عادةً ما يتم استخلاص المُوجّهات الإعلامية من خلال الاطلاع على المحتوى وأهدافه وتوقيت نشره، وما يٌسوق له بشكل مدروس وممنهج عبر قنوات التواصل المتعددة (المقروءة والمرئية والمسموعة). وتنحدر المُوجّهات الإعلامية من سياسة مقدم المحتوى، والتي بدورها تنبثق من سياسة الممول الرئيسي واستراتيجياته.
طالعنا اليوم برنامج يتحدث فيها متحدث متخصص في مجال التاريخ والآثار عن جدلية "اليمن أصل العرب"، وعن اشتقاق مسمى "اليمن" وحصرها فقط في "الجند" وذلك عبر الاستدلال من اختفى مصطلح "يمنة" وظهور بدلًا عنها مسمى "الجند"، والترويج لـ الإمام البغيض يحيى حميد الدين بوصفه موحد اليمن والإشارة له بأنه طارد الأتراك وأن دوره كان مشابهة لدور الملك عبدالعزيز، وكذلك التخويف والتوجس من القومية اليمنية (أقيال) على أنها ترسخ لتفريق اليمنيين، ولا ترسخ لوحدة اليمن (والثلاث النقاط الأخيرة هي ما يهمنا في سياق الأحداث الراهنة)!.
لست متخصص في التاريخ والآثار، وأدعو المتخصصين اليمنيين في التاريخ والآثار لإيضاح ما التبس من نقاط أعلاه للشباب والنشء؛ ولكن في نفس الوقت سوف أكتب بما يجود به قلمي، والناتج من المطالعة المتواضعة للتاريخ من مصادر متعددة، وسوف ارد على النقطة الأخيرة عبر الاستشهاد من تاريخ الدولة التي ينتمي إليها المتحدث، علمًا أن المتخصص يتوجب أن يقرأ من مصادر متعددة، وأن لا يعتمد على مصادر محددة (قد تكون من خزعبلات مؤلفات الكهنوتية السلالية)!.
بعيدًا عن القفز من قبل المتحدث المتخصص بالتاريخ والآثار إلى حقبة صغيرة، والتركيز على اختفاء مصطلح "يمنة"، وظهور مسمى "الجند" بدلاً عنها، والاستدلال بشكل مباشر -وغير مباشر- بأن ذلك ما يعنى به مسمى أرض "اليمن"؛ فأن هنالك حٌقب سابقة متعددة ولها العديد من المسميات، ذُكر فيها ماذا يعنى "اليمن" جغرافيًا لا لغويًا، يمكن للمتحدث اختيار وانتقاء ما أراد منها، فـ قاموس مسميات تاريخها وحضارتها بحر زاخر لا ينضب!. في السياق التاريخي والحضاري والديني والجغرافي لمدلول مسميات أرض "اليمن"، هي بلاد السعيدة، وأرض العرب الأولى، وأرض الأحقاف، وأرض ملكة سبأ، وأرض عاد وثمود، وأرض الاخدود، وأرض إرم ذات العماد، وأرض أصحاب السيل العرم وذو القرنين، وأرض الجنتين، وأرض قحطان، وأرض سبأ، وأرض جنوب الحاجز (الحاجز مكة التي تفصل بين الجنوب والشمال)، وأرض جنوب شبه الجزيرة العربية، وأرض التبابعة، وأرض المكاربة، وأرض سبأ وحِميّر، وأرض مملكة سبأ وذو ريدان ويمنت وحضرموت (وهنا ظهر لغويًا مسمى يمن أو يمنت)، وأرض حِميّر، وأرض مملكة سبأ وذو ريدان ويمنت وحضرموت وإعرابهما بالطود والتهائم، وأرض الأذواء والأقيال، وأرض العربية السعيدة، والجمهورية العربية اليمنية، وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، وفي سياقها الجيوسياسي الراهن تمثل كامل أراضي "الجمهورية اليمنية" الموحدة، بكافة جزرها وحدودها القائمة!.
