يصعب على مجموعة محلية منظمة أن تمتلك من القوة المادية، مال وجيش وعتاد، ومن السلطة، ما يجعلها قادرة بمفردها على تلوين اليمن، كل اليمن، بلونها الخاص، مظهر وفكر ومذهب ولسان.
وبما أن الحال هكذا،
فإن حكم وتوحيد بلد كاليمن هدف عسير المنال، يتطلب القيام به قوة من نوع آخر تعوض النقص الكبير المحتوم في القوة المادية، أهم عنصرين فيها الحنكة السياسية والتفوق الأدبي،
فتكتسي القوّة الموحِّدة بألوان اليمن المختلفة بدلاً عن الوهم الطائش بتلوينه بلونها الخاص المحدود.
وأما المركز السياسي التوحيدي الممكن في اليمن، فهو الذي يتسع في تركيبه لألوان وأجناس وثقافات ولغات وفنون وأذواق المجال الجغرافي والاجتماعي الذي يروم توحيده، وذلك بطريقة مشابهة، من بعض الوجوه بالطبع، للنموذج الروماني في التاريخ القديم،
ولماذا نذهب بعيداً؟
فلنقل بطريقة مشابهة لنموذج التوحيد الحديث لليمن الجمهوري والذي كان سائداً إلى ما قبل الحرب والانهيار، مع إدخال التعديلات التي تمليها الحاجة واعتبارات الصالح العام.
وإن كنا سنتحدث هنا عن نموذج التوحيد الروماني القديم كما يصفه المؤرخين، فالقصد المشابهة لا المطابقة والمماثلة، لاختلاف الأزمنة والأحوال والظروف.
الرومان كما يقول الفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون "لم ينتشروا في الدنيا، بل الدنيا هي التي انتشرت في روما، وهذا هو الضمان الوثيق للعظمة والسلطان".
وهذه هي السمة الأولى التي تهمنا في النموذج الروماني.
وقد ذكرها فيما بعد الفرنسي مونتسكيو في تأملاته فقال أن روما وصلت لمرحلة لم تعد فيها تحكم الدنيا بقدر ما عادت الدنيا تحكم روما بأعرافها وعاداتها.
والمعنى أن تأثير ثقافات الأقاليم والمدن التي حكمتها روما كان أقوى أو مساوٍ لتأثير روما نفسها على تلك الأقوام والثقافات.
يقول مونتسكيو: "لم يقصد أبداً الرومان فرض تنظيماتهم على كافة الشعوب التابعة لهم. القاسم المشترك الوحيد بين هذه الشعوب هو الخضوع لروما".
كان ذلك هو امتياز روما على غيرها، وبفضله تفوقت واتسع نفوذها خارج أسوارها.
ووفقاً للمؤرخ الفرنسي فوستيل دي كولانج فإن مدينة روما -المركز المؤسس- كانت خليطاً من أجناس ولغات وعبادات متباينة، وكان "من صفات السياسة الرومانية الجديرة بالملاحظة أنها كانت تجتذب إليها جميع عبادات المدن المجاورة".
أي أنها كانت تستولي على آلهة المدن المغلوبة وتضمها إليها: "فقد وضعت يدها على إلهة تدعى جونون في فيييس وإله يدعى جوبيتر فی پرینسته وإلهة تدعى مينيرفا في فاليريا وإلهة تدعى چونون في لانوفيوم، وأخرى تدعى فينوس عند السامنيين، وآلهة أخرى كثيرة لا نعرفها.
إذ كانت العادة في روما، كما يقول أحد القدماء، أن تدخل عندها ديانات المدن المغلوبة؛ فطوراً توزعها بين فصائلها وطوراً تعطيها مكاناً في ديانتها القومية".
وهذه هي السمة الثانية التي تهمنا في المثال الروماني.
وعن اختلاط الأجناس في روما، يقول كولانج: "كان من أثر هذا الخليط المركب من أكثر الشعوب تبايناً أنه كان لروما صلات أصل مع جميع الشعوب التي كانت تعرفها. كانت تستطيع أن تزعم أنها لاتينية مع اللاتينيين، سابينية مع السابينيين، إتروسكية مع الإتروسك، وإغريقية مع الإغريق".
وينتهي كولانج إلى القول: "وإذن فقد كان أهالى روما خليطاً من عدة أجناس، وعبادتها مجموعة من عدة عبادات، وموقدها القومى مجموعة من عدة مواقد. كادت تكون المدينة الوحيدة التي لم تفصلها ديانتها البلدية عن جميع المدن الأخرى. كانت تمس بالقرابة جميع إيطاليا وجميع بلاد الإغريق. لم يكد يوجد شعب لا تستطيع أن تقبله على موقدها".
وهذه هي السمة الثالثة.
السمات المذكورة وغيرها من شأنها أن تفسِّر الامتداد الجغرافي الضخم الذي بلغته الامبراطورية الرومانية شرقاً وغرباً في ذروة صعودها السياسي والحضاري المهيب.
قلت سابقاً وأكرر القول الآن:
في اليمن كلمة التوحيد الجمهورية لا سواها،
فهي قاعدة اجتماعه، ومبدأ تمدنه، ومحور التفاعل والاتصال التكويني العُمراني بين مواطنيه.
وليست أي جمهورية وانتهى الأمر، وإنما الجمهورية العظيمة التي تشكَّل اليمن الحديث في ظلها وامتلك شخصيته القانونية الموحدة بين الأمم، بمبادئها وآفاقها التحررية السامية.
عدا ذلك، أحلام كاذبة سقيمة ومغشوشة.