عُرفت الآلات الموسيقية وفنها الموسيقى في ثقافات اليمن القديم وحضارات الشرق الأدنى القديم التي تمثل أدلة واضحة على ازدهار فن الموسيقى الذي عبر فيه الإنسان القديم عن مشاعره وأحاسيسه وعواطفه وأفكاره ذات الطابع الديني والدنيوي الخاص الذي يتناغم فيه بالتراتيل والأناشيد الدينية والدنيوية، فشعر الإنسان بالموسيقى التي توالت منذ حياته البدائية، وشعر بألحان الطبيعة المحيطة به، وتأثر بموسيقى الكون والطبيعة، فابتدع معزوفته الموسيقية الأولى.
انطلاقا من هذه الرؤية تأتي الدراسة المتميزة “الآلات الموسيقية في اليمن القديم دراسة أثرية مقارنة” للباحثة اليمنية وداد أحمد قاسم القدسي، لتركز الضوء على جانبٍ مهّمٍ من جوانب فنون الحضارة اليمنية القديمة وهي الآلات الموسيقية في اليمن القديم، من خلال اللوحات الآثارية ومقارنتها بمثيلاتها في حضارات الشرق الأدنى القديم، والتي بدأت بوادرها الأولى منذ عصور ما قبل التاريخ، حيث تجسدت في فن الرسوم الصخرية في كل من مناطق: صعدة، تهامة، صنعاء بين جدرين، حاز، الجوف، مأرب، نجران، التي استمرت في العصور التاريخية، حيث تجسدت في الرقص والعزف والغناء، على أعمدة المعابد، وشواهد القبور الذي جسد فيها أيضًا مشاهد موسيقية، إلى جانب اللقى الأثرية المتمثلة بالعملات والتماثيل وآلات موسيقية منفردة، وأخرى جاءت مصاحبة لبعض النقوش واللوحات التصويرية.
الموسيقى والأسطورة
تتساءل القدسي في دراستها، الصادرة عن مؤسسة أروقة، عن ماهية الآلات الموسيقية في اليمن القديم في ظل شواهدها الأثرية، التي تمثلت بـ”الرسوم الصخرية، والشواهد القبورية، اللقى الأثرية مثل التماثيل الحجرية والبرونزية، العملات، الدمى الطينية، والحلي، وقطع منفردة”، وما هي الألفاظ المتعلقة بها؟ وما مدى التشابه والتباين بينها وبين مثيلاتها في حضارات الشرق الأدنى القديم؟ وهل لها أنواع مختلفة؟ وهل أثرت على حياة الإنسان القديم؟.
وتقول إن “الموسيقى في الحضارة اليمنية نشأت عندما استخدم اليمنيون القدماء العديد من الآلات الموسيقية المتنوعة، التي كشفت عنها المسوحات والتنقيبات الأثرية منها ما كشفت عنه البعثة الفرنسية في منطقة صعدة والمتمثلة في أحد الرسوم الصخرية نُقش فيها رسم لآلة الكِنَارة التي تؤرخ إلى عصور ما قبل التاريخ، كما عثر في منطقة الجوف في معبد أرن يدع على أعمدة تحمل مشاهد لآلات موسيقية ترافقها مجموعة من الراقصات وهي تمثل آلات للنفخ مثل آلة البوق، وآلة الخُشْخيشة وهي آلة مصوتة، تؤرخ اللوحة إلى القرن التاسع – الثامن ق.م إلى جانب ذلك وجدت في أحد أعمدة معبد معين مشاهد لمواكب موسيقية تحوى آلات وترية كآلة الطنبورة، وآلات النفخ المتمثلة بآلة البوق والمزمار، يحملها مجموعة من الكهنة. كما وجدت العديد من الشواهد الأثرية التي تظهر فيها أنواع مختلفة من الآلات الموسيقية النفخية والإيقاعية والمصوتة والوترية، التي تبين دلالة تنوع الأصوات للآلات الموسيقية”.
