراندولا 1463-1494م) في رسالة "كرامة الانسان", "أيه يا آدام... العالم لم يخلق من أجل الانسان، ولكنه مصنوع من لحمه ودمه، ذلك الكائن الذي وهبته الالهه ارادة حرة والذي يحمل في ذاته بذور الحياة التي لا تحصى، اذا ما استعاد كرامته، لا يبقى ثمة ضياع، ولا يبق ثمة قلق، الشياطين التي كان يخافها انسان العصور الوسطى القت بنفسها في الجحيم ومعها الصليب الذي كان يبدو مكرساً لحمايتها، العالم اضحى من جديد فرح الانسان وحلمه وطموحه"على هذه النحو اخذت تعود ثقة الانسان بذاته وبعالمه وأخذ الانسان يثق بقدرته على التقدم والتطور، استعاد الانسان ذاته وعظمته حسب ياكوب بوهم (1575-1624م) "الانسان ذلك الكائن العظيم الذي ترقد السماء والارض وكل الكائنات والله نفسه في اعماقه" وبهذا المعنى يمكن ان نفهم تعريف (آلان تورين) للحداثة في كتابه ( نقد الحداثة) بقولة:

" إن فكرة الحداثة في شكلها الأعظم طموحاً كانت التأكيد على أن الإنسان هو ما يصنعه" من النهضة انبثقت الحداثة وفلسفتها للتاريخ والحضارة، كما عرفها عـالم الاجتماع الالمـاني (ماكس فيير 1864-1920م) بقوله: "ان الحداثة تعنى العقلنه، وبهذا المعنى تكون الحداثة مشروعاً انسانياً لبناء المجتمع في كل جوانبه على اسس عقلانية، مجتمع يعيش وينظم نفسه ويتصرف بعيداً عن كل غائية غيبية "وسحر أو وهم"

حرصنا على أيراد هذه المعطيات التي قد تبدو بأنها لا تتصل اتصالاً مباشراً بموضوع بحثنا، لكننا نرى أن الصورة الكاملة لفلسفة التاريخ الحديثة والمعاصرة، لا يمكن ان تكون واضحة من غير أطلالة على السياق التاريخي الثقافي النهوضي الذي يعد بمثابة الارض الخصيبة لنمو وتطور وازدهار الثقافة الأوروبية الحديثة والفلسفية على نحو خاص، يقول: "جون هرمان راندل" في كتابه "تكوين العقل الحديث", "ان ثقافة عصر التنوير... وبذور جميع ما بلغناه فيما بعد من نمو وتنور لم تنمُ براعمه بين صفوف الأشجار المشذبة المرتبة في رياض عصر النور... بل تعود الى التقاليد الثقافية للعصور الماضية"

ومع ان فكر عصر النهضة لم يكن بحثاً فلسفياً في التاريخ وقواه الحضارة والثقافة والمدنية، الا اته انجزفي هذه المرحلة من تطوره إنجازين مهمين لغرضنا الحالي هما:

1- استعاد الثقة بالانسان وقواه الحسية والعقلية وهدم الجسر الذي اقامته الفلسفة اليونانية بين الاسطورة والعلم وجسر المنطق بين الطبيعة والفن.

2- الاعتراف بان الحياة على هذا الكوكب جديرة ان تعاش من حيث هي قيمة مستقلة عن ايه مخاوف وآمال مرتبطة بالحياة فيما وراء القبر ومع ان بعض الاكتشافات العظيمة وذات النتائج الثورية البعيدة الاثر، قد حدثت في هذه المدة الباكرة من النهضة او "الحداثة المبكرة" على حد تعبير "آلان تورين".

لكن اكثر العقول نشاطاً كانت منشغلة في اعادة اكتشاف التراث الثقافي القديم والتوسع فيه ونقده ومحاكاته، ولم يبدأ الفكر بالبحث عن طريق نحو نقاط انطلاق جديدة وتلمس ذلك الطريق الا في الاعوام الاخيرة للنهضة والبداية الرسمية للحداثة، في القرن السابع عشر. ومع ذلك فيمكننا رؤية البدايـات الاولـى لفلسفـة التـاريخ الحـديثة تتشكل على يـدي رجال الفكـر التاريخي النهضـوي امثال: نقولا ماكيافيللي، (467-1527م) في مؤلفـاته: (الامير والمطارحات، وتاريخ فورنسيا "وفن الحرب"), الذي اكد فيها "أن كل حركة تاريخية هي حركة سياسية" وان التاريخ من صنع الانسان ورفض كل نظرة غيبية للتاريخ والسياسة، إذ فسر نشوء الدول واشكال الحكم والحروب والاديان بالعودة الى الطبيعة الانسانية التي لا تستقر على حال ابداً" ويرى ماكس هوركهايمر، أن ميكافللي هو أول فيلسوف للتاريخ في العصر الحديث، ذلك لانه كان يؤمن بامكانية التقدم الفكري والأخلاقي والحضاري.

