مساء الجمعة الموافق 25 أكتوبر 2024م نظمت وحدة الدراسات الفلسفية والتأويلية في المعهد العالمي للتجديد العربي ندوة فكرية مهمة بعنوان: "أركان بناء منظومة فلسفية عربية حديثة"أدارها بكفاءة واقتدار الأستاذ الدكتور مصطفى النشار، أستاد الفلسفة في جامعة القاهرة ورئيس الجمعية الفلسفية المصرية كرست للبحث في حاجة العرب الماسة إلى الفلسفة اليوم في إطار مشروع فكري راهن يسعى إلى تجديد المنظومات الفكرية للإنسان العربي يحيث يصبح هذا الإنسان قادراً على الإشتراك الفعلي بما هو كوني. قدم ورقتها الرئيسة د. خالد كموني، رئيس وحدة الدراسات الفلسفية والتأويلية بالمعهد، ويعقب كلاً من: د. هدى الكافي، أستاذة مبرزة في الفلسفة، د. سمية بيدوح أستاذة فلسفة مختصة بالبيوإيتيقا، د. عماد عبد المسيح ، أستاذ في الفلسفة وقس بروتستانتي، د. محمد زكّاري, المختص في فلسفة الدين، أ. أشرف تلوش وهو باحث في الفلسفة، د. عز الدين الرتيمي، باحث مختص في العلوم الإنسانية والدينية، د. فوزية مراد، مختصة في الفلسفة الحديثة والمعاصرة، أ. نجلاء نصائرية المختصة في الفلسفة السياسية، ود. سارة الدبوسي، حاصلة على دكتوراه في الفلسفة السياسية.
حرصت على حضورها بحوافز شتى أهمها:
اهتمامي الشخصي بالتجديد الفلسفي وفلسفة التجديد وثانيا كوني عضوا في وحدة الدراسات الفلسفية وثالثا لاهميتها الاستثنائية؛ اداراةً ومحتوىً. على مدى ثلاثة ساعات أحتدم النقاش العقلاني المستنير حوّل مشروع وحدة الدراسات الفلسفية والتأويلية الذي قدمها الأستاذ الدكتور خالد كموني استاذ الفلسفة في جامعة لبنان ورئيس الوحدة. وقد سنحت لي الفرصة للتداخل من موقع إقامتي الجديد في قلب أوروبا الباردة، الأراضي المنخفضة بما توفر لدي من تغذية راجعة بحكم المقارنة المستبطنة بين الحالي العربي والغربي لاسيما وقد كنت ممن عاشوا مراحل الموجات الحضارية الثلاث بحسب توفلر؛ حضارة موجة التواصل والاتصال البدائية عبر الحمام الزاجل والصوت واللجب وحضارة الموجة الثالثة؛ موجة الاتصالات الكتابية والسلكية عبر البرق والهاتف والإعلام التقليدي وحضارة الموجة الثالثة موجة الإنترنت والاتصالات الرقمية عبر الانترنت والفضاء الأفتراضي والذكاء الاصطناعية فيما يسمى بالثورة الرابعة. من المؤكد إن تلك المتغيرات المتسارعة تجعل الكائن العاقل يشعر بحالة من الغربة والاغتراب فضلا عن الدهشة والاندهاش؛ الاغتراب؛ بمعنى عدم التكيف والامتثال والاندماج، حال شعورية تنتاب الناس في لحظة تأملهم للعالم حد الدهشة والدهشة لا تأتي إلَّا في لحظة اغتراب الكائن، إذ تجعله يرى العالم عن بُعْد بعكس القرب المُدْمَج، فأكثر الأشياء قُرْبًا مِنَّا هي أكثرها بُعْدًا عن فهمنا! فالغارق في البحر لا يراه والغاطس في الغابة لا يراها، وكلما ابتعدنا مسافة عن الأشياء التي تغرقنا كلما استطعنا رؤيتها بوضوح أكثر وتمكنَّا من تقييمها وتقديرها كما هي عليه في الواقع لا كما نُحبُّها أن تكون! لذا قيل إنَّ الحُبَّ أعمى! لأنَّ المُحبِّين يقتربون من بعضهم حَدَّ الالتصاق والتوحُّد بما يجعلهم عميانًا عن رؤية بعضهم واكتشاف المميزات والعيوب. البعد يكشف والقرب يعمي. وبهذا المعنى نفهم عبارة جان جاك روسو "إنَّنا نحتاج إلى الفلسفة لكي نستطيع رؤية الاشياء التي نعيشها كل لحظة في حياتنا" والدهشة ليست مُجَرَّد تعجُّب، بل هي حالة كشف وانكشاف. إذ منذ وصلت هولندا وانا احاول التحقق من معاني المفاهيم التي عرفتها عن النهضة الأنسانية والحداثة وما بعد الحداثة وكل يوم اكتشف المعنى الحقيقي للمفاهيم المجردة التي عرفتها سابقا في مشهد أفلاطوني حقيقي ادركت أن المعرفة تذّكر إذ كنت أشبه بالخارج من كهف أفلاطون حينما اكتشف العالم الحقيقي الذي لم يكن قبلا يرى إلا أشباحه وظلال كائنات المتحركة. كانت مزودا بالمعرفة من عالم المثُل فإذا بي أتذكرها كلما شاهدت ما صدقها في الأشياء في عالم الممارسة الحياتية اليومية المباشرة. في الواقع لم أكن اصدق كل ما قراته عن النهضة الأوروبية ومشروع حداثتها ومؤسساتها ودولها وتمدنها وجودة جامعاتها واحترام حقوق الإنسان والعدالة والحرية وعدم التمييز بين الجنسين والنظام والقانون والمواطنة والفرص واشياء كثيرة جدا وربما شاهدت هنا ما يسميه فريدريك لونوار في كتابه المهم (المعجزة السبينوزية؛ فلسفة لإنارة حياتنا) إذ يرى " أن سبينوزا وفلسفته وتجربته الشخصية تقدم «أفضلَ طريقٍ ممكنٍ إلى الخلاصِ» لكل أفراد المجتمع في هذا العالم الذي يقف على حافة الانهيار، إذ تهتز الديمقراطيات العريقة، وتنتشر النزاعات الطائفية ونزاعات الهوية والحزبية في كل أرجاء العالم. ففي هذا الكتاب يقدم لونوار «درسا فلسفيا وأخلاقيا» وهو ليس تحليلا أكاديميا صارما يُقدم لمختصي الفلسفة دون غيرهم، بل هُو درسٌ أخلاقي يستخلصه المثقف العادي ويستنير به في علاقاته الاجتماعية والسياسية. ذلك هو ما يوثق علاقة الفلسفة بالحياة اليومية، ويربط بين «النظرية