آخر تحديث :الأربعاء-27 نوفمبر 2024-03:01ص

في إنكشاف الناس على بعضهم ومقارنة وضعهم

الأربعاء - 27 نوفمبر 2024 - الساعة 01:05 ص

د. قاسم المحبشي
بقلم: د. قاسم المحبشي
- ارشيف الكاتب


علمتني الحياة والفلسفة أن الإنسان لا يولد مكتمل الهوية مثله مثل سائر الكائنات الحية الأخرى( شجرة ، بقرة، زرافة ، أرنب سمكة ، حمامة، ..الخ ) ومن هنا يمكن تصنيف جميع الكائنات غير العاقلة بعّدها كائنات ماهوية وجدت بماهية وهوية مكتملة قلما تتغير مع الزمن، في حين أن مبدأ الوجود يقتصر على وجود الكائن الإنساني ، إذ إن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي ولد ناقصا، أي غير منجز الهوية؛ وجوده يسبق ماهيته، فهو وجود لذاته ومن أجل ذاته وليس وجودا في ذاته وفي متناول اليد مثله مثل وجود الأشياء. وهذا هو مبعث حضور مشكلة الهوية الطاغي في عالم الإنسان, حيث توجد الحرية والعقل واللغة والحاجات والمصالح والرغبات والأحلام والأوهام والتنافس والصراع. إلخ. بل إن الطفل الإنساني هو الكائن الوحيد الذي وجوده أسبق من ماهيته وأنه لا يصير إنسانا الا بالرعاية والتربية واللغة والتعليم والثقافة وأنه طوال حياته يظل مشروعا إنسانيا لا يكتمل الا في لحظة وفاته. فلا قيمة ولا أهمية لمكان مولد الإنسان وزمانه وعشيرته وقبيلته وقوميته ودينه ومذهب وطائفته الا فيما يمنحها من معنى إنساني عمومي تمكنه من تنمية وتأهيل ذاته الفردية بما يجعله في كل لحظة من حياته أكثر إنسانية مما كانت قبلها. وشعاري: هو كن من تكون وما شاءت لك الأقدار إن تكونه فلست أكثر من إنسان يمشي على قدمين ويتكلم ويحلم وينام ويصحى ويفكر ويحتاج ويرغب ويفرح ويغضب ويحب ويكره ويسعد ويشبه كل بني البشر في التكوين البيولوجي والفسيولوجي والعقل والحواس والانفعالات والحاجات والرغبات كما حددها أبراهام ماسلو والناس سواسية في القيمة والأهلية الطبيعية وكلنا لآدم وحواء أبناء الأرض وليس بيننا من هو أبن جني أوجنية. فإذا ما ما سألت شخصا في أي مطار اجنبي ما هويتك؟ ماذا يكون رده؟ من المؤكد أنه يذكر أسم بلده ولا معنى لان يقول أنا عربي أو أنا مسلم أو أنا يهوي أو أنا مسيحي أو شيخ قبلي أو أنا هاشمي أو أنا شيعي أو أنا سني .الخ لا معنى ولا قيمة ولا اعتبار لكل تلك الهويات الكثيرة التي مزقتنا. بينما الأمريكي يكتفي بالقول أنا أمريكي وهكذا يفعل الصيني والهندي والروسي. ثمة هويات ومرجعيات كثيرة يمكن أن يعرف الشخص ذاته بها أو يحملها في وعيه الذاتي لكنها بدون جدوى إذ تختفي في لحظة التعريف الحقيقي. فمتى نفهم أن دوائر الهوية التقليدية العشائرية والقبلية والطائفية والقومية والدينية باتت خاوية - في عصر أنكماش الزمان والمكان وصيرورت العالم قرية كونية صغير - بل وربما مضرة في بعض الأحيان. الدولة ذات السيادة الوطنية العادلة والمستقرة هي الهوية الوحيدة التي يمكنها أن تمنح الإنسان المعاصر هويته وقيمته واعتباره حيثما حل وكان. وبدونها يظل عرضة للمرمطة والهوان كان من كان وما قدرة له الله أن يكون لا حسب ولا نسب ولا أصل ولا جد ولا جدة ولا وعل ولا عترة تنفع من يعتقدونها في المطارات والدول حينما تكون الهوية على المحك. فلا هوية محترمة بدون دولة محترمة. تلك هي الخلاصة

. وما أحوجنا للقيم الإنسانية الصادقة التي لا تميز بين الناس بحسب وظائف الأعضاء البيولوجية أو اللهجات والأشكال والازياء والقوميات والاعتقادات والمذاهب والطوائف والهويات الدائرية التي تمزق المجتمعات العربية بسمومها المتوحشة.