وأرض سبأ وحِميّر حالها حال بقية الحضارات في النهوض والهبوط، ولكنها تضررت كثيرًا وساء وضعها من بعد تمكّين المحتل الفارسي "باذان" من حكمها تحت حجة الأيدلوجية الدينية، ومحاربة أبناء الأرض المطالبين بحقهم بالحكم والثروة على أنهم "مرتدين وقفيًا"، وأصبحت اليمن مرتع لبقايا الشظايا والدخلاء والغرباء والمعارضين خلال حقبة الدولة الأموية والعباسية وما تلاها (ذوي الألسنة العربية والطموحات الكهنوتية السلالية)؛ وذلك بعد أن خرج اليمنيين الأقوياء الأشداء للفتوحات، وتركوا أرضهم لـ النساء والأطفال والضعفاء وكبار السن، وتمكنت معظم الثعابين والزواحف السامة من التسلل لها!.
وعودًا إلى ما طرح المتحدث بأن الإمام البغيض يحيى حميد الدين يٌعد موحد اليمن (أي توحد في عهده)، وأنه من حارب وأخرج الأتراك، وأن دوره كان مشابه لدور الملك عبدالعزيز؛ فذلك بعض التحاريف والتزييفات المستقاة من مؤلفات كهنة الآل. (وهذا نفس ما تدّعيه الكهنوتية السلالية وتُضلل به بعض أبناء القبائل اليمنية)
بداية، انحصرت السيطرة العثمانية الثانية في اليمن على المناطق الساحلية وتهامة وبعض المناطق الوسطى، وأما المناطق الجبلية فقد اقتصر تواجد الأتراك في المدن الرئيسية منها (صنعاء)، وأما مناطق الشمال الغربي الجبلية فقد بقيت القبائل في القرى خاضعة لزعمائهم الروحيين المتمثلة بـ أئمة الزيدية!. وقد بدأ يحيى حميد الدين في عام ١٩٠٥م بدعوة بعض القبائل اليمنية الموالية له من حاشد وبكيل (الزيدية) لمحاربة الأتراك، ووفقََا لما ورد في المصادر، فأن القبائل اليمنية الموالية له حاصروا صنعاء (الحصار الأول)، فأخذ الأتراك كامل احتياطي الحبوب الموجود، واستشهاد بسبب ذلك الحصار أكثر من نصف سكان مدينة صنعاء (من اليمنيين، وليس من الأتراك)، وصمد الأتراك حتى جاءت حملة عسكرية عثمانية ضخمة بقيادة "أحمد فيضي باشا"، وفضت حصار صنعاء وغيرها من المدن الأخرى في عام ١٩٠٥م، فرفع الإمام الحصار وتراجع مع عكفته إلى جبال شهارة. وفي عام ١٩١٠م خرج الإمام يحيى حميد الدين من شهارة مع محاربي القبائل اليمنية، وحاصروا صنعاء (الحصار الثاني)، وبقي الأتراك متحصنين في صنعاء لمدة ثلاثة أشهر حتى وصول الوالي التركي "أحمد فيضي باشا". بعد ذلك، تم توقيع اتفاقية دعان في أكتوبر ١٩١١م (ولم يتم المصادقة عليه إلا عام ١٩١٣م)، والذي بموجبها أٌعطي الإمام يحيى السلطة الدينية لتعيين القضاة في مناطق القرى الزيدية متناهية الصغر؛ إلا أن السلطة الإدارية بقيت بيد الأتراك!. أما الزكاة المفروضة التي كان يجمعها موظفو الإدارة التركية من سكان تلك القرى والمناطق، فقد أصبح يحيى حميد الدين مندوب لـ الأتراك لجمع الزكاة، حيث كان يقوم بجمع الزكاة ويخصم منها نظير خدماته، ويرسل ما تبقى للأتراك، وتم المطالبة بإعفاء بعض المناطق من الزكاة نظرًا لـ فقرها الشديد مثل أرحب وخولان (ولا نعلم إن كان ذلك الفقر الشديد ناتجًا من كثر الجبايات و الإتاوات خلسة من الأتراك). وإضافة إلى كل ذلك، ظلت الدولة العثمانية تحكم صنعاء، وكانت تدفع مبالغ شهرية كـ رواتب بمقدار ثلاثة آلاف ليرة تركية لـ يحيى حميدالدين شخصيََا (مندوبها لجمع الزكاة)، و١٢٠٠ليرة لحاشيته من كهنة الآل، و١٣٠٠ليرة لبعض قفازاته من حاشد وبكيل!.