والتطبيق». فبالنسبة إلى لونوار، لا يتطلب تبني رؤية فلسفية ما للعالم والإنسان والحياة لدى قطاع كبير من المثقفين معرفة دقيقة بالنظرية الفلسفية، التي نشأ ذلك الموقفُ في إطارها. حقا لقد وجدت إن الفلسفة هنا ليست مجرد معرفة نظرية ونشاطا عقليا عالي التجريد بل هي أسلوب حياة وفن عيش ومشروع نهضة وهكذا يمكن القول إن دولة هولندا اليوم هي ذاتها التي وصفّها إسبينوزا في كتابة السياسة واللاهوت إذ كتب " ليست الغاية القصوى للدولة أن تهيمن على الناس، ولا أن تكبح جماحهم بالرهبة، بل أن تحرر الإنسان من الخوف، حتى يعيش ويعمل آمناً مطمئناً كل الاطمئنان، دون أن يلحق به أو بجاره أي أذى. وليست غاية الدولة أن تجعل من الكائنات العقلانية حيوانات ضارية وآلات (كما هو الحال في الحرب) بل تمكين أجسامهم وأذهانهم من أداء وظيفتها في أمان، أن غايتهم أن توجد الناس ليعيشوا على العقل السليم الصادق ويمارسوه.... أن غاية الدولة حقاً هي الحرية" واثناء استماعي إلى صديقي المهندس المثقف الهولندي الجنسية دكتور حسين جعفر السقاف وهو يتحدث عن تجربته الطويلة في هولندا تبينت إن الفلسفة هنا تعاش حقا وفعلا في الحياة اليومية للناس. وهذا ما جعلني اعيد التفكير في وظيفة الفلسفة الحيوية إذ تبين لي وانا اتأمل تاريخ العالم إن الحضارات البشرية استندت في قيامها على مبدئين أما لاهوتي ديني( الحضارة الرومانية المسيحية والحضارة الإسلامية وربما اليهودية المتعثرة ) أو فلسفي ميتافيزيقي كالحضارة الصينية واليونانية والحضارة الحديثة) أو خليط من الفلسفة واللاهوت وهذا. ما تتميز به معظم حضارات العالم. فمشروع النهضة والحداثة الغربية المنتصرة اليوم في العالم هو مشروع استند على أسس فلسفية خالصة وبهذا المعنى نفهم اثر فلاسفة التنوير الفرنسيين في الثورة الفرنسية والجمهورية وكذلك أثر الفلسفة البراجماتية في الثورة الأمريكية ودولتها الاتحادية التي تأسست بعدها مباشرة.
ولا يخفى على أحد أثر الفلسفة الصينية الكونفوشيوسية في النهضة الصينية الراهنة إذ تقع الفكرة الكونفوشية في صلب نهضة الصين وتمدها بالزاد الروحي الثقافي المتجدد باستمرار. إذ يرى الدكتور الصاوي أحمد الصاوي" إن التنمية الصينية هي شاهد حال ومآل على حيوية الأسس الثقافية التي تستند على رؤية إستراتيجية وضعتها نخبة الصين الحديث تمحورت حول ثلاثة أسئلة فلسفية هي : من نحن ؟ وماذا نريد؟ وكيف نحقق ما نريده بالعمل مع الآخرين؟ تلك الأسئلة الثلاثة لا ريب وأنها تستند وتتسق مع الأسس الفلسفية الراسخة في البنية الحضارية والثقافية الصينية التليدة. والخلاصة أن الطاو يمعنى الطريق أهم رمز روحي ثقافي في الفلسفة الصينية إذ تدور الموضوعات الرئيسية حول طبيعة الطاو وكيفية تحقيقها، وإن ألطاو هو شيء فوق الوصف، وكيفية إنجاز أشياء عظيمة عن طريق وسائل صغيرة. ويقول المثل الصين( وجدت الطريق لان أناس كثر ساروا في اتجاه واحد) وفكرة الحزام والطريق الصينية المعاصرة استلهمتها النخبة الصينية المعاصرة من الطاوية ذاتها. تجربة الصين في علاقة الثقافة بالتنمية تجربة جديرة بالمزيد من الدراسة والبحث والتفكير. في تسعينات القرن الماضي، وضع عالم أمريكي إثناء تصنيفه لأهم مائة شخصية مشهورة ذات تأثير كبير على التاريخ البشري. وضع كونفوشيوس في المركز الخامس بعد المسيح أما بالنسبة للصينيين، فإن كونفشيوس هو في المرتبة الأولى، لأن كل شخص قد تأثر بالكونفوشية بدرجات مختلفة. ولدكونفوشيوس سنة 551 ق.م في مدينة تسو Tsou وهي إحدى مدن مقاطعة لو . Lu كان كونفوشيوس مغرماً بالسعي لتحقيق المدينة الفاضلة التي يدعو إليها وهي مدينة مثالية لكنها تختلف عن مدينة أرسطو الفاضلة، إذ إنّ مدينة كونفوشيوس مثالية في حدود واقعٍ ممكن التحقيق والتطبيق، بينما مدينة أرسطو تجنح إلى مثالية خيالية بعيدة عن مستوى التطبيق البشري القاصر. وكلا الفيلسوفين متعاصران . فيما سماه كارل ياسبرس بالعصر المحوري. وهكذا يمكن القول إن وظيفة الفلسفة ليست وظيفة معرفية نظرية فحسب بل وعملية تطبيقية بالغة الأهمية والقيمية تنطلق فكرة الاستشارة الفلسفية من فرضية؛ أن الأفكار والمعتقدات تؤثر في سلوك الناس. فالناس يسلكون وفقا لما يعتقدون. فإذا اعتقدت جماعة من الجماعات بأن ما تراه وتقوله وتعتقده هو الحقيقة وما عداها باطلا فليس ثمة قوة في العالم يمكن أن تجبرها على تغيير معتقدها. وإذا أعتقدت أن الناس أشرارا ويضمرون لك الحقد والانتقام فمن المؤكد بإن علاقاته بالمجتمع ستضطرب. وإذا اعتقدت أنك تعرف كل شيء ولا تحتاج إلى معرفة المزيد فمن المؤكد بإنك ستكف عن القراءة والتفكير. وإذا أعتقدت بأنك أفضل خلق الله فمن المؤكد بإنك سوف تحتقر الآخرين. وإذا اعتقدت أن النساء يجلبن النحس والهلاك فمن المؤكد بإنك لن تفكر بالزواج. وإذا أعتقدت أن هذا العالم مسكون بالجن والشياطين فلن تجرؤ على الخروج من منزلك.