يُطرح النقاب دائمًا كمسألة شخصية، كحقٍ للمرأة في اختيار ما ترتديه.
لا بأس. نعالج هذا المشهد.
لا يقتصر النقاب على قماش يخفي وجوه النساء، قدر ما يكون قناعًا اجتماعيًا يجسد مفاهيم وتوجهات فكرية أكثر تعقيدًا، وأبعد أثرًا على المجتمع مما يبدو في ظاهره.
النقاب ليس الحجاب (وهذا يُناقش مع ذلك في حدود الحرية الشخصية)،
بالتالي لا يمت هذا النقاب بصلة للدين كما يُعتقد،
ولا ينتمي إلى معظم تقاليدنا الثقافية التي نعرفها طوال حياتنا قبل سيطرة الجماعات الدينية التي جلبته لنا عبر تياراتها وأفكارها في استيراد قسري للأدلجة قبل الفضيلة،
وفي مسار استبدال العقل بمفهومها الخاص في تفسير النص الذي أدى بنا في نهاية المطاف إلى المزيد من العزلة والانغلاق.
نحن معزولون عن العالم بسبب هذا الفكر.
بالفعل، النقاب ليس الحجاب، ومن غير الجيد تمامًا الخلط بينهما.
الحجاب (إظهار الوجه كاملًا) رسالة واضحة وبسيطة تنتمي إلى سياق ثقافي وديني معين، لكن النقاب يتجاوز ذلك، ليأخذ مظهرًا أشبه بالحصن الذي يحمي المرأة من عالمٍ افتراضي تُصوره هذه الجماعات باعتباره مشحونًا بالتهديد. ما يعني أنه ليس مجرد لباس، بل تمثيل لتوجهات تُجَرِّد المرأة من هويتها الفردية ومن حريتها في التعبير، وتحصرها في إطارٍ يطمس ملامحها الفكرية والشخصية معًا.
واللباس، مهما كان شكله، لا يملك وحده مع ذلك بناء السلوك، فالسلوك لا يأتي من قطعة قماش، بل من عمق أخلاقيات الفرد وقيمه الإنسانية.
اللباس مجرد شكل، بينما السلوك يعبّر عن جوهر الإنسان في تفاعله مع الآخرين.
وهنا يأتي السؤال: أيّ رسالة يُراد للنقاب أن يحملها في هذا السياق؟
وعندما يُختزل اللباس في طقوسٍ صارمة تستبعد العقل تمامًا وتغلق الباب أمام الحوار وإمكانية الفهم، يصبح النقاب حاجزًا فكريًا لا ماديًا. أقلّه: يعزل الفرد عن الجماعة ويغلق المساحة المشتركة بين طرفي المجتمع، في تكريس حاد للنظرة الأحادية، نظرة الرجل الذي لا يريد أن يرى -تخيلوا؟- ما لا يفهمه إلا على أنه إغراء، وما يقوده لاحقًا لتنميط المرأة عند هذا المعنى بصفتها أنثى فقط لا غير.
وهنا تتجرد الأخلاق من محتواها؛ إذ تتحول منظومة الإنسان/المرأة بكل ما تعنيه إلى مجرد المعنى الذي يختصرها في جزء ما من الجسد.
قد يُفرض النقاب/اللثام/القناع لأسباب أمنية على أعضاء في كتائب وألوية المكافحة والحماية، لكنه ليس وسيلة لتحسين الأخلاق أو تقوية الإيمان على الإطلاق.
ولذلك قطعة القماش هذه لا تمثل في بعدها الإيديولوجي إلا جزءًا من تلك المنظومة التي تميل إلى تقسيم البشر إلى معسكرات ومعايير تمييزية لا تخدم إلا فكرًا معينًا يرى في المرأة خطرًا يجب احتواؤه ضمن حدود فكرها ومنطقها الخاص.
في جوهر النقاب صراع مع الفكر.
الحرية الفكرية لا تتفق مع حجب الهوية، ولا مع غطاء يخفي الرغبة في التواصل.
الفكر يتسق مع الأخلاق في كونه واضحًا، منفتحًا، غير مختبئٍ ولا مستترٍ خلف نقابٍ أو قناع.
يحين الوقت لإعادة النظر، ليس فقط في شكلٍ هذا الرداء، بل فيما يحمله من دلالات اجتماعية وفكرية.
وإذا ما أردنا مجتمعًا ينتمي إلى قيمه الحقيقية، فلا بد أن يذهب النقاش أعمق من مجرد حكمٍ فقهي أو تقليد ثقافي. إنه بحث عن مجتمع لا يخشى النظر في وجه الإنسان، ولا يخاف الكشف عن عقله وروحه بكل وضوح وشفافية.
هذا ما يعنيه تجاوز النقاب كخيار فردي، إلى فهمه كجزء من منظومة أكبر، تؤثر في حريتنا، في سلوكنا، وفي طريقة تعبيرنا عن الفكر.
نريد مجتمعًا تتكشف فيه الأفكار قبل الوجوه، وتُحترم فيه إنسانية الإنسان بمعزل عن أي قناع أو عائق.
وهذا ما يريده وعينا الجمعي،
الوعي الذي لا بد أن يستنير، وأن نساهم معًا في طريق هذه الاستنارة.