( في خضم التركيز المسلط على عمليات التحالف الدولي ضد جماعة الحوثي وعلى الأزمة الإنسانية في اليمن، غاب الاهتمام بمعاناة الأقليات، التي تعاني من اضطهاد. ويُستهدف المسيحيون والأقليات الأخرى المتناقصة في اليمن، ويتضاءل أملهم بالحماية من قبل دولة مقسمة، معطلة وآخذة في التدهور. ودفع هذا الوضع عددا كبيرا منهم إلى الهرب خارج اليمن، الذي يشهد ما شهده العراق من ضياع لشواهد على تاريخه المتنوع، على أيدي جماعة أنصارالله (الحوثيين) وتنظمي داعش والقاعدة ) .
بينما يستعد البابا فرنسيس لترؤس قدّاس في دولة الإمارات العربية المتحدة التي يصلها الأحد، في أول زيارة لحبر أعظم إلى المنطقة المحافظة التي تعتبر مهد الإسلام، يفقد اليمن المجاور يوما بعد يوم شواهد تنوعه الثقافي والديني والمجتمعي، بسبب استهداف أقلياته، من قبل تنظمي داعش والقاعدة المتشددين ومن الحوثيين الذين يسعون إلى تغيير ديموغرافي في البلاد التي تشهد حربا منذ سنة 2014.
وبعدما كانت مراكز عبادة لأعداد قليلة من المسيحيين، تحوّلت كنائس اليمن إلى مجرد أبنية مهجورة بسبب الحرب، لكنها تبقى رغم ذلك شاهدة على تاريخ من التنوع الإثني. وتقول النيابة الرسولية في جنوب شبه الجزيرة العربية إن هناك أربع كنائس كاثوليكية في اليمن وكنائس أخرى غير كاثوليكية.
ويعاني المسيحيون في اليمن من معاناة مضاعفة، تضييق بسبب الدين، وتداعيات الحرب التي يعاني منها كل اليمنيين. ويشير مسؤولون إلى أن أعدادا من المسيحيين لا يزالون يتواجدون في هذا البلد لكنهم لا يجاهرون بإيمانهم في ظل تصاعد نفوذ جماعات متطرفة.
وكانت كل من عدن في جنوب اليمن، المقرّ الحالي للسلطة المعترف بها، وصنعاء، العاصمة الخاضعة لسيطرة المتمردين الحوثيين، تضم كاتدرائية كاثوليكية. وفي سنة 2015، تعرّضت كاتدرائية عدن للتخريب ولهجمات من متطرفين، ما دفع بالقيمين عليها إلى إغلاقها لأجل غير مسمى.
ممنوع الدخول
عند مدخل كنيسة القديس فرنسيس الأسيزي الكاثوليكية في حي التواهي في غرب عدن، بوابة حديدية ضخمة تبدو عليها آثار الرصاص والصدأ. وكتب على البوابة بخط عريض “ممنوع الدخول”، بالقرب من آية قرآنية “لكم دينكم ولي دين” كتبت على السور الإسمنتي الأبيض المحيط بالكنيسة. ويعلو سطح الكنيسة تمثال ليسوع المسيح، فاتحا ذراعيه، إنّما من دون رأس.
وبحسب محمد سيف، أحد سكان التواهي، فإن الكنيسة تستقبل المصلين “منذ أيام البريطانيين، قبل 140 إلى 150 سنة، وبقيت تقام الصلوات فيها حتى اندلاع الحرب مع الحوثيين” في مارس 2015 حين سيطر المتمردون على عدن قبل أن تطردهم القوات الحكومية بعد أشهر. ويتابع وهو يقف على رصيف في مقابل الكنيسة التي تحيط بها أشجار “تمت سرقتها وتم نهبها”.
وأقدم مسلحون في 2015 على تفجير كنيسة في حي المعلا القريب من التواهي. وأشار سكان إلى أن الكنيسة الواقعة إلى جوار مقبرة مسيحية، كانت عبارة عن مكان عبادة صغير شيّد في خمسينات القرن الماضي في زمن الوصاية البريطانية.
وفي سنة 2016، قتل 16 شخصا على الأقل بينهم أربع راهبات أجنبيات عندما هاجم مسلحون دارا للعجزة أسّستها جمعية تابعة لرهبنة الأم تيريزا. وخطفوا خلال العملية الأب أوزهوناليل (56 عاما) الذي ينحدر من كيرالا في جنوب الهند، قبل أن يطلقوا سراحه بعد أشهر.