فما الذي يحدث للناس حينما يكتشفون حقيقة وضعهم بالمقارنة مع الآخرين؛ أشباههم من بني حواء وآدم؟ ذلك هو السؤال المفتاحي لفهم المشهد الحالي في الفضاء الاتصالي الافتراضي وما يعج به من اضطراب شامل في كل مجالات الحياة اليومية. ففي الأزمنة القديمة.كانت الجماعات تدبر حياتها في بيئاتها المحلية بسلام وقناعة واكتفاء ذاتي ولا تعرف من الدنيا غير محيطها الجغرافي والاجتماعي المحلي واقعها الثقافي المحدود بحدود حركتها. وكلما زاد تواصل الجماعات واحتكاكها مع جماعات أخرى كلما زاد وعيها بذاتها وبالاخرين.فالآخر هو مرآة الذات دائما فاذا أخلي بين الإنسان وذاته تصور ذاته مركز الكون! لكن مشكلة وعي الذات وفهم الآخرين ليست من البساطة بحيث تنكشف للانا بذاتها ولذاتها دون عنأ أو جهد يذكر، بل هي عملية شديدة التعقيد وعسيرة الفهم، إذ قد يعيش الناس عشرات أو مئات السنين في بعض الحالات دون أن يتمكنوا من إختراق الحجب والأقنعة التي تحول دون وعيهم لذاتهم وللآخرين، فالذات إذا ما تركت لذاتها دون خبرة التفاعل والإحتكاك المباشر مع الآخرين تظل عمياء ساذجة وفطرية غير واعية لذاتها وغير مدركة لهويتها التي تميزها عن هوياتهم المختلفة إذ بأضدادها تتمايز الأشياء. والطريق الوحيد لتحقيق كشف المحجوب في عمليات الذات والآخر لا يتم إلا بالإحتكاك والتفاعل المتبادل بين الفاعلين الاجتماعيين في أثناء الممارسة الحياتية وتغذيتها الراجعة في سياق تفاعلي مقارن، فرصد الآخرين وتأويلهم هو الوسيلة الممكنة في فهم الذات؛ فالآخر هو دائماً مرآة الذات ومبعث هويتها. وتاريخ الدين والمعتقدات الايديولوجية يفسر تلك السيرورة الأنثربولوجية للمجتمعات البشرية من الطوطمية إلى السماوية. فكل المعتقدات الدينية جاءت استجابة لحاجات الجماعات المحلية إذ كان لكل عشيرة أو قبيلة أو جماعة محلية طوطم ( حيوان، شجرة، وثن، صنم) تقدسه وتعبدها ولم تأتي المعتقدات الكلية الا بعد تاريخي طويل من التعارف والاحتكاك بين الجماعات البشرية في العصور الوسطى وقد كانت حياة الشعوب وثقافاتها تقليدية متشابهة في كل شيء تقريبا وذلك عبر تلاقح الثقافات وانتشارها في البيئات فبعد اكتشاف اللغة في أحد الثقافات، طورت الثقافات الأخرى أسلوب اللغة كأداة جديدة لاستخدامها كوسيلة تواصل ضمن أفراد الثقافة الواحدة. حيث تسعى كل فئة إلى تعديل اللغة بشكل يتناسب مع أفضل أسلوب يعبر عن ثقافة هذه الفئة.