ان الفكرة التي سيطرت على الافق الفكري الفلسفي التاريخي في عصر النهضة، هي فكرة القانون الطبيعي والاعتقاد الراسخ بالطبيعة الانسانية الثابتة. تلك الفكرة التي انتقلت من الانجازات التي تحققت على صعيد اكتشاف قوانين الطبيعة، ولا يكون التطور والتقدم والارتقاء الذي لا نهاية له الا بالسيطرة على الطبيعة وبالتفوق على الذات ولا تكون السيطرة على الطبيعة الا بمعرفة قوانين سلوكها المعرفة التي لا تكون الا بازدهار الثقافة علماً وادباً وفناً، ولا يكون التفوق على الذات الا بمعرفة قوانين السلوك الانسان، المعرفة التي لا تكون الا بازدهار الحضارة سياسة واخلاقاً وتشريعاً.

لقد ادرك فلاسفة عصر النهضة انه لا سبيل الى تحرير الانسان الا بهدم تلك الجسور الفلسفية المنطقية بين الحاس من جهة العلم والفن وبين المحسوس من جهة الطبيعة والاساطير، وهدم جسر اللاهوت بين الله والانسان، أي تحرير الانسان من مشاعر الخوف والرعب والضعف والعجز والتفاهة والسقوط ووهم اثم وخطيئة تستدعيان تدخل الكنيسة وسيطاً يقدم له كل فروض الولاء والطاعة سعياً هاذيا وراء الخلاص وينتقد ميكافللي الكنسية والتصور اللاهوتي عن الانسان والتاريخ والدولة يقوله: ان المسيحية "مجدت الرجال المتواضعين الميالين الى التأمل والخمول والتبدل لا رجال العمل والفعل والنشاط" وعلى ضد من هذا التصور يعلن ميكافللي ان "الطبيعة البشرية محكومة بمبدأ ثابت وان عالم الكائنات البشرية هو نفسه في كل زمان ومكان، انها طبيعة الانسان الاصلية في الحب والخوف والاعتقاد، فاذا ما عرف الامير المصلح الطبيعة البشرية استطاع التحكم بها والسيطرة عليها وكان كبار فلاسفة القانون الطبيعي، مثل "هوجو جروتيوس"و"جان بودان" و"صموئيل بيفندورق" وغيرهم كانوا كلهم يعملون على تنويعات مختلفة لهذه الرؤية البصيرة البسيطة، وهي ان القوانين الطبيعة التي تحكم السلوك الانساني هي ايضا قوانين الرب. ويعد جون بودان اكثر اهمية من "ماكيافللي" إذ انه حاول استبدال نظرية جديدة للتاريخ العالمي بالنظرة التي سادت العصور الوسطى، إذ رفض نظرية العصر الذهبي الماضي وانحطاط الانسان الأحق، وأكد التقدم والتطور التاريخي، فالمشهد الانساني قد تغير تغيراً هائلا منذ عصر الانسان البدائي: "ولو امكن استعادة ما يسمى بالعصر الذهبي ومقارنته بعصرنا لعددناه عصر حديد.ومع القرن السابع عشر اخذت تترسخ الحداثة الاوروبية وذلك باتساع سلطة العلم التي أقربها معظم فلاسفة الحقبة الحديثة، وهي شي مختلف غاية الاختلاف عن سلطة الكنيسة، من حيث كونها سلطة عقلية وليست سلطة حكومية او "متعالية" فليس ثمة عقوبات تقع على من ينبذونها، كما أن نفوذ العلم التطبيقي قد تغلغل عند الفلاسفة على نحو متزايد، وافضى التحرر من سلطة الكنيسة الى النزعة الفردية حتى بلوغ حد الفوضوية, وذلك ما يسمى بعصر الثورة المنهجية، وما الثورة المنهجية التي رافقت العلم الطبيعي الا ثورة شرعية للتخلص من المنطق عامة والمنطق الارسطى خاصة والقياس على وجه الخصوص.