ولم تتبن أي جهة الهجمات، لكن السلطات المحلية ألقت باللوم على تنظيم الدولة الإسلامية الذي وجد، إلى جانب تنظيم القاعدة، فرصة لتعزيز نفوذه في اليمن مع استمرار النزاع.
على مدى عقود، بقي اليمن فريدا في تنوعه بالمقارنة مع جيرانه في الخليج العربي، إذ كان موطنا للمسلمين والمسيحيين واليهود والإسماعليين والبهائيين. ويعتقد أن المسيحية وصلت إلى جنوب اليمن في القرن التاسع عشر عبر الإرساليات الآتية من بريطانيا خصوصا.
وبحسب الأب ليني كونالي المقيم في دبي وعضو النيابة الرسولية في جنوب شبه الجزيرة العربية، وصل الكاثوليك إلى اليمن في العام 1880.
ومع اندلاع ثورة العام 1967 في جنوب اليمن، فرّ العديد من رجال الدين المسيحيين إلى دولة الإمارات العربية المتحدة والخليج. ويوضح كونالي “كلّ شيء بدأ في اليمن، ولذا فإن اليمن مهمّ جدا لنا”.
وأشارت بعض المصادر التاريخية إلى أن بعض القبائل العربية التي كانت على صلة بمركز المسيحية في الحيرة بوسط العراق ساهمت في نشر المسيحية في شبه الجزيرة العربية بما فيها اليمن.
النائب الرسولي في جنوب شبه الجزيرة العربية المطران بول هيندر يقول بأسف "إنه واقع حزين، ونحن نصلي لأن يحل السلام في اليمن، خصوصا أن الناس يعانون من الجوع، والمجاعة تهدّد حياة الملايين من الناس"
وأكدت نفس تلك المصادر أن اضطهاد النساطرة في الإمبراطورية الفارسية بين عامي 309 و379 دفع المسيحيين إلى الهجرة إلى دول الخليج بما فيها الإمارات العربية المتحدة.
واليوم ومع تنامي هجمات المتطرفين وجد المسيحيون اليمنيون في الإمارات التي عرفت بتسامحها الديني ملجأ لهم للقيام بطقوسهم الدينية والاستفادة من القوانين التي ترعاها الدولة. واستقبلت الإمارات ودول الخليج في السنوات الأخيرة عددا من المسيحيين اليمنيين.
وتشير بلقيس ويلي، الباحثة المتخصصة في شؤون الشرق الأوسط إلى أن الحرب أثّرت على المجتمع المسيحي في اليمن بصورة حادة، وقد فرّ الكثير منهم من البلاد ويتطلعون يوما ما إلى العودة إليها بعد انتهاء الحرب.
على خط التماس
يقول النائب الرسولي في جنوب شبه الجزيرة العربية المطران بول هيندر بأسف “إنه واقع حزين، ونحن نصلي من أجل أن يحل السلام في اليمن، خصوصا أن الناس يعانون من الجوع، والمجاعة تهدّد حياة الملايين من الناس”.
وأكد أن الخدمات التي تقدّمها كنيسته “معلّقة” في اليمن بسبب الحرب، لكنه أشار إلى وجود “راهبات (…) يخدمن الناس منذ عقود وسيواصلن القيام بذلك”.
إلى جانب عدن وصنعاء، تقول النيابة الرسولية إن هناك كنيستين أخريين تابعتين لها في تعز في جنوب غرب اليمن، وفي مدينة الحديدة المطلّة على ساحل البحر الأحمر غربا. وتخضع تعز لسيطرة القوات الموالية للحكومة، بينما يحاصرها المتمردون.
ويسيطر الحوثيون على الحديدة التي شهدت في الأشهر الماضية معارك طاحنة مع محاولة القوات الحكومية استعادتها قبل التوصل إلى اتفاق هش لإطلاق النار. وتوجد فيها كنيسة القلب الأقدس التي تتخذ من إحدى طبقات مبنى مقرا. والمبنى مغلق وتبدو عليه آثار قذيفة.
ويقول عصام، وهو يقطن بجوار الكنيسة، إنه يسكن في الحي منذ 20 عاما، لكنه لم يكن يلحظ في الجوار أي مظاهر دينية ولم يسمع أبدا الصلوات، معللا ذلك بأن المصلين “كانوا هادئين ومنظمين جدا إلى الحدّ الذي لا يلحظهم أحد”.
وأفاد سكان في مدينة الحديدة، أنهم يجهلون موقع هذه الكنيسة، لكن بعضهم وجّه رغم ذلك رسالة إلى البابا.
وقالت ريما (28 عاما) “أتمنى أن يرى صور الضحايا ويعرف كيف يعيش اليمنيون حياتهم، وأن يصلي لأجلنا”.