وإذا أعتقدت بأن بيتك مسكون بالأرواح الشريرة فلن تستطيع النوم فيه، وإذا أعتقدت أنك المدافع الأمين عن دين رب العالمين فسوف ترى بكل من يخالف أعتقادك كفرة وشياطين ومأواهم النار وبؤس المصير! وإذا أعتقدت أن الناس في ضلال عظيم وأنك معني بهدايتهم إلى الطريق القويم فأمامك خيارين؛ الأول هو إقناعهم بالتي هي أحسن وجعل من ذاتك مثلا اعلى للصدق والاستقامة والأمانة والزهد والتواضع والصبر والشفقة والرحمة والتسامح والعدالة والرحابة وكل القيم الفاضلة الجاذبة للناس لجعلهم يقتدون فيك. والثاني؛ أن تشحذ سيفك وتعلن الجهاد تحت أي رأيه تحبها حتى تتمكن من جعل الجبناء من الناس يؤمنون وهو صاغرون لكنهم غير مقتنعين ويتحينون الفرصة للثأر والانتقام وهكذا تتغذى الحروب والأيديولوجية من داخل دائرتها المغلقة. هذا في مجال الاعتقادات والاراء والأفكار التي لا تحتمل القياس والبرهان التجريبي ، أما في العلم والمعرفة العلمية فالحقائق موضوعية ومحايدة ومختبرة ومجربة في عالم الممارسة والمشاهدة بالاستقراء المباشر. فالقول بإن كل الغربان سوداء، يمكن أبطاله إذا ما أكتشفنا إن بعض الغربان بيضاء. والقول: إن كل البشر حيونات عاقلة ، لا يمتلك قوة الحقيقة العلمية طالما وأن الكثير من البشر لا يتصرفون بحسب معايير العقل والحس السليم. وهكذا هو الحال دائما مع الناس والمعتقدات والأفكار. وكما هو الحال في الطب النفسي المعني بعلاج اختلالات نفوس الأفراد وما يصيبها من علل القلق والفصام والاكتئاب والوسواس والرهاب والهستيريا وغيرها فكذلك تضطلع الفلسفة بعلاج اختلالات العقل واضطرابات التفكير فعلى الرغم من أن العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس بحسب ديكارت إلا أن الاختلافات بينهم تكمن في طريقة استخدام عقولهم في التعامل مع واقعهم. وقد بينت الدراسات الميدانية أن كثير من الممارسات والسلوكيات التي يسلكها الناس ليست عقلانية بالضرورة إذ أكدت نظرية التحليل النفسي بإن الذات الإنسانية تشتمل على ثلاثة عناصر الأنا والهو والهي. الأنا الواعية المحكومة بمبدا الواقع والهو الغريزة المحكومة بمبدا اللذة الليبدو بحسب فرويد والأنا الاعلى المحكوم بالضمير والإيمان الديني والقيم الاجتماعية. وربما كان افلاطون في اسطورة الكهف هو أول فيلسوف يكشف أثر الحياة والعلاقات الاجتماعية في سلوك الإنسان المندمج في مجتمعه والمتكيف مع واقعه الذي وجد ذاته فيه وهذا ما يسمى القصور الذاتي يتجلى في مقاومة تغيير الأفكار المالوفة والاكتفاء بالتصورات والمعتقدات المورثة والمتناقلة عبر الأجيال منذ آلاف السنين بوصفها نسقا من الاستعدادات المُكتسبة بالتربية والتعليم والثقافة والممارسة الاجتماعية التي تحدد سلوك الفرد ونظرته إلى نفسه وإلى الآخرين والحياة و الكون، وهو أشبه ما يكون بطبع الفرد أو بالعقلية التي تسود في الجماعة، لتشكل منطق رؤيتها للكون والعالم. وهذا هو ما يسميه بيير بورديو ب هابيتوس. ورغم أن الانسان كائنا عاقلا إلا انه يقوم التفكير كما تقاوم القرود السير على قدمين إذ أن التفكير العقلي هو ممارسة تستدعي الحيرة والقلق والتوتر والشك والتساؤل فقد يعيش الناس الالف السنين في إطار عطالتهم الثقافية والسيكولوجية دون التساؤل عن معناها. وفي الذات الإنسانية آليات دفاع سيكولوجية أو استراتيجيات نفسية يستخدمها العقل الباطن لحماية الفرد من التوتر الناجم عن الأفكار أو المشاعر التي تجلب القلق والحيرة. ومنها: 1-الكبت أو القمع محاولة دفن أو إخفاء الأحاسيس أو الأفكار المؤلمة من وعى الإنسان، وهذه الأحاسيس أو الأفكار بدورها قد تعود لتظهر علي السطح بصورة رمزية. 2-التماهي(التوحد) وهو إدماج موضوع أو فكرة أو التوحد والتقارب اللاواعي مع الأشخاص الذين يحملون نفس الأفكار. 3-التبرير وهو محاولة إيجاد سبب منطقى للسلوكيات أو الدوافع عن طريق اعطاؤها مبررات أو أسباب مقبولة، وبصفة عامة فإن القمع(الكبت) يعتبر الأساس أو القاعدة التي تنبع منها معظم الآليات الدفاعية الأخرى. ويمكن تعميم قانون القصور الذاتي على مختلف الظواهر الاجتماعية والثقافية فالميل إلى مقاومة التغيير هو ميل عام عند المجتمعات البشرية مبعثه الحفاظ على العادات والتقاليد والخوف من المجهول.وقد رصد فرانسيس بيكون أربعة أوهام تصيب العقل هي: أوهام القبيلة” تتصل بالطبيعية البشرية بوصفها مقياسا لجميع الأشياء. ومن ثم فأفكارنا هي صور عن أنفسنا أكثر من كونها صور للأشياء. ومن طبيعة الفهم الإنساني أنه يفرض في الأشياء التشابه أكبر مما يجده فيها. اختلاف. وأوهام المسرح: ومصدرها السلطة المعنوية للشخصيات الشهيرة أو سلطة المعتقدات القديمة.... وتتمثل هذه الأوهام في الحالة التي نقوم فيها بالاعتقاد من دون وعي بشيء ما فقط لأن قائله فلان أو أن يتحول رأي فلان إلى حجة غير قابلة للنقد أو التشكيك... لذلك سماها بيكون أوهام المسرح لأنها تتربع على خشبة مسرح الأفكار بوصفها نماذجا مقدسة ممثلة للحق والحقيقة المطلقة على غرار أن المثل السائر: الأسلاف لم يتركوا شيئا للأخلاف!