ويلخص ارنولد توينبي تلك الثورة النقدية المنهجية الحاسمة بقوله: " ان المدنية الغربية مر بها بين (1563-1736م) ثورة عقلية وروحية أكبر من أي ثورة مر بها المجتمع الأوروبي منذ ان ظهر بين انقاض الامبراطورية الرومانية، ان المفكرين الغربيين الان أحجموا على قبول ارث الاجداد على أنه أمر موثوق به لقد قرروا أنهم من الان وصاعداً، يضعون عقائدهم الموروثة على المحك، وذلك عن طريق فحص الظاهر فحصاً مستقلاً، وانهم سيتبعون تفكيرهم الخاص، وايضاً تواضعوا على العيش بسلام مع الاقليات اصحاب البدع. ولم يعودوا يشعرون بانهم ملزمون ان يفرضوا عقيدة الاكثرية او طقوسها بالقوة" ان ذلك القرن يعد انتصاراً حاسماً للحداثة والانسان الحديث، ويمكن النظر اليه بمثابة قطيعة ابستمولوجية مع القرون الماضية، فمفكرو اوروبا الكبار حيئذ قرروا ان يمسحوا اللوحة ويبدأوا بالكتابة عليها من جديد، وهذا ما فعله فرانسيس بيكون (1561-1626م) في "الارجانون الجديد" عام 1620 بنقده الاوهام الاربعة واعادة المعرفة والعلم والثقافة الى حيث ينبغي ان تكون، الى الطبيعة الى التجربة الحسية، ان اهمية بيكون تكمن في كونه اكد اهمية المعرفة في تحسين حياة المجتمع، واوضح الأدوات االمنهجية للحصول على المعرفة العلمية النافعة وفي هذا السياق ياتي رينيه ديكارت( 01596-1650م) الذي عد الانسان وعقله معيار كل معرفة ممكنة، (انا افكر اذن انا موجود) لقد كان مطمح ديكارت كما كان مطمح العصر المنهجي كله هو البحث عن المعرفة اليقينية، الواضحة الثابتة المتميزة وكان منهج الشك هو الطريق الى اليقين، اليقين الرياضي الطبيعي الفطري، الذي بحث عنه ابو حامد الغزالي (450-505هـ)، في المنقذ في الضلال.

