آخر تحديث :الخميس-28 مارس 2024-03:01م

فن وثقافة


حركة إعمار باريس وتحولاتها في عصر البارون «الرؤيوي» أوسمان

حركة إعمار باريس وتحولاتها في عصر البارون «الرؤيوي» أوسمان

الإثنين - 27 فبراير 2017 - 10:01 م بتوقيت عدن

- نافدة اليمن / الحياة اللندنية

لم يرتبط اسم مدينة في العالم مثلما ارتبطت باريس باسم البارون أوسمان (1809 - 1891) الذي أحدث فيها ثورة معمارية فعلية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ومعه تغيّرت ملامح المدينة جذرياً وحققت ولادة جديدة. باريس التي نراها اليوم بحلّتها الراهنة، والتي تشكل محطّ أنظار العالم ويزورها ملايين السياح سنوياً، هي ابنة تلك الثورة التي كانت من توقيع البارون جورج أوجين أوسمان Georges Eugène Haussmann.

المعرض المقام حالياً في مركز «بافيون أرسونال» (Pavillon de l’Arsenal) تحت عنوان «باريس أوسمان، نموذج مدينة»، ينقلنا إلى تلك الحقبة ويجعلنا نسافر في التحولات التي شهدتها باريس وانتقالها من مشهد عمراني الى مشهد عمراني آخر.

بدأت هذه المغامرة عام 1852 في زمن الإمبراطور نابليون الثالث الذي كان يرغب في تحديث العاصمة وتجميلها على غرار ما حدث في مدينة لندن التي أقام فيها منذ عام 1846 حتى عام 1848.

ولا بد من التذكير بأن باريس كانت تعاني مشاكل كثيرة على الصعيدين الصحي والاجتماعي. فبسبب عدم وجود نظام للصرف الصحي وضيق شوارع المدينة وارتفاع أبنيتها والاكتظاظ السكاني فيها، كان الهواء خانقاً، ما كان يسبب انتشار الروائح الكريهة والأمراض والأوبئة، ومنها الكوليرا، كما حدث عام 1832. كذلك، كانت المدينة تغرق في الظلام ليلاً، إذ لم تكن الإنارة قد وصلت إلى شوارعها بعد. أما المياه الصالحة للاستعمال فكانت غير متوافرة لكل الأحياء... إضافة الى عدم انتشار الحدائق العامة والمساحات الخضراء التي تشكل رئة المدينة اليوم.

من جهة أخرى، شهدت الأحياء الشعبية ثورات اجتماعية عدة وأهمها ما حصل عامي 1830 و1848. وكان من أهداف هدمها لإعادة إعمارها، التخفيف من حدّة النزاعات وحركات التمرد التي تهدد السلم الأهلي.

شغل البارون أوسمان منصب المدير الإداري لباريس وضواحيها منذ عام 1853 حتى عام 1870، وقام بأشغال جبارة أدت إلى هدم آلاف المنازل والمباني التاريخية وتشييد مبان جديدة وشق طرق واسعة وطويلة تتميز بأبنيتها الجديدة المرصوفة والتي تعتمد واجهاتها الفخمة على الحجارة البيضاء. كذلك أُنيرت الشوارع وشُجّرت وشُيّدت الساحات الجميلة والحدائق العامة والمسارح، ومنها دار الأوبرا الشهيرة ومحطات القطار التي لا تزال تعمل إلى اليوم وتعد من معالم المدينة، وقد عكست آنذاك مرحلة جديدة تتّصف بالقطيعة مع القرون الوسطى والدخول في مرحلة الأزمنة الحديثة. كما أُنشئت شبكات الصرف الصحي والمياه النظيفة للسكان، ما أدى إلى القضاء على الأوبئة والأمراض من جهة، وعلى ثورات الفقراء من جهة أخرى.

ويبيّن المعرض، من خلال مجموعة كبيرة نادرة من الصور والتصاميم والخرائط والأشرطة السمعية البصرية، كيف جرت حركة الإعمار والتحولات الجذرية التي لم تشهدها مدينة أخرى في العالم في فترة لم تتجاوز العشرين عاماً.

ولم تنحصر أعمال البناء في باريس بل شملت أيضاً ضواحيها التي ضمت إليها فأضيفت عام 1860 ست دوائر جديدة الى العاصمة وفيها شيدت الحدائق والمتنزّهات التي ما زالت الى اليوم مقصداً للملايين من الفرنسيين والأجانب، كغابة بولونيا وأيضاً حيّ مونمارتر في الدائرة الثامنة عشرة، الذي استقطب العشرات من الفنـــانين اللامعين عند نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.

باريس التي شيدها البارون أوسمان حققت ازدهاراً كبيراً، فقد أصبحت مدينة الأنوار والنموذج الذي يُحتذى به خارج فرنسا، إذ كان لها تأثير كبير في العديد من قادة العالم الذين أرادوا تحديث مدنهم، كما كانت حال الخديوي إسماعيل مع القاهرة. غير أن انتقادات كثيرة طاولت المشروع لأسباب عديدة تتعلق بأهدافه ككل وانعكاساته الاقتصادية والاجتماعية، وبذاكرة المدينة التي رثاها العديد من المعماريين وعلماء الاجتماع والشعراء والأدباء، ومنهم فيكتور هوغو وشارل بودلير. أبرز منجزات البارون أوسمان تسهيل حركة النقل والتنقل التي صارت متاحة بين مختلف الدوائر والأحياء الباريسية، للبشر والبضائع على السواء، وهذا ما لم يكن متاحاً من قبل حين كان يبقى السكان أسرى الأحياء والدوائر التي يقيمون فيها، بعيداً من المناطق الأخرى. وهنا تكمن عبقرية أوسمان ورؤيته السباقة في تصوّر مدينة تهجس بالتواصل والانفتاح، وتمدّ الجسور مع المستقبل.

يكشف المعرض أيضاً أن السجال حول المدينة لا يزال دائراً ويعكس قوة هذا المشروع وقدرته على التأقلم مع التغيرات الكبيرة ومواجهة التحديات التي طرأت في العالم منذ القرن العشرين. لكن، مهما تباينت الآراء، يبقى أنّ التغيّر الذي شهدته مدينة باريس منحها خصوصية تميزها عن بقية دول العالم، شرقاً وغرباً.