وأوهام الكهف إذ أن كل ذات إنسانية ترى الأشياء بعين طبعها وطبيعتها بحسب قدرتها على الفهم والإدراك والمزاج. بعض العقول مثلًا تنزع إلى التحليل وترى أوجه الخلاف والتباين في الأشياء أينما وجدت، وبعض العقول بطبيعتها تركيبية تميل إلى البناء والتركيب وترى أوجه الشبه بين الأشياء. وبعض العقول تميل كثيرًا إلى تقدير كل ما هو قديم، وبعضها تحتضن بحماس كل أمرًا جديد، والقليل منها تستطيع الاحتفاظ بالحد الوسط، فلا تقضي على ما أوجده الأقدمون من أمور صحيحة ولا تنظر بعين الاحتقار إلى الاختراعات الجديدة، لأن الحقيقة لا تعرف تحيزًا أو تحزبًا.
والطائفة الرابعة من الأوهام هي: أوهام السوق؛ سوق الحياة الاجتماعية وتفاعلاتها الرمزية لأن الناس يخاطبون بعضهم بعضًا عن طريق اللغة التي فرضت كلماتها على الناس وفقًا لعقلية أهل السوق والعامة. حيث ينشأ عن سوء تكوين هذهِ الكلمات وعدم موافقتها تعطيل شديد للعقل. فالألفاظ تتكون بطبيعة الحال طبقًا للحاجات العملية والتصورات العامية، فتسيطر على تصورنا للأشياء، فتوضع ألفاظ لأشياء غير موجودة بالفعل، أو غامضة أو متناقضة، وهذا يحدث كثيرًا في المناقشات فتدور كلها على مجرد ألفاظ.هذه الأوهام هي تصيب كل الذوات البشرية بهذا القدر أو ذاك. فضلا عن الأوهام الأخرى التي منها؛ المبالغة والكذب والاشاعة والتهويل والتهوين والتعصب والتمييز والاحتقار أو التقديس والإجلال. وتلك حالة طبيعية للذات الإنسانية العاقلة إذ أن العقل البشري وهو يحاول التعرف على ما حوله من ظواهر العالم لا يعود كما ذهب بل يرجع محملا بالحقائق والأوهام والأصنام والأوثان في كل زمان ومكان. تلك البنية الصنمية الوثنية للعقل الإنساني ظلت ترافق الإنسان مثل ظله بتنويعات لا حصر لها من عبادة الطواطم ثم الأوثان والأصنام وارواح الموتى إلى أن هداه إلى إلى التجريد فجردها في التوحيد المتعالي للوجوس والخير الأسمى والمحرك الذي لا يتحرك والخالق البارع المصمم الأوحد الذي إذ تصوره غير موجودًا نجم عن تصورك محال.فهدمت الأوثان والأصنام والأوهام وبقي الواحد الحق الذي ليس مثله شيئا. فكيف يمكن علاجها؟ تلك هي وظيفة الفلسفة بوصفها تطهيرا دائما للعقل من الأوهام والأوثان وذلك عبر السؤال والشك والتجاوز إذ تعد الفلسفة بما هي طريقة متميزة في ممارسة التفكير وإنتاج المعرفة واحدة من أهم مصادر وأدوات الفهم والتنوير إذ يشهد تاريخ الافكار بان حضور الخطاب الفلسفي الأصيل حيثما وجد عبر التاريخ كان الشرط الرئيس لنمو وتفتح وازدهار المعرفة العلمية والأفكار الخلاقة التي ابدعت اخصب وانضج المفاهيم الاساسية في تاريخ المعرفة البشرية. لقد كانت الفلسفة لدى اليونان( ومازالت) هي الباثوث pathos، أي الاحساس الانفعالي المفرط الذي يحرك الانسان اندهاشاً نحو التساؤل الحر وكشف المعاني العميقة للحياة. وبهذا المعنى نفهم أهمية تجديد الفلسفة وفلسفة التجديد التجديد جوهر الفلسفة ومضمارها بوصفها الفكر الذي يفكر في العالم وفي ذاتية باستمرار فهي البحث الدائم فيما وراء الظواهر وفيما ما ينبغي أن يكون وليس ماهو كائن.والتجديد والتغيير والتطور والتقدم والنمو والارتقاء خاصية جوهرية من خصائص الحياة والتاريخ والزمان والمكان، ففي عالم ما تحت فلك القمر، عالم الأرض والإنسان والحاس والمحسوس والفعل والانفعال لاشئ يدوم على حال من الأخوال، فكل شيء في حركة وتحول وتبدل ونمو وتجدد باستمرار وهذه سنة من سنن الكون وقانون من قوانين الحياة والتاريخ. فالنمو هو جوهر الحياة وكل الكائنات الحية تنمو وتنضج وتكبر وتشيخ وتموت وتعود من جديد وتتبدل من حال إلى حال ولا يستطيع المرء أن يستحم بمياه النهر مرتين! وطالما أن الواقع يتغير ويتجدد باستمرار فمن الضروري للفكر أن يتجدد باستمرار. والفلسفة بوصفها أكثر اشكال الفكر تجريدا هي أولى بالتجديد نظرية ومنهجا. إذا هي مثلها مثل أنساق المعرفة الانسانية والاجتماعية والطبيعية بحث في مشكلات العالم وتجاوزها. وقد ارتبطت الفلسفة منذ نشأتها الباكرة في السؤال المتجاوز لذاته باستمرار فهي صبوة العقل الذي لا يكف عن التساؤل في معنى العالم فماذا أكون وماذا أعرف وكيف أعيش؟ أنها الميتافيزيقا أي مابعد الطبيعية والمابعد نزوع تجديد أصيل في صميم أم العلوم. وهي بذلك تقع على الطرف النقيض للاهوت المقدس الذي يكتفي بالنقل والتكرار والتأكيد ففي عالم المقدس ليس هناك اسئلة بل أجوبة وحمدا وشكرا أما في عالم الأنسان فتحضر الأسئلة والتأمل والقلق والتفكير والحوار والانفعال. لأن هدف الفلسفة هو معرفة الحقيقة من خلال فهم للواقع وتملكه. أداتـها في هذا البحث عن الحقيقة هو هذا الذي نسميه عقلا. هـذا الذي يسترشد ببوصلة الحدس . لكن ماذا نعني بالعقل؟ إنه “قدرة الفكر البشري على ملاحظة ومعرفة الأحداث بشرية كانت أو طبيعية في ماضيها أو حاضرها والقدرة، بعد ذلك، على التنبؤ بـها”. إذا كان يلاحظ ليعرف ويعرف لكي يكون قادرا على التنبؤ، فمعنى هذا أنه ينطلق، منذ البدء، من الجهل. فحينما ظهرت الفلسفة في اليونان القديم كانت قطيعة ابستمولوجية مع الاسطورة
وحينما ظهرت الفلسفة الحديثة كانت قطيعة ابستمولوجية مع المنطق الصوري الارسطي. وتجديد الفلسفة ارتبط مع حركة الواقع والتاريخ وايقاعاته فكلما تغيرت الحياة والتاريخ كلما زادت الحاجة إلى تجديد الفكر والمعرفة وبهذا المعنى نفهم مسعى الفيلسوف البراجماتي جون دوي في كتابه تجديد الفلسفة ونفهم مسعى الفيلسوف العربي زكي نجيب محمود في دعوته إلى تجديد الفكر العربي. إذ أن حاجة الفكر الدائمة إلى التجديد هي حاجة حيوية حاسمة في كل زمان ومكان. أن الحاجة إلى تجديد العقل تنبع من السؤال التالي" ما الذي يحدث للعقل عندما ينطلق في حركة سهمية في رحلته لاكتشاف الحقيقة؟ هل ، بقدر ما ينتهي به الأمر إلى اكتشاف “حقيقة” الأشياء ، يجهل ، بالمقابل، ذاته أي يخسرها في شكل ذوبان في تمظهرات الأشياء المادية، أو أنه يعود إلينا بغنيمة الاكتشاف مضاعفا بوعي ذاتي بضرورة التعمق في معرفة ذاته أكثر؟ والجواب هو أن العقل وهو يتأمل ويكتشف المعنى في هذا العالم لا يعود كما بدا سالما غانما بل يغترب في دروب رحلته التعقلية في مجموعة من المفاهيم الكلية هي حصيلة رحلته التأملية تتحول من طول الاستخدام ومرور الزمان إلى أوثان واوهام تكبل حركته وتعيق استئناف دهشته. أن الفلسفة اليوم مدعوة إلى تجديد ذاتها ومناهجها واساليب تدريسها بما يجعلها قادرة على استئناف دهشته وقول كلمتها
فاذا كانت بوما ميرفا اليونانية تطلق جناحيها للريح مع مقدم الأصيل بحسب هيجل ويقصد أن الفلسفة لا تحضر الا في آخر النهار بعد اكمال مسار العالم لتتعقله وتمنحه المعنى فإنها اليوم مدعوة للاستيقاظ منذ بزوغ الفجر لترى ما يحدث
في عالم سريع الايقاع والتغيير. فالأمس غير اليوم وغدًا غير الأمس، وحوادث الزمان والناس والمعرفة هي جديدة وفريدة ونوعية في كل لحظة من لحظات السيرورة التاريخية. ونحن نعيش التاريخ كما تعيش الأسماك بالماء وليس بمقدورنا الخروج منه أو مغالطة استحقاقاته الفورية المباشرة فأما أن نستجيب إلى تحدياتها ونتدبر أمرنا في كيفية تجاوزها وأما سحقتنا بعجلاتها وتجاوزتنا. ولا شيء يأتي إلى التاريخ من خارجه ولا شيء يخرج منه. التاريخ هو التاريخ يمضي إلى سبيله من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل وليس بمقدور أحد إيقافه.
أن تجديد الفلسفة يعني فيما يعنيه تجديد اسئلتها وطريقة نظرها واساليب تدريسها
بروح فلسفية جديدة كتب الزهيدي مصطفى" إن ما يجعلنا في حاجة إلى إعادة النظر في تعريف الفلسفة، وقيمتها، هو تشكيكنا في الطرح الذي يعتقد في كون كل من ولج إلى المدرسة / المؤسسة قد تعلم الفلسفة. وهذا التشكيك نابع من شهادات الواقع، التي تجعلنا نصادف، يوميا، وفي وضعيات مختلفة، طلابا درسوا الفلسفة في المرحلة الثانوية أو الجامعية، لكنهم في كل مناحي حياتهم وسلوكهم، لا يزالون يسلكون ويتصرفون، كما يتصرف بادئ الرأي - الإنسان البسيط في التفكير الذي يسلّم لانطباعاته. وهذا ما يجعل المسلمة، التي تقدم إلينا، بأن تعريف الفلسفة بات واضحا بمجرد ما نقول إنها محبة / عشق / إيثار، ونزوع نحو الحذق، والمهارة، والحقيقة، والحكمة، لا يفي بالغرض. من هنا نكون دائما في حاجة إلى البحث عن تعريف للفلسفة خارج التعريفات الايتيمولوجية والمعجمية والتاريخية الشائعة. بل نكون هنا، في حاجة إلى استيعاب «روح الفلسفة»( ينظر، الزهيدي مصطفى، تجديد النظر إلى الفلسفة بمناسبة يومها العالمي، صحيفة الشرق الأوسط)
أننا إذ نتفق مع تلك الدعوة لتجديد الفلسفة نرى أن مقومات التجديد لا تقتصر على تجديد الدرس الفلسفي الأكاديمي ومساقاته التقليدية بل وتجديد الموقف الفلسفي برمته.