واذا كانت الحركة الثقافية التي طبعت التفكير في القرن السابع عشر قد ركزت جهودها حول مشكلات التاريخ الطبيعي ولم تعر أهمية خاصة لمشكلات التاريخ الانساني، فبيكون مثلا لم يكن يرى في التاريخ الا مارآه ارسطو استذكاراً وتسجيلاً الماضي تسجيلاً يصور الأحداث بحقيقتها وواقعيتها وديكارت، وان كان يعترف بان للتاريخ قيمة تعليمية وتربوية، لكنه عاجز عن البحث في الحقيقة لان الاحداث كما ترد لم تقع في واقع الامر بالطريقة التي نجدها عليها في سجلات التأريخ وربما كانت أهمية كل من بيكون وديكارت على صعيد تطور فلسفة التاريخ والمعرفة التاريخية عامةً تكمن في كونهما قدما الاسس المنهجية الجديدة للبحث في الظاهرة التاريخية، ويمكن تلخيص النتائج البعيدة للثورة النقدية المنهجية التي قاما بها من نقد الاوهام ونقد التراث والتقاليد والخرافات وتاكيد قيمة الحاس والمحسوس والعقل واحلال الاستقراء والتجربة محل الاستدلال والقياس والتفريق بين مناهج العلم واللاهوت والفلسفة والاخلاق. وتمهيد الارض الفكرية من كل شوائب المنطق والانطلاق من جديد بعد مسح اللوح الانطلاق من الواقع الحسي " يولد الانسان وعقله صفحة بيضاء" حسب جون لوك والانطلاق من الذات الفطرية عند ديكارت "انا افكر اذن انا موجود" ذلك هو أساس الوضوح والتمييز وهو نفسه الذي ينزل الى الجذور الاعمق نحو الميتافيزيقا الشمولية ويصعد الى مختلف فروع المعرفة الانسانية. وكما أن المبدا القائل: أن الهدف الحقيقي للمعرفة هو تحسين الحياة الانسانية وزيادة سعادة الانسان وتخفيف معاناته هو النجم الذي اهتدى به بيكون في عمله, كذلك فعل ديكارت حينما اعلن، تفوق العقل، وثبات القوانين الطبيعية، منتهجاً، طريق الشك الايجابي الصارم في التحليل والتركيب، والنقض والابرام ومن اعطاف هذين الفيلسوفين انطلقت مسيرة الفكر الاوربي الحديث، ومن فكرهما تشكلت فكرة التقدم التاريخي واخذ الفلاسفة يبحثون في الانسان والتاريخ والحق امثال: توماس هوبس (1588-1679م) الذي يعد احد اهم فلاسفة التاريخ الحديث, ولما كان يعيش في ظلال الحروب الدينية وتاثره بالمنهج التجريبي توصل الى ان غرائز البشر الطبيعية تؤدي الى "حرب الكل ضد الكل"وقد كانت فلسفة ديفيد هيوم (1711-1776م) في المحصلة النهائية ثورة منهجية في فلسفة التاريخ كما تدل عنوانات مؤلفاته:مقالة في الطبيعية البشرية, بحث حول الفهم الانساني, ومحاورات حول الدين الطبيعي, وكتاب تاريخ انجلتراواذا كان النمط الحديث لتصميم وتشكيل المجتمع الناهض قد وجد من يعبر عنه وعن قواه الراسمالية الصاعدة والنظر الى قيمها وكانها هدف التاريخ والنظر الى قوانينها وكانها قوانين الطبيعة الابدية، ومن ثم فأن الخضوع له ليس أسمى الاوامر الاخلاقية فحسب بل هو ضمان السعادة على وجه الارض، وهذا ما فعله معظم فلاسفة المدرستين التجريبية والعقلية, منهم (جون لوك 1632-1704م) هو رسول الثورة الانجليزية 1688م وفيلسوف الليبرالية الجديدة، في كتاباته "مبحث في الفهم الانساني 1687 ورسالة في التسامح، وكتابه عن التربية، وكتاباته عن الحكومة والعقل الاجتماعي نقول اذا كان هذا الاتجاه قد وجـد أن هذا العـالم هو أحسـن العـوالم، حســب ليبنتز (1646-1716م) فان هذه العملية من التطور التاريخي في سياق الممارسة الحية لحركة المجتمع، لم تكن تسير بهذه الصورة الخلابة التي يرويها لنا التاريخ، فمن المعروف انه ما ان تكون الاحداث تاريخية حتى تختفي الصلة الحتمية بينها وبين الافكار التي افرزتها، ويصعب معرفة حقيقة فكرة من الافكار من غير العودة الى السياق التاريخي التي ولدت فيه وعبرت عن حاجة من حاجاته، وفي هذا السياق لا بد من الاشارة الى ان التاريخ هو في الحقيقة تاريخ صراع وحرب وتدافع على الخيرات، فيه فقراء ضعفاء مغلوبون مقهورون يخدمون أغنياء أقوياء غالبين قاهرين في السلم ويدافعون عنهم في الحرب، هذا التاريخ الذي يدور حول (محور التجارة "الحرب الاحتكار") هو التاريخ الذي سارت فيه النهضة الاوروبية، التي تحملت فيه الطبقات البائسة "المصاريف الاضافية" كما يقول ماكس هوركهايمر وبهذا المعنى، قال المفكر الفرنسي (مونتين) "ليس باستطاعة احد ان يربح الا ما يخسر الاخر" ان الصراع على الثروات والذهب والربح ونمو التجارة والمدن دفع بعشرات الالاف من الناس الى قاع المجتمع حيث البؤس والتشرد والجوع والجهل والخوف وكل الالام، كانت تلك الحشود البائسة الملقاة على رصيف الرأسمالية الجديدة تمثل الشكل الاول لظهور البروليتاريا الحديثة. وكان وضعهم واحلامهم هو اساس اكبر اليوتوبيات في الازمنة الحديثة، بل قل ان التغييرات المتسارعة والواسعة في جميع قوى التاريخ المدنية والثقافة والحضارة التي شهدها المجتمع الحديث قد خلق مناخاً روحياً شديد التفاؤل بالمستقبل وبيئة خصبة لتفتق الخيال والحلم والامل باستشراف المجتمع المثالي السعيد القادم، هذا ما عبر عنه بيكون في كتابه "اطلانطة الجديدة" وتوماس مور (1478-1535م), في (اليوتوبيا) وكامبانبلا في "مدينة الشمس" واذا كان حلم بيكون البارد بمجتمع منظم تنظيماً علمياً تجريبياً افلاطونياً صارماً، فان حلم توماس مور وكامبانيلا، كان حلم من لا يريد هذا التاريخ ويتمنى زواله ولا يحلم الا بحركته من جميع الحركات الى جميع الجهات حول محور العمل للانتاج واللعب للابتهاج والاكتفاء بالذات والاستغناء عن الغير والجمال للجميع، انه حلم ناجم عن رؤية البؤس والفقر والالام، وتحول الناجين من الرق وجماهير المدن الكبرى الجائعين والحطام البشري المتبقى من النظام الافل الى عمال مأجورين تحت رحمة الاله المينفكتورية الجديدة التي تسحقهم بلا رحمة، هذا الوضع البائس قد خلق لديهم الرغبة والحلم، الرغبة في الهرب من تاريخ محكوم بالصراع والظلم والقبح والشر، وحلم البحث عن تاريخ العمل واللعب والابتهاج، ان رد فعل الانا الخلاقة كانت حلماً خافق الجناح نحو البحار القصية صوب المدن الدافئة والمرابع الندية، حيث الخير والحب والمأوى والعمل والفراغ والسعادة، لقد كان هذا الحلم والتمني والرجاء والمثال، الذي حرك خيال هؤلاء الفلاسفة، هو النجاح الذي حققه العلم في تغيير المجتمع، وكان عصر المعرفة الجديد يوشك ان يبدأ وقد وقف بيكون ومور وكامبانيلا على ضفاف الشاطئ الجديد.