وتضيف “يؤكد فارمر في مقدمة كتابه عن نشأة الموسيقى إلى دور الممالك العربية الجنوبية في نشأة الموسيقى التي تؤرخ إلى بداية الألف الأول ق.م وتطورها، كما أنه استشهد بأحد نقوش بانيبال الآشوري المؤرخ إلى القرن السابع ق.م الذي يبين فيه إعجاب الآشوريين بموسيقى العرب، داعمًا بذلك بأن آشور بانيبال ذكر بأن الأسرى العرب كانوا يقضون وقتهم في الغناء والعزف الموسيقي عند خدمة الملوك الآشوريين. أما الألماني هولفريتز فقد قام خلال رحلته إلى اليمن بتسجيل أكثر من مئة نوع من أنواع الموسيقى التقليدية اليمنية المختلفة، ووضح بأن أسباب هذا التباين يعود إلى عاملين: الأول: يعود إلى خصوصية بيئة وثقافة قبائل البدو، أما الثاني: يعود إلى تنوع الطبيعة الجغرافية للمنطقة، فقد وجد بأن هذين العاملين أثر على التنوع الموسيقي في اليمن القديم وميزها عن الموسيقى المألوفة لدى مُدن الشرق الأدنى”.
وعزز هولفريتز بذلك ملاحظاته للتنوع في الألحان والانتقال بين الدرجات الموسيقية الإيقاعية، لكنه وجد تشابهًا كبيرًا بين الألحان الموسيقية اليمنية وبين الموسيقى البربرية لدى قبائل أفريقيا الشمالية (المغرب)، كما قام بتتبع انتشار تلك الألحان الموسيقية في الغرب والتي انتقلت إليها التعابير الموسيقية منذ العصور الحجرية عن طريق العرب الجنوبيين (اليمن) والبربر.
وترى القدسي أن الهجرات اليمنية القديمة التي كانت تنطلق من اليمن إلى مناطق الشرق الأدنى وذلك منذ بدايات الألف الأول ق.م، قد أدت دورًا كبيرًا جدًا في نشر ثقافة الفن (الموسيقى) في المناطق الأخرى كالمغرب حيث وجد لها تأثير واضح من خلال حركة الموسيقى البربرية بواسطة رحلات القوافل التجارية. أما ما تذكره المصادر التاريخية من الروايات والأساطير التي ارتبطت بالغناء منذ عصر ما قبل الإسلام، فقد كان أقدمها أسطورة “جراتي عاد” قينتان ألهيتا بغنائهما وفد عاد عن الصلاة والاستغاثة بآلهة مكة، معتبرين تلك الواقعة الأسطورية بداية تاريخ غناء القيان، وأن أقدم هذه الصناعة الموسيقية في الجزيرة العربية.
ويؤكد ذلك أبو محمد الحسن الهمداني في كتاب الإكليل الجزء الثامن حيث يذكر مغارة متقادمة فيها قبر منسك بن لقيم خازن عاد وأن في تلك المغارة في الطابق الأسفل “تمثالان عظيمان قد مسخهما الله تعالى حجرين وهما في صورة قينتين، ففي حِجر أحدهما عرطبة قد مُسخت وفي اليد الشمال مزمار ممسوخ”. بينما أُرجع استعمال آلة الطنبور إلى السبئيين؛ إذ ذكرت (هوث) اعتمادًا على مخطوط بحوزتها بأن السبئيين هم من اتخذوه أولاً.
الرقص والغناء والعزف
توضح المؤلفة أن الرقص يعد وسيلة من وسائل التعبير الفني في العصور القديمة التي تعبر عن انفعالات الإنسان الداخلية، من خلال الارتفاع والانخفاض، حيث جسدت تلك الرقصات على الصخور وعلى جدران الكهوف تأثرًا بالقوة الخفية، وعليه ترك لنا الفنان القديم مشاهد مناظر متعددة تمثل أنواع الرقص التي أظهر فيها براعته وإبداعاته الفنية، فجاءت الشواهد التي تمثل مناظر الموسيقى على الصخور وارتباط الرقص بالموسيقى منذ عصور ما قبل التاريخ، ومثلت فيها مشاهد الرقص باعتبارها واحدة من الوسائل المعبرة عن قيام الإنسان بالتضرع للآلهة ونيل رضاها، وكذلك تعبيرًا عن الفرحة في مناسبات أخرى في حياته اليومية.
وفي اليمن تعود أقدم المشاهد في فن الرسوم الصخرية إلى العصور الحجرية التي أظهرت مشاهد الصيد في منطقة صعدة، ولا تخلو تلك الرسوم في أغلبها من اعتقاد ديني، وتدل تلك الرسوم الصخرية دلالة قوية على الحضور البشري وممارسته لمختلف الأنشطة.