واذا ما اتفقنا أن الفلسفة ليست معرفة مكتسبة بل هي بالأحرى فن تعليم التفكير بالعقل والشعور في مشكلات الواقع المباشر وفن العيش الجدير بالكرامة الإنسانية فمن المهم إعادة تجديدها بتجديد اسئلتها بما يشبع مشكلات الواقع الجديد. واتذكر بانني قدمة مداخلة في ندوة جامعة رابرين السليمانية رانية بعنوان قسم الفلسفة وآفاق التغيير والتجديد. ٣٠ مايو ٢٠٢٢م؛ مداخلتي كانت عن أهمية تجديد أقسام الفلسفة ومناهجها الأكاديمية إذ إن القسم العلمي هو الوحدة الأساسية في بنية المؤسسة الأكاديمية حيث تتم العملية التعليمية وتتحقق وظائفها الجوهرية؛ الوظيفية التعليمية المتمثلة في حفظ المعرفة وتدريسها وتداولها عبر الأجيال. والوظيفة البحثية المتمثلة في بحث المعرفة وموضوعاتها ونقدها تجديدها وانتاجها ووظيفة خدمة المجتمع المتمثلة في تطبيق المعرفة واختبارها في حل المشكلات الاجتماعية وتنمية المجتمع والوظيفة التنويرية المتمثلة في محاربة الجهل والأوهام والخرفات وتنوير الاذهان بالفكر العقلاني العلمي المستنير . وحينما يكون الحديث عن قسم الفلسفة فهذا يعني بأننا نتوقف عن أول قسم علمي في تاريخ المؤسسة الأكاديمية منذ اكاديمية أفلاطون ٤٢٧ق م. ومنذ ذلك الحين وعلى مدى الفين وخمسمائة عاما تطورت أقسام الفلسفة وتجددت وتغيرت وتوسعت عبر بحيث غدت اليوم تعد بالالف فلا تخلو جامعة من الجامعات المعاصر من قسم للفلسفة. والسؤال هنا هل يكفي الفلسفة ما حققته من ازدهار مؤسسي وتوسع أفقي كمي على صعيد العالم؟ وجوابي هذا لا يكفي الفلسفة لتأكيد حضورها في العالم رغم اهميته بالتأكيد. أن الأهم في نظر هو ما حققته الفلسفة على صعيد تنوير العقول وتنمية المجتمعات الإنسانية تنمية ثقافية مستدامة بمعنى تنمية الذكاء الإنساني بمختلف انواعه وابعاده وخصائصه بحسب نظرية الذكاءات المتعددة لعالم النفس الامريكي هاورد غاردنر التي تعني فيما تعنيه
أن الكائن الانساني مزودا بقدرات ذكاءية ومواهب فردية متنوعة( الذكاء المنطقي والذكاء الوجداني والذكاء البصري والذكاء الايقاعي والذكاء الوجودي والذكاء الاجتماعي والذكاء الأخلاقي والذكاء الجمالي.الخ) تنمية إنسان عقلاني يمكن التنبؤ بسلوكه وردود افعاله في حدود ما يمتلكه من حرية وضمير إنساني فعال. ومن المعلوم أن تأسيس أقسام الفلسفة في معظم الجامعات العربية والإسلامية قد جاء استجابة لمقتضيات محاكاة التحديث والحداثة ما بعد الكولونيالية وقد اتسمت الجامعات العربية واقسامها العلمية ومناهجها بسمة التقاليد والقيم الأكاديمية السائدة في الدول الاوروبية المستعمرة بكسر السين وفقا لمقتضيات علاقات التبعية والتقليد ففي الجامعة العراقية هيمنت التقاليد الاكاديمية السكسونية الصارمة وفي بلدان المغرب العربي والشمال الافريقي هيمنت النزعة الفرنسية
الأكاديمية الفراكفورتية وفي المؤسسة الجامعية المصرية العريقة تمازجت التقاليد الاكاديمية الفرنسية والبريطانية مع القيم والتقاليد الأكاديمية المؤسسية المصرية المحلية. وفي بلاد الشام سوريا ولبنان تنويعة من التقاليد والقيم الأكاديمية الفرنسية والامريكية والاشتراكية الماركسية وحينما كانت عدن في حماية الإتحاد السوفيتي الاشتراكي الماركسي كان قسم الفلسفة الوحيد في جامعتها صور مصغرة للنمط الاشتراكي الماركسي ثم جرى تعديله مع الأيام.
أن هذا التقاليد والقيم الاكاديمية التي شكلت ولازالت تشكل بنية ومنهجية الدراسات الفلسفية ومقرراتها في أقسام الفلسفة العربية لم تتمكن من تحقيق الأهداف المرجوة منها. كتب الزهيدي مصطفى" إن ما يجعلنا في حاجة إلى إعادة النظر في تعريف الفلسفة، وقيمتها، هو تشكيكنا في الطرح الذي يعتقد في كون كل من ولج إلى المدرسة / المؤسسة قد تعلم الفلسفة. وهذا التشكيك نابع من شهادات الواقع، التي تجعلنا نصادف، يوميا، وفي وضعيات مختلفة، طلابا درسوا الفلسفة في المرحلة الثانوية أو الجامعية، لكنهم في كل مناحي حياتهم وسلوكهم، لا يزالون يسلكون ويتصرفون، كما يتصرف بادئ الرأي - الإنسان البسيط في التفكير الذي يسلّم لانطباعاته. وهذا ما يجعل المسلمة، التي تقدم إلينا، بأن تعريف الفلسفة بات واضحا بمجرد ما نقول إنها محبة / عشق / إيثار، ونزوع نحو الحذق، والمهارة، والحقيقة، والحكمة، لا يفي بالغرض فما قيمة أن يعرف الطالب أن الفلسفة هي ( حب الحكمة) فيلو سوفيا) إذا كان عاجزا عن مباشرة الدخول في مضمارها. وما قيمة معرفة إن طاليس هو أول من قال : أن الماء هو أصل العالم بينما انسكمندر قال الابيرون هو الأصل وهيرقليطس قال النار وانكسمنس قال الهواء؟ وما الذي يستفيده الطالب لو قرأ كتاب الطيماوس لا فلاطون كما حدث معي في جامعة بغداد. إذ تعيني علّى حفظ كتاب الطيماوس واكريتيس وما اداراك ما الطيماوس واكريتيس؟ ولكنه فرصة تعلمت منها الكثير. وتلك حكاية يطول شرحها. فماذا يفيدنا قول بارميندس اليونان " الوجود موجود والعدم غير موجودا"؟ أو قول الفارابي" الوجود هو الذي إذا تصورته غير موجودا نجم عن تصورك محال" أو قول هيجل "العقل يحكم العالم"أو قول سارتر "الوجود أسبق من الماهية"كل الأجوبة القديمة جاءت لتشبع اسئلة زمانها. اليوم لم يعد الوجود هو الوجود الذي ادهش افلاطون بل صار وجودا افتراضيا أكثر منه واقعيا ولم يعد العالم منقسما إلى ما تحت فلك القمر وما فوق فلك القمر بل صار وجودا متصلا. ولم تعد الثنائيات الميتافيزيقية التقليدية قائمة( الذات والموضوع والروح والجسد والفكر والواقع والمادي والروحي والمنطقي والتاريخي الخ) في عالم انكمش في الزمان والمكان وبات شديد التداخل والتواصل والاتصال. أن الحاجة إلى اكتساب فن التفكير الناقد هي الأهم في تدريس الفلسفة والعلوم الإنسانية والتفلسف معناه الدخول إلى بداية كل بداية إذ أن استنارة الفكر لا يمر من الطريق الملكية لمعرفة واثقة دائما من ذاتـها بل يمر من طريق التواضع الفكري والشك المنهجي ونقد الجهل المكابر.
