آخر تحديث :الجمعة-29 مارس 2024-02:18ص

فن وثقافة


قصائد بيثنتي ألكسندري لم تكتمل إلا بالموت

قصائد بيثنتي ألكسندري لم تكتمل إلا بالموت

الإثنين - 26 ديسمبر 2016 - 08:01 م بتوقيت عدن

- نافدة اليمن / الحياة اللندنية

 

كتب الشاعر الإسباني بيثنتي ألكسندري ديوانه «قصائد الاكتمال» ونشره في مدريد عام 1978، بعد سبعين عاماً من ولادته في أشبيلية (1898)، وقبل تسع سنوات من نيله جائزة نوبل (1977)، وستة عشر عاماً من وفاته في مدريد (1984)، وهو ينتمي إلى جماعة 1927 الطليعية، فكأنه شاعر محاط بالسنوات. تشردت جماعة 27، فقتل غارسيا لوركا أيام الحرب الأهلية، ونفي لأكثر من أربعين عاماً كلّ من بيدرو ساليناس ورافايل ألبرتي ولويس ثيرنودا وخورخي غيينا، أما ألكسندري فبقي في مدريد لاعتلال صحته - على رغم قسوة الحرب الأهلية والملاحقة - ليكتب نظراته الشعرية في الزمن وغرابة الموت والحقيقة والحب الحسي، القبلة والذكريات، البحر والطفولة والشباب والشيخوخة... وهذه هي عناوينه في الشعر.

نحن هنا مع شاعر مقتضب، متأمل، عاش الحب والحياة بفصولها، والموت أيضاً. لكنه حوّل ما قدمته له هذه التجارب من تأملات أو فلسفة إلى شعر، فجاءت جمله متقطعة ولاهثة تكتم أكثر مما تعلن، لذلك كثيراً ما يقطع الشاعر جملته بـ «آه».

في الروح الشعرية، يقترب بيثنتي ألكسندري من بابلو نيرودا أكثر من اقترابه من غارسيا لوركا الذي تأسس شعره على أغاني الغجر، وما سماه هو «الروح المبدع». شيء أقرب الى الانخطاف الروحي الذي يوجد في حماسة رقص الدراويش حين يصرخون الله حي (Viva Dius )، أو في حلبات المصارعة من خلال انخطاف الجمهور مع الماتادور حين يصرع الثور أو يصرعه الثور، أكثر مما يوجد في التأمل أو التفكر. الفارق بين نيرودا وألكسندري، أن نيرودا متدفق وتكاد استطراداته كما في سيف اللهب تجعل من القصيدة فصلاً بكامله. على خلاف ذلك، بيثنتي ألكسندري يكتب البرق الشعري. هو عميق، غامض ومرّ.

«أحترق. لكني لا أحترق. نم. أنام. لكن آه. كفى» (من قصيدة طيات الزمن).

تعدّ ترجمة «قصائد الاكتمال» والتي أنجزها حسين عبدالزهرة مجيد (منشورات أزمنة - عمّان، 2016 ) بلورية. ولعلها متأثرة بالروح الشعرية لألكسندري، لناحية التكثيف والخطف اللغوي، حيث مفردة صغيرة تملأ زمناً. والجمل المتقطعة تظهر أقرب ما تكون للأمثال: «من ير يعرف. من مات ينام. من كان لم يكن. لا أحد أحبه» (من قصيدة «الذي كان» ص 50). وهذا الحفر والاقتضاب، اللذان هما من سمات شعر ألكسندري، كان لا بد من ترجمتهما الى العربية بحفر واقتضاب مماثلين.

غدت ترجمة الشعر، في نهاية الأمر، أمراً لازماً ولا مهرب منه في تداخل اللغات وعولمة الفنون والثقافة، على رغم تحفظات القدامى والمحدثين لناحية كون الشعر لغة الشاعر وروح لغته (أي موسيقاها)، وهي روح من الصعب أن تغادر جسدها في القصيدة، إلى جسد لغة أخرى من خلال الترجمة. لكن لا بد من ترجمة الشعر على كل حال، إنما بنبض جديد لا تطلب منه الأمانة الحرفية بمقدار ما تطلب الشعرية. فيغدو النص المترجم شعراً على شعر، وهذا هو الشرط الضروري للترجمة. كان نيرودا كتب آخر دواوينه بعنوان التساؤلات ولم ينشره في حياته، بل نشر بعد أشهر من موته. وكانت ترجمته إلى العربية، عن الإسبانية مباشرة، سحر أحمد، وهو ديوان يجمع بين الطفولة كنبع للشعر واحتكاك أول بالأشياء، والشيخوخة كثمرة ناضجة للتجربة وللحكمة. بابلو نيرودا أمسك في التساؤلات بالعمر من طرفيه. كذلك فعل بيثنتي ألكسندري في قصائد الاكتمال.