وتؤكد القدسي أن تسجيل الرسوم الصخرية أدّى دورا بارزا في توفير المشاهد ذات الدلالة المشيرة للفنون الموسيقية في حضارة اليمن القديم، منذ العصور الحجرية القديمة، وذلك لتوافر مادة الصخور ومساحتها التي أتاحت لهم تسجيلًا تصويريًّا لحياتهم ونشاطاتهم المختلفة. ويرجح العيدروس بأن تلك الرسوم الصخرية تُعد مغزى سِحريًا متعلقًا بالمعتقدات الدينية، وهناك لوحة من منطقة بين جدرين تؤرخ للعصر البرونزي الذي يمثل هيئة أشخاص راقصة إلى جانب الحيوانات، ومن خلال تلك الرسومات وُثّقت مختلف الأنشطة التي تؤرخ إلى الحقب القديمة.
لقد شعر الإنسان القديم بروعة الطبيعة واندماجه معها، ومع مرور الوقت ظهرت أولاً الخطوات والحركات والصيحات لتصبح بعد ذلك رقصات معينة لها خطواتها وطقوسها المحددة التي دونت على تلك الرسوم الصخرية، بعد أن ثبُتت في الأذهان وتمَّ تناقلها بين مختلف الجماعات البشرية لأغراض إنجاز متطلباته، كرقصات استدرار الغيث، أو رقصة النصر.
ومن المؤكد أن آلات العزف البدائية مرتبطة ارتباطًا مباشرًا بالرقص والغناء، فحيثما وجد الرقص وجدت معه الآلات الموسيقية، وإن كانت بعض الآلات لم تظهر بشكل مباشر كالآلات الوترية، حيث استعان الإنسان القديم بالآلات المتاحة لديه، فبدأ من أول وهلة باستعمال حركات جسده كاستخدام اليدين في التصفيق والأنغام الصوتية قبل اختراعه آلات المصفقات من الأحجار والأخشاب، كذلك الضرب على القدمين قبل صنع الطبول، وهذه تعد أحد الآلات الموسيقية البدائية لأي حضارة من الحضارات القديمة، التي ظهرت فيها الإيماءات والحركات الجسدية للتمايل المبسط لتلك الأشكال الآدمية المتكررة فيها حركات الجسد بحسب ما تحمله من إيقاع مختلف لتعبر عن هذه الرقصات والحركات الإيقاعية المرتبة، وتؤكد الأدلة لها على الغناء، من خلال إيماءاتها الحركية التي تعطي قيمة محسوسة للكلمات التي ربما كانت عبارة عن نغمات صوتية لم تدون في تلك الفترة. فقد أظهر العديد من الرسوم الصخرية مشاهد موسيقية متنوعة بتنوع أشكال آلاتها فتارة تحمل مشاهد العزف وتارة اكتفي بوجود الآلات دون العزف عليها.
وتبين أن جميع المواقع الأثرية اليمنية القديمة لا تخلو من نشاطات الإنسان الحضارية التي دونت فيها الرسوم المعبرة، التي تحكي عن نشاطه اليومي الذي بدأ بالرسم قبل الكتابة، كما في رسم صخري لمجموعة بشرية يؤرخ إلى العصر البرونزي في كهف المستور في منطقة تهامة فيه مجموعة تؤدي رقصًا طقسيًّا كان غالبًا يُقام قبل مراسم الصيد، وهذا النوع من الرقصات يوجد بكثرة في العديد من المواقع المختلفة التي تم العثور عليها، وتؤرخ لعصور ما قبل التاريخ، كما يظهر على الرسوم الصخرية في منطقة حِمىَ الواقعة في نجران لمجموعة من الأشكال الآدمية التي تظهر في حالة الرقص التعبدي رافعين الأيدي، التي تبرز أحد الأنماط الثقافية والدينية والاجتماعية لدى سكان المنطقة آنذاك، وتشكل اللوحة الصخرية الرسم البدائي للأشكال الآدمية، المنفذة بأسلوب الرسم العودي، وهو أحد أشكال العلامات الفنية المرتبطة بالدين التي نفذت على الصخور.
وتلفت القدسي إلى أن هذه العلامات التجريدية مرتبطة بالدين وبالعقيدة الروحية المتمثلة في الرقص الجماعي في حالة رفع الأيدي، ويرى العيدروس أن دلالة رفع الأيدي للأشكال الآدمية في الرسوم الصخرية متعلقة بطقوس الصيد وبمباركة الآلهة وذلك لظهور العديد من الرسوم المتنوعة رافعة الأيدي، بينما دللت الحربي بعلامة رفع اليد على الوجود الإلهي ومدى قوة تأثيرها أثناء الحركات الراقصة، وحركة الأقدام غير المتوازنة والمتناسقة بالتقارب، وفي منطقة الباحة الواقعة في الجنوب الغربي من شبه الجزيرة العربية، حيث عثر على رسم ملون لمجموعة أشخاص في حالة الرقص الجماعي يشكلون صفًّا واحدًا يرفعون كلتا يديهم ويضربون بها على ما يشبه الطبول، وما تحمله أيديهم من مقارع لقرع الطبول.