وبالتالي، من ماتوا واستشهدوا في حصار صنعاء هم أبناء اليمن، ومن قاموا بعملية الحصار هم بعض أبناء القبائل اليمنية المخدوعين بـ الكهنوتية والموالين لـ السلالية، ومن أجبر الأتراك على مغادرة اليمن هي بريطانيا بموجب هدنة مودروس في عام ١٩١٨م ورفض حينها يحيى حميد الدين استلام المناطق رغم دعوة الأتراك له، ومن كان يستلم راتبه المخصص من الأتراك هو يحيى حميد الدين، ومن أصبح مندوب الأتراك لجمع الزكاة من بعض القرى الشمالية الغربية هو يحيى حميد الدين وحاشيته وقفازاته، ومن أصبح يدير الأمور الأدارية والسلطة لـ يحيى حميدالدين في صنعاء بعد خروج الدولة العثمانية هم بعض الأتراك (حتى أن وزير الخارجية في عهد يحيى حميد الدين كان محمد راغب بيك)، ومن أسسوا جيش العكفة لـ يحيى حميد الدين هم بعض من بقي من الضباط العثمانيين، وحتى الجزر اليمنية الواقعة في البحر الأحمر التي كانت على شريط الحديدة (مثل جزيرة كمران، وجزيرة جبل الطير، وغيرها) سلمتها بريطانيا للجبهة القومية وفقًا لاتفاقية جنيف ١٩٦٧م، وتم تسليمها لاحقًا لحكومة الجمهورية العربية اليمنية في سنة ١٩٧٢م. لذا، لا نعلم إلى يومنا هذا كيف يتم توصيف يحيى حميد الدين بأنه من حرر اليمن ومن قام بتوحيدها، ولا نعرف ما أوجه المقارنة بينه وبين الملك عبدالعزيز، وخاصة إذا صدرت تلك التوصيفات والأحكام من متخصص في مجال التاريخ والآثار!. (ويمكن العودة إلى كتاب ايلينا جولوبوفسكايا "ثورة ٢٦ سبتمبر في اليمن"، وكتاب محمد سعيد العطار "التخلف الاقتصادي والاجتماعي في اليمن،أبعاد الثورة اليمنية"، وغيرها العديد من المصادر)
ومرورًا لما ذكره المتحدث عن القومية اليمنية (أقيال)، وتحذيره على أنها ستعمل لتشتيت وتمزيق اليمنيين ولن ترسخ لوحدتهم؛ فسوف يتم مناقشة مفهوم "القومية" بالاستشهاد من تاريخ الدولة التي ينتمي إليها المتحدث. يعتقد الكثير من أبناء المملكة بأن دولة آل سعود ومؤسسها "محمد ابن سعود ابن محمد ابن مقرن" امتداد للدولة الأموية، والدولة الأموية "دولة قومية مُضرية حتى النخاع"، ودفعتها قوميتها وانتمائها إلى رؤيتها بأحقية الحكم والثروة بأرضها، وعدم تقبلها لأنصاف الحلول وأرباع المقترحات، و رفضها القطعي بأن يحكمها أيًا كان من الدخلاء والغرباء والشظايا تحت أي أيديولوجية كانت (بما فيها الخلافة كـ أيدلوجية دينية)، وهذه تحسب لهم، ودرس مستفاد يجب أن يُأخذ ويحتذى به من قبل الجميع (بما فيها جيرانهم). وما يدلل على ذلك، أن ملوك الدولة السعودية الأولى (أربعة ملوك)، قاوموا الأتراك ورفضوا حكمهم، وآخر ملك " الامام عبدالله ابن سعود" أُعدم في اسطنبول وانتهت الدولة الأولى نتيجة مقاومته لهم. وكذلك الدولة السعودية الثانية (أربعة ملوك)، حكموا أرضهم بأنفسهم ولم يقبلوا بأن يحكمهم ايًا كان، وسقطت الدولة السعودية الثانية نتيجة الخلافات الداخلية وعودة الدولة العثمانية للسيطرة على أجزاء منها عبر حملة "مدحة باشا" الشهيرة، ونتج من ذلك إنشاء كينونات مثل كينونة إمارة آل الرشيد في حائل، وانتهت الدولة بخروج "الإمام عبدالرحمن بن فيصل" من الرياض بعد معركة حريملاء. إضافة إلى ذلك، يمثل مؤسس الدولة السعودية الثالثة الملك "عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن فيصل آل سعود" -رحمه الله- امتداد لنهج آبائه وأجداده، وغرس والده فيه الانتماء القومي وحلم العودة لحكم أرضه، وقوميته وانتمائه دفعته إلى العودة لاسترداد السلطة والثروة، بل إن طموحاته كانت تدفعه لتوحيد شبه الجزيرة العربية بأكملها.إضافة لكل ما سبق، وما مفهوم إحلال أبناء الأرض في الوظائف وإعطائهم الأولوية في القطاعات العامة والخاصة دون غيرهم، إلا جزء بسيط من "القومية الاقتصادية".