 

الاكتمال - الموت

يحاور الشاعر في قصائده، الشباب والطفولة من تلك الشرفة المشرفة على الماضي من ناحية، وعلى الموت من ناحية ثانية: شرفة الكهولة. إنه يكتب، على الأرجح، المراثي الشفافة للحياة وللحب والشباب.

- لماذا المراثي؟

- لأنها حزينة تأملية، لا يغادرها الزمن. وهو الموت.

- لماذا الشفافة؟

- لأنها قصائد تتحول التجربة الحياتية فيها إلى تأمل (فلسفة)، ويتحول التأمل إلى شعر، أي صورة ولغة استعارة وإيقاعاً. ذلك كله يقدمه الشاعر من خلال غموض آسر. هنا الحياة والفلسفة تذوبان في القصيدة.

من البداية في قصيدة «السنون» يقول: «السنون تلقي أشياء أشبه بالبريق الدائي القاتم وهو يخطو في الضوء البغيض/ غير مرئي أو يكاد/ لأنه يسير مجهولا/ ويمضي مكفناً» (ص 16)، «لم يبق على الموت غير غروب واحد. آه التقلب – الزمن. لا مزيد للحياة... «.

تلعب الذكريات دوراً في بناء الحقيقة الزمنية للشاعر. ذكريات طفولة ماتت، ولا يبقى منها سوى إيماءات لعناصرها. الماضي هو «فيلا بور»: ثلاث شجرات أمامها باب منتصب وصلب. هنا بدأت رعشة الصبي الأولى... لكن الذكريات لا تعيد الحياة».

صحيح أنّ الأسى يلف مناخ الزمن، لكن ذلك لا يمنع الشاعر من أن يبتهج بالشباب، ولا يخالط ذلك الابتهاج أي حزن. ما يطفو من قصيدة «رؤيا الشباب كما تراها السنون» هو رؤيا مبهجة، ضحك، الدنيا تدور كالقبلة « كما بين صوتين ثمة قبلة أو همسة/ أن تعرفي هو أن تضحكي/ والفجر يضحك»، «مثل طفل طاف يسبح سعيداً. ربما بين قبلتين ربما في ثدي القبلة. لكنّ الدنيا تدور، حرة أجل/ إنها كالقبلة، حتى وإن ماتت أو تلاشت» ( ص 32 ).

وحين يلوح الشك للشاعر، فثمة الوجود. لكنه يقول في ما يشبه الفلسفة: «وحده الموت معرفة». الجمل المتقطعة لبيثنتي ألكسندري، ليست جملاً ذات يقين فكري أو إحساسي عاطفي. هي جمل القلق اللاهث وراء أسرار الزمن، الحب، الشباب، الشيخوخة، الموت. ومن حيث لا يقين، فإنه يذكر هذه الارتجافة للأشياء. يقول: «الشيء نفسه وخلافه» (قصيدة شيء يمرّ). يضع جملة من هاملت في قصيدة «الشاعر يكشف حساباً مع نفسه»: «تعيش وتنام وتموت. تحلم بالمصادفة». ويكتب جملة من دانتي في مطلع قصيدة «الأموات»: «أنظر وتعد». لكن، على رغم غموض كل شيء، فإنه لا يجادل الشباب. لأن الشباب لا يخدع، يشرق وحده. وهو يضع رابطاً بين الشباب والحب، وبين الحب والقبلة. حتى أن في الإمكان اعتبار قصائد الاكتمال في مثابة تمجيد للقبلة لأنها كما يقول «جسدنا بعد أن نموت» (قصيدة «قبلة ما بعد الوفاة» ص 87): «كفى/ لا قبل بعد الحياة/ لكني أحسك»...

المعاني والصور التي تأتي مشحونة بدينامية القلق، تأتي كثيفة وغامضة. قصائد ألكسندري دائماً مغلفة بغلالة، لكنها شفافة تستر أكثر مما تكشف. ولعل الغموض كائن في أصل الشعر، وليس متأتياً من الترجمة. ونستطيع أن نقول أن الغموض في أصل التجربة أصل الحياة. كأن يقول: «ولدت مني هنا/ لأني قلت أنت».