وبهذا المعنى كتب مقالي عن البرقاوي من نقد الفلسفة إلى فلسفة النقد إذ أن الفلسفة عنده هي حكمة العقل ودهشة الانفعال هي المعنية دائما بتحطيم الأوثان؛ اوثان العقل ذات وذلك بنقدها وبيان تارخانيتها وهذا هو معناها بوصفها قدرة الأنا الواعية على وعي ذاتها إي العقل الذي يعقل ذاته. قدرة الفكر على المزاوجة بين ملاحظة سلوكاته الذاتية ووعي ذلك السلوك اثناء الانهماك في تأمل الموضوعات الخارجية” السلوكات الذاتية للعقل هي عاداته وأعرافه أي، بكلمة، آليات اشتغاله. لكن لمعرفة هذه السلوكات لا بد من الإحاطة علما بصيرورة تطورها ، وهو ما دفع إلى نشوء الجينيالوجيا (علم نسابة الفكر البشري) وحدها الفلسفة هي من ستنطق الكلمات والمفاهيم والمصطلحات والافكار من أين جاءت؟ وكيف ولدت وازهرت في سياقاتها الاجتماعية والتاريخية؟ ولا يمكن فهم العقل بدون فهم اللغة إذ لا تفكير الا بالكلمات والصور الذهنية حتى في الأحلام. ولكل مفهوم مكان وزمان ولادة وسياق نمو وازدهار وعلاقة قوة وسلطة وحقل دلالة وفضاء تلقي وحساسية ثقافة وابتسمية خطاب.( ينظر، قاسم المحبشي، أحمد برقاوي من نقد الفلسفة إلى فلسفة النقد، الحوار المتمدن) أننا بحاجة إلى فلسفة تشتبك مع مشكلات الوقع لا فلسفة تعيد وتكرار ما قاله الفلاسفة في الماضي. فلسفة تستلهم التاريخ وتتقحم الحاضر وتستشرف المستقبل. كتب المفكر الأيطالي الجنسية لوتشيانو فلوريدي أستاذ فلسفة وأخلاقيات المعلومات في جامعة أكسفورد بالمملكة المتحدة ورئيس مجلة الفلسفة والتكنولوجيا. أستهل مقدمته لكتاب الثورة الرابعة؛ كيف يعيد الغلاف المعلوماتي تشكيل الواقع الإنساني. الذي قال في مستهل الكتاب ما يلي: " نحن بحاجة الى فلسفة جديدة للمعلوماتية.. فلسفة تمكننا من فهم واستيعاب التحولات العميقة والواسعة النطاق التي أحدثتها تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وفهم طبيعة المعلوماتية ذاتها.. نحن في حاجة الى الفلسفة لنترقب ونوجه الأثر الأخلاقي لتكنولوجيات المعلومات والاتصالات علينا وعلى بيئتنا. نحن بحاجة الى الفلسفة لبناء الإطار الفكري المناسب الذي يمكن أن يساعدنا على إدراك الدلالات والمعاني العقلية لمأزقنا الجديد، وباختصار، نحن في حاجة الى فلسفة المعلومات بوصفها فلسفة تخص عصرنا، من أجل عصرنا"ففي كل عصر من العصور يختار الإنسان نفسه ويضع اسئلته من جديد فالتفلسف هو استئناس البدء يسمي هوسرل كبار الفلاسفة ب ” البادئون الكبار”. أمسكوا الأشياء من بداياتها وهو ما مكنهم من فهم الأخطاء من خلال جينيالوجيتها (نسابتها) التفلسف معناه الدخول إلى بداية كل بداية إذ أن استنارة الفكر لا يمر من الطريق الملكية لمعرفة واثقة دائما من ذاتـها بل يمر من طريق التواضع الفكري والشك المنهجي ونقد الجهل المكابر.
والخلاص أننا بحاجة إلى تجديد الفلسفة في النظرية والمنهج؛ تجديد فكري وجداني وتجديد مؤسسي أكاديمي وتجديد ثقافي اجتماعي تنويري. وربما كانت الفلسفة اليوم مدعوة إلى جمع شمل المعنى أكثر من أي وقت مضى معنى الوجود ومعنى الحياة ومعنى التاريخ ومعنى الخير والشر والعدالة والحرية والإنسان والزمان. فرغم ما حققه العلم من انجازات حاسمة في عصرنا الراهن الا أنه يظل عاجزا عن الإجابة بإزاء تلك الأسئلة الفلسفية المتصلة بحياة الإنسان في كل زمان ومكان.
أن الفلسفة اليوم مدعوة إلى تجديد ذاتها ومناهجها واساليب تدريسها بما يجعلها قادرة على استئناف دهشته وقول كلمتها فاذا كانت بوما ميرفا اليونانية تطلق جناحيها للريح مع مقدم الأصيل بحسب هيجل ويقصد أن الفلسفة لا تحضر الا في آخر النهار بعد اكمال مسار العالم لتتعقله وتمنحه المعنى فإنها اليوم مدعوة للاستيقاظ منذ بزوغ الفجر لترى ما يحدث في عالم سريع الايقاع والتغيير. فالأمس غير اليوم وغدًا غير الأمس، وحوادث الزمان والناس والمعرفة هي جديدة وفريدة ونوعية في كل لحظة من لحظات السيرورة التاريخية. ونحن نعيش التاريخ كما تعيش الأسماك بالماء وليس بمقدورنا الخروج منه أو مغالطة استحقاقاته الفورية المباشرة فأما أن نستجيب إلى تحدياتها ونتدبر أمرنا في كيفية تجاوزها وأما سحقتنا بعجلاتها وتجاوزتنا. ولا شيء يأتي إلى التاريخ من خارجه ولا شيء يخرج منه. التاريخ هو التاريخ يمضي إلى سبيله من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل وليس بمقدور أحد إيقافه. أن تجديد الفلسفة يعني فيما يعنيه تجديد اسئلتها وطرق نظرها واساليب تدريسها بروح فلسفية جديدة.