فكل الشعوب القديمة استخدمت نفس الادوات والاساليب والطرق والعادات في تدبير حياتها النار والقوس والرمح والنشاب والزراعة والحيونات وكل شيء تقريبا ويعد الدين أحد أهم العناصر الثقافية المتأثرة بنظرية الانتشار الثقافي. حيث تتبنى أغلب الحضارات المجاورة لبعضها البعض نفس المعتقدات والمبادئ الدينية الأساسية، مع وجود بعض الاختلافات التي تعبر عن خصوصية كل حضارة. ففي المنطقة العربية انتشرت الأديان السماوية، وكان كل دين مكمل للدين الذي يسبقه مع الاحتفاظ بكثير من التعليمات الدينية بين الحضارة السابقة واللاحقة، ومن أشهر القصص التي تم انتشارها، هي قصة الخلق التي بدأت بالنبي آدم وزوجته حواء" ومنذ الثورة الصناعية والعلمية الحديث انشرت في العالم كله ادواتها وانماطها وقيمها وعاداتها ومؤسساتها وكل شيء تقريبا إذ إن التكنولوجيا لا تحدث فقط تحولاً في العالم ، بل أنها تخلق عالمها المجازي أيضاً وتمكن أقمار الإرسال التلفزيوني الصناعية اليوم الناس على طرفي الكوكب من التعرض بانتظام لطائفة واسعة من المحفزات الثقافية فالمشاهدون الروس متعلقون بالتمثيليات التلفزيونية الأمريكية وقادة الشرق الأوسط يعتبرونه محطة ال (سي أن أن) مصدراً رئيسياً حتى للمعلومات و الأفكار . فالموسيقى الأمريكية والأفلام الأمريكية والبرامج التلفزيونية أصبحت شديد الهيمنة ورائجة جداً ومشاهدة جداً حتى إنها توجد في كل مكان على الأرض بالمعنى الحرفي للكلمة ، وهي تؤثر فعلياً في أنماط وحياة وتطلعات كل الأمم. إذ بات الإعلام الجديد بكل وسائطه المتعددة يمارس تأثيرا فعالا في سلوك الناس وصناعة الأحداث والقرارات وتشكيل الرأي العام والمواقف والاتجاهات الفردية والمجتمعية المدنية والرسمية في عالمنا الراهن بعد انكماش الزمان والمكان الذي اضحى بفضل ثورة المعلومات والاتصال شديد التقارب والتداخل والتواصل والاتصال والترابط والتفاعل وصيرورته قرية كونية صغيرة يتشارك سكانها كل خيراتها وشرورها. فمن ذا الذي يشاهد العالم ولا يتأثر بما يحدث فيه؟ وحينما تكون الفارق الحضارية والثقافية والمعيشية كبيرة بين الشعوب المتفاعلة في ذات اللحظة تحدث الكثير من الاضطراب. لطالما حيرتني تلك الفكرة التي موادها؛ إذا كان الواقع المرئي المحسوس الملموس واحدا لجميع سكان العالم فلماذا يختلفون في رؤيته وتفسيره وتأويله وفهمه؟ فكيف سيكون حالهم مع النصوص التي تتحدث عن عوالم غير مرئية ويستحيل التحقق من وجودها بالحواس المجرد؟ وهكذا كل يوم تزداد حاجتنا الى الجشطالتية اقصد النظرة الكلية للكون والله والعالم والتاريخ والحضارة والمشهد الراهن للعالم الذي بات أشبه بالقرية الكونية الصغيرة بفضل ثورة المعلومات والاتصال التي أنجبت العولمة بعد إنكماش الزمان والمكان وتقارب الناس وتداخل المصالح وتزايد الاتصالات والارتباطات بين البشر افراد وشعوبا ودول وثقافات وحضارات وتشابك المجالات المحلية والأقليمية والعالمية والتفاعل والتأثير والتأثر بين الجميع في خضم هذا العالم المعولم. هذا التحدي الوجودي التاريخي يستدعي استجابة عقلانية في تغيير البارادايم أي نمط الرؤية الكلية للعالم بتشابكاته إذ إن الحقائق لا توجد في جوف النصوص والكلمات كما توجد البذور في الثمار ، بل إن الحقائق توجد باتفاق وتواضع الناس عليها، فإذا ما اتفق جماعة من الناس واعتقدوا إن ما يفعلونه أو يفكرون به هو الحقيقة ذاتها بحسب باراديم رؤية وتأويل محدد للعالم والأشياء والكلمات والدلالات والرموز والنصوص. فلا شيء يحول دون اعتقادهم بإن ما يرونه هو الحقيقة عينها! ولكل جماعة من الناس الحقيقة التي ترتضيها لنفسها وتعتقدها كذلك فمن يعتقد أن البقرة آلهه لا يشك في صحة اعتقاده لحظة واحدة وإلا لما اعتقد بِه اصلا! ومن يعتقد بشي يراه حقيقة ولا يراه باطلًا أبدًا ولا بطل اعتقاده وهذا هي طبيعة المعتقدات وتحولاتها في كل زمان ومكان من الطواطم البسيطة حتى المجردات المتعالية. والناس يسلكون وفقا لما يعتقدون، فإذا اعتقدت أن هذا العالم مسكون بالجن والشياطين فلن تجرؤ على الخروج من بيتك وإذا اعتقدت إن بيتك مسكون بالأرواح الشريرة فلن تستطيع النوم فيه، وإذا أعتقدت أنك المدافع الأمين