وبالتالي، لا نعرف ما هي متغيرات وأطراف المعادلة التي جعلت من المتحدث يصدر احكامًا بأن القومية اليمنية (أقيال) سوف تؤدي إلى تشتيت اليمنيين وتمزيق وحدة اليمن؛ بينما تقسيم اليمن جغرافيًا إلى كينونات متصادمة، وتوزيعه سياسيًا بين أحزاب تابعة متضاربة، وتفريقه عسكريًا إلى ميليشيات متعددة، وفرض مقترحات أنصاف الحلول مع بقايا الكهنوتية السلالية، قد يقود الى وحدة وترابط وتماسك اليمن!. كما لا نفهم لماذا التخويف والتوجس من القومية اليمنية (أحفاد سبأ وحِميّر)، التي تريد استرداد حقها في حكم نفسها والاستفادة من ثروة أرضها، لا أرض غيرها؟!.
ختامًا، يجد المراقب البسيط بأن "القومية اليمنية" تمثل حركة وطنية ثورية في كافة أرجاء الوطن وفي الخارج (وليست حراك)، وتُعد امتدادًا للحركات الوطنية السابقة، محاولةً استخلاص كافة الدروس المستفادة، وعدم تكرار الأخطاء السابقة، وإيجاد الحلول الكاملة الشاملة الدائمة الغير منقوصة. حيث عملت "القومية اليمنية" على تشخيص الأسباب الجذرية للمرض الخبيث، وتهدف لاستعادة حقها الطبيعي في حكم نفسها والاستفادة من ثروة أرضها، والتخلص من الأمراض وآثاره الجانبية (الكهنوتية السلالية وقفازاتها) التي من أعراضها تضليل بعض أبناء القبائل اليمنية وجعلهم أداة قاتلة ضد أبناء جلدتهم، وتعبئتهم لاستعداء الجوار، وتحريضهم ضد العرب. وترى "القومية اليمنية" أن العقيدة الصحيحة السليمة هي التي تحفظ اليمن (كل اليمن) انسانًا وأرضا، وان اي عقيدة لا تحفظ كرامة وعزة وحقوق الإنسان اليمني، وتسلبه حقه في الحكم والثروة تٌعتبر عقيدة فاسدة مشوهة دخيلة. كما أن "القومية اليمنية" لا تقبل بأن تكون تابعة لـ الفتاوى العابرة للحدود سواءً كانت فتوى المرشد، أو فتوى الأئمة (المذهب العكفوي)، أو فتوى ولي الفقيه، أو فتوى السلف، أو فتوى الغوث (الصوفية) أو غيرها!. وكذلك، أيدلوجية "القومية اليمنية" أيدلوجية سبيئة حميرية يمنية خالصة، وعروبية حتى النخاع، ولا ترى من دول الجوار وأبناء شبه الجزيرة العربية إلا أبناء عموم لها، وتعمل جاهدتًا على إسقاط كافة الحواجز وإقتلاع كافة بذور الفتنة التي زرعتها الكهنوتية السلالية لتشتيت وبعثرة وتناحر أبناء القبائل اليمنية (أحفاد سبأ وحِميّر). لذا، لا تٌخيف "القومية اليمنية" إلا الكهنوتية السلالية وقفازاتها القذرة، ولا يتوجس منها إلا كل من لديه أجندة مدمرة وممزقة لليمن أنسانًا وأرضا.