أن أقسام الفلسفة في الجامعات العربية اليوم تقع عليها مهمة؛ مزدوجة تغيير وتجديد ذاتها وتنوير وتنمية المجتمع برمته والمهم السعي والعمل لجعل مادة الفلسفة تستنهج في كل الجامعات والكليات والأقسام العلمية الطبيعية والإنسانية بوصفها متطلب جامعي ثقافي تنويري تنموي إذ بينت الدراسات البحثية المقارنة للعلاقة بين التخصصات العلمية والنزعة التطرفية والإرهابية أن معظم المنجذبين لممارسة الأعمال الإرهابية ومن لديهم قابلية للتطرف العنيف هم من طلاب الكليات العلمية التي لا تدرس الفلسفة والعلوم الإنسانية "جاء في الدراسة التي أعدها خبير في المجلس الثقافي البريطاني، أن نصف من سمتهم "الجهاديين" -أي ما يعادل 48.5% منهم- الذين انخرطوا في تلك الحركات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تلقوا نوعا من التعليم العالي، 44% منهم حاصلون على درجات في الهندسة. وترتفع هذه النسبة بين الجهاديين الغربيين إلى 59%.وأظهرت دراسة عن "الإرهابيين" في تونس -التي أعمل فيها مهندس كهربائي قتلا للسياح على شاطئ سوسة في يونيو/حزيران الماضي- نسبا مماثلة. وأشارت دراسة أخرى إلى أن من بين 18 مسلما بريطانيا تورطوا في هجمات إرهابية، درس ثمانية منهم الهندسة أو تقنية المعلومات، وأربعة آخرون العلوم والصيدلة والرياضيات، في حين تلقى واحد فقط دروسا في العلوم الإنسانية " وفي هذا السياق جاء كتاب (مهندسو الجهاد: العلاقة بين التطرف العنيف والتعليم) تأليف كل من "دييجو جامبيتا" Diego أستاذ علم الاجتماع في معهد الجامعة الأوروبية بفلورنسا، وستيفين هيرتوج" أستاذ مشارك في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية استند الكتاب عل دراسة عينة مكونة من (497) شخصاً من الجماعات المتطرفة، بيانات توفرت بيانات لعدد (207) فردا منهم، إذ وُجد أن منهم (93) تخصصوا في الهندسة، بينما حوالي (38) شخص كانت تخصصاتهم في الدراسات الإسلامية، في حين أن الأعداد الأقل كانت في تخصصات أخرى، كالتالي: عدد (21) تخصصوا في الطب، و(12) في الاقتصاد، و(8) في الرياضيات والعلوم، و(5) في القانون، والبقيّة من تخصصات أخرى متنوعة (ينظر،أحمد عبدالعليم،مهندسو الجهاد: دراسة في العلاقة بين التعليم والتطرف العنيف، المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 4 يوليو 2016). وفي محاولته تفسير العلاقة المحتملة بين التخصصات العلمية والظاهرة الإرهابية صاغ مارتن روز كبير مستشاري المجلس البريطاني لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مفهوم (العقلية الهندسية) التي تتمحور حول فكرة غاية في السهولة إذ تنظر إلى الأشياء عبر منظارين إما صواب وإما خطأ. وترى الدراسة أن هذه النزعة تضر بقدرة طلاب العلوم والهندسة على تنمية مهارات التفكير النقدي." ن دراسة الهندسة تجعل الخريجين أقل قدرة على استيعاب الطبيعة الارتباطية المتداخلة التي تتسم بها العمليات والعلاقات السياسية والاجتماعية، وبالتالي فهم أقل قدرة على التعامل مع العالم المحيط باعتباره نتيجة تفاعلات متزامنة من عمليات معقدة. وفي المقابل، يفترض هؤلاء الطلاب أن كل ما حولهم له طبيعة ميكانيكية "عقلانية" أقرب إلى ما هو عليه الحال في طريقة عمل الماكينات والآلات، بما يجعلهم أكثر تقبلا لفكرة واحدية النظام إلى حد قولبته. أضف إلى ذلك أن طبيعة الدراسة لا تقترب من المعتقدات الدينية بأي شكل من الأشكال، وهو ما يجعل الدارس - على الأقل طوال فترة دراسته، التي تمتد إلى خمس سنوات - غير معرض للوقوف أمام النصوص الدينية والتفكير فيها بشكل نقدي؛ وهو ما ينتج في النهاية شخصًا أكثر تقبلا للنص، وأكثر قابلية للتأثر بالحجج التي تقدمها الجماعات المتطرفة"( العالم دراسة: خريجو الهندسة أكثر ميلا إلى التنظيمات الإرهابية، الاقتصادية، الرياض، 9 مايو 2019). وقبل ثلاث سنوات عبر الأكاديمي والكاتب السعودي سليمان الضحيان عن صدمته البالغة من الافعال الانتحارية الإرهابية التي اقدم عليها أطباء ومهندسين في العراق والاردن ويرى في تفسيره لهذه الظاهرة " أن طبيعة الهندسة والرياضيات والعلوم تعتمد على منهج علمي صارم، لا يسمح بوجود وجهات نظر متعددة، بل النتيجة تكون حاسمة، وهذا المنهج ينتج عقلية تتعامل مع الواقع الإنساني بما فيه من أفكار، وأشخاص، وأحداث كما تتعامل مع المادة الصماء، وذلك بمقياس صارم يقوم على ثنائية الصواب والخطأ، والحق والضلال، ولا مجال فيه لوجهات نظر، أو نسبية، وهذا ما يقتل فيها الروح النقدية، ويجعلها أقرب للخضوع لفكرة واحدة باعتبار أنها هي الحق والصواب غير القابل لأي تساؤل أو مراجعة، وهذا ما يسهِّل تجنيدها في جماعات العنف؛ لأن منهج تلك الجماعات قائم على الصرامة في فهم الدين، والثنائية الحادة في فهم تعاليمه، فليس ثمة لديها إلا كفر وإيمان، وهو فهم نهائي لا يقبل المراجعة، أو التعددية في الفهم، وهي بهذا المنهج تتوافق مع المنهج الذي تربى عليه أصحاب التخصص العلمي، بخلاف مناهج العلوم الإنسانية القائمة على النسبية، وتعدد وجهات النظر، والقابلية للنقد" ينظر، سليمان الضحيان ، أي التخصصات الجامعية أكثر قابلية للتطرف؟ جريدة مكة، 9 مارس 2016).
والخلاصة؛ أننا بحاجة إلى فلسفة تعلم التفكير والفهم أكثر مما تعلم النظريات والمفاهيم. فلسفة إنسانية تجعل من الإنسان وحريته وكرامته وحقوقه محور اهتمامها ومبلغ اهدافها. فلسفة قادرة على تنمية وتأهل الذكاءات المتنوعة في الذوات الإنسانية الفردية وجعلها خلاقة ومبدعة وقادرة على التكيف العقلاني المرن مع متغيرات العالم وايقاعاته المتسارعة.