عن دين رب العالمين فسوف ترى بكل من يخالف اعتقادك كفرة وشياطين ومؤاهم النار وبؤس المصير! وإذا اعتقدت أن الناس في ضلال عظيم وأنك معني بهدايتهم إلى الطريق القويم فأمامك خيارين؛ الأول هو إقناعهم بالتي هي أحسن وجعل من ذاتك مثلا اعلى للزهد والتقوى والصدق والاستقامة والأمانة والتواضع والصبر والشفقة والرحمة والتسامح والعدالة والرحابة وكل القيم الفاضلة الجاذبة للناس لجعلهم يقتدون بك. والثاني؛ أن تشحذ سيفك وتعلن الجهاد تحت أي رأيه تحبها حتى تتمكن من جعل الجبناء من الناس يؤمنون وهو صاغرون لكنهم غير مقتنعين وسيظلون يتحينون الفرصة للثأر والانتقام منك ومن جماعتك ومعتقداتك . وهكذا تتغذى الحروب الأيديولوجية من داخل دائرتها المغلقة. هذا في مجال الاعتقادات والاراء والأفكار الأيديولوجية التي لا تحتمل القياس والبرهان التجريبي، أما في العلم والمعرفة العلمية فالحقائق يجيب أن تكون موضوعية ومحايدة ومختبرة ومجربة في عالم الممارسة والمشاهدة بالاستقراء المباشر والبرهان العقلي الواضح ؛ فالقول بإن كل الغربان سوداء، يمكن أبطاله إذا ما أكتشفنا إن بعض الغربان بيضاء. والقول: إن كل البشر حيونات عاقلة ، لا يمتلك قوة الحقيقة العلمية طالما وأن الكثير من البشر لا يتصرفون بحسب معايير العقل والحس السليم. وهكذا هو الحال دائما مع الناس والمعرفة: العلم واحد والرأي كثير! وتكمن إنسانية العلم وحياديته في ذلك الاتفاق المدهش بين الجميع من مختلف الشعوب والحضارات واللغات والثقافات والأديان بشأن وحدته المنهجية والنظرية شكلا ومضمونا إذ أن 1+1=2، ومجموع زوايا المثلث ١٨٠ درجة. والخط المستقيم هو أقرب مسافة بين نقطتين. والماء يتكون من ذرتي هيدجين وذرة أكسجين. ولَكل فعل رد فعل مساوي له بالقوة ومضاد له بالاتجاه ، ولا شيء يحدث بدون سبب من الأسباب ، ولا تشتغل السيارة الا بالوقود والكهرباء وقس على ذلك حقائق العلوم الوضعية التي تتميز بالموضوعية والشمولية والوحدة في الصين أو في امريكا أو في اسرائيل أو في العراق ,الجميع يدرسون ذات العلوم والنظريات والقوانين العلمية بذات الطرق والاساليب ,بينما يكمن الخلاف والاختلاف والتنافر والتباعد بشأن الاراء والمعتقدات والايديولوجيات بما فيها من ديانات واعتقادات ومقدسات وتشريعات سماوية ووضعية وعادات وتحيزات ثقافية ,وسياسية هنا بالذات سوف نجد أن الخطابات تعلو وتنخفض والاصوات تحتدم وتهدى حينما يتم التعبير عنها ,وكلما كان المرء غير واثق من الاشياء التي يتحدث عنها كلما زادت نبرة صوته ارتفاعا ,وكلما افتقد المرء للبراهين والحجج المقنعة ,كلما زاد صراخه في تأكيد آراءه ومعتقداته الأيديولوجية بينما لايحتاج عالم الرياضيات أو الكيمياء أو الفيزياء الى الصراخ والاصوات العالىة للتعبير عن حقائقه وقوانينه العلمية. فالصمت هو سيد العلم الحقيقي والضجيج هو سيد الاعتقادات الايديولوجية الزائفة . ولكن ليس هناك إلا طريقتان لتوصيل افكارنا الى الأخرين :أما أن تجبرهم على قبولها بالتهديد والتخويف والوعد والوعيد وأما أن نجعلهم يقتنعون بها بقوة البرهان والاقناع المتولد تفكيرهم الذاتي ومن أرادتهم الحرة بدون جبر أو اكراه. وهناك فرق بين السياسي والواعظ والعالم؛ الأول يدعو الناس إلى الثورة وتغيير وضعهم والثاني يدعوهم إلى الصبر والقناعة والاحتساب إلى الله سبحانه وتعالى إذا كان رجل دين حقا وليس سياسيا والثالث يبتكر الادوات العلمية والتقنية الكفيلة بتخلص الناس من الفقر والجهل والمرض وتغيير الوضع برمته.

ختاما: في زمن مضى كنا نتمنى الحصول على المعلومة. فكانت الكتب والمجلات والصحف الورقية هي مصادرنا الوحيدة للقراءة والمعرفة.كنا نقرأ بشغف ونهم بلا كلل ولا ملل ورغم ذلك كنا نتهيب من الخوض في المسائل التي لسنا على ثقة من التمكن منها، بينما اليوم كل شيء متاح للاجيال الجديد ومع ذلك تجد بعض الشباب يخوضون في قضايا شائكة بلا علم ولا معرفة ولا ثقافة وبثقة عالية من الغباء والضحالة الفكرية والسطحية الثقافية. القراءة هي السبيل الوحيد للمعرفة يا شباب ولكل تخصص من التخصصات مراجعه ومصادره العلمية وليست المسألة هوشلية. ورحم الله إمرئ يعرف عن ماذا يتحدث!