على مشارف المرحلة الحديثة اذن، كانت هناك اساليب عدة يتحدث بها الاوروبيون عن التغير والزمن والتاريخ غير ان الحكم العام الذي يمكن اصداره على هذه المرحلة هو أن كل ميدان من ميادين المعرفة والبحث كان يمر في نمو وتوسع سريعين، وكان هناك اتفاق عام بين جميع المفكرين والعلماء من كل الاطياف والتخصصات، هو ان العالم، مهما يكن من باقي صفاته، ليس شيئاً ثابتاً ولا ناجزاً، بل هو في كليته وفي كل جزء من اجزائه، في تبدل ونمو وتغير وتطور وصيرورة ويرى "هرمان راندال" في هذا الحس العميق بأهمية الزمن، وبأهمية التبدل التاريخي، الذي يشمل كل شي، (من النجوم والذرات الى المجتمع والعقائد والمثل العليا)، لهو المزاج المشترك في الازمنة الحديثة.أما الى اين يتجه نمو عالمنا الفلكي البشري؟ وهل يصح تسمية هذا النمو تقدماً "او دوراناً او تدهوراً" فمسألتان يختلف فيهما الناس جميعاً وعلى الرغم من أن القرن السابع عشر، قد شغل اكثر ما شغل بتأسيس مناهج وطرائق المعرفة السليمة بل يمكن القول انه قرن التاريخ الطبيعي، وشيوع طريقة العلم النيوتوني، نسبة الى نيوتن، لكن حقل الدراسات التاريخية والتفكير الفلسفي في التاريخ وقواه، قد اتسع واكتسب ابعاداً منهجية ومعرفية جديدة، وهذا ما يمكن ان نراه عند عدد من فلاسفة التاريخ في بداية القرن الثامن عشر، امثال الايطالي فيكو (1668-1774م) الذي تمكن الى حد بعيد من الافادة الواعية من التقدم الذي طرا على مناهج البحث والتحليل النقدي في العلوم, والمعلومات المتراكمة من الاستشراق والدراسات الانتربولوجية، وتوظيف كل ذلك في كتاب (العلم الجديد والطبيعة المشتركة لامم) الذي تصور فيه تاريخاً عالماً واحداً يتحرك في ثلاث دورات كبرى تحت رعاية العناية الالهية. وتعود اهمية فيكو في كونه أول من تصور ان التاريخ يشتمل على كل الخبرة البشرية في الحضارة والثقافة والمدنية، وهو عظيم الأهمية على صعيد التأسيس المنهجي لفلسفة التاريخ.


د. قاسم المحبشي