وعثر على مشاهد الرقص في العديد من المواقع الأثرية القديمة الأخرى المصاحبة للعزف مع إيحاء بوجود الغناء كما في مغارة الإخوة الثلاثة في أرييج، إذ عثر على صور مشهد رجل يرتدي جلد ثور وحشي يعزف على آلة كالناي، وفي مشهد آخر في مغارة سيفيل في إسبانيا ظهرت صور مجموعة راقصين يحملون الأقواس في حالة الرقص الجماعي.
تطور الموسيقى
تكشف الباحثة اليمنية إلى أن الآلات الموسيقية تمثلت في حياة الإنسان اليمني القديم على محورين: في محور الحياة الدينية لإحدى طرق العبادة التي يتم من خلالها التقرب للآلهة في المعابد، حيث ظهرت على جدران بعض المعابد التي تدل على مدى أهمية الموسيقى وآلاتها، بصفتها وظيفة مقدسة، أبرزت من خلالها العلاقة الجوهرية بين الإنسان والآلهة، مما يُستنتَج منها أنها ليست وليدة تفكير عابر وإنما هي وليدة شعور ملح، مما عزز الإنتاج الموسيقي تجاه الآلهة، إلى جانب أن الأدب الديني احتوى على الأناشيد والابتهالات التي من المرجح أن الآلات الموسيقية كانت مصاحبة لها كما هو لدى حضارات الشرق الأدنى القديم، أما في محور الحياة الدنيوية فقد مُثلت لاستمرار إنجاز نشاطه اليومي. كما أن المشاهد الموسيقية المنحوتة على الشواهد الأثرية لم تأخذ الطابع الأسطوري كما هي في حضارات الشرق الأدنى القديم، وحتى الآن لم يعثر على شواهد أثرية نقشية تؤكد وجود آلهة خاصة بالموسيقى.
وتخلص القدسي إلى أن سبب تطور وتنوع الآلات الموسيقية اليمنية القديمة هو تطور حياة الإنسان وارتباطه بمعتقداته التي ظهرت في ظل مناسباته الدينية والدنيوية، التي مرت بمراحل عدة رغم التغيرات التي طرأت وأثرت على الآلات الحديثة في التراث الشعبي إلا أنها تبقى بأصولها الأولى.
ثانيا أن الفنان اليمنى القديم استطاع إنتاج فن موسيقي خاص بالحضارة اليمنية القديمة، حيث جسد المشاهد الموسيقية على الشواهد الأثرية وأعطاها البعد الثلاثي، ولم يظهر على الشواهد الأثرية اليمنية القدمية أي تأثير حضاري يدل على انتقال الآلات من حضارات الشرق الأدنى القديم، للحضارة اليمنية واستخدامها، أو في الأداء على طرق العزف.
ثالثا أن المرأة جُسدت في الشواهد الأثرية وهي تعزف على الآلات الوترية المختلفة لاسيما أن الآلات الوترية بطبيعة الحال قريبة للإحساس عند المرأة أكثر من الرجل، وربما هي الأقرب إلى تلك الأحاسيس الوترية فكانت أغلب الشواهد تصورها وهي في حالة العزف.
رابع استنتاجات الباحثة أن الآلات الموسيقية لها أربعة أنواع وهي: آلات نفخية، وآلات إيقاعية، وآلات مصوتة، وآلات وترية، وكل نوع له عدة أشكال وأحجام مختلفة استخدمها إنسان عصور ما قبل التاريخ، وحتى العصور التاريخية، كآلة الطنبورة، والربابة، والعود، وآلة الدف، وآلة الطبلة، وآلة الناي، وآلة الطاسة، والأجراس، والخلاخل، والمصفقات…إلخ، وهذا التعدد للآلات يعطي دلالة شكلية في حدة الصوت الصادر منها، لذا فالبوق كما تظهر اللوحات الجدارية يوجد بأكثر من حجم في الفوهة، وهذا دليل على أن هناك تنوعًا في استخدامات حدة الأصوات وأنواعها، والذي استمر في استخدام بعض الآلات الموسيقية في التراث الشعبي أمثال الدف، والسمسمية، والطاسة، والعود، والمزمار، والطُبيلة.
جريدة العرب اللندنية