هذي حقيقتنا...

 


يوغل كثيرون في السطحية الذهنية عندما يُعيدون مشهد الحرب الدائرة في اليمن اليوم إلى أسباب وعوامل قريبة العهد أو طارئة الحدث. ويُبالغون في الاستظراف الذي يعكس حالة خواء حقيقي اذا ما راحوا يُطلقون على ما يحدث صفات دفترية من صنف العبارة العابرة للقواميس، كالصراع الطائفي والمؤامرة الكونية وغيرها من محفوظات الذاكرة التي أنهكتها قراءة الصحف السيارة وشرختْها أحلام اليقظة المُخدَّرة.

إن البعض يُعيد الأزمة اليمنية الحادة الراهنة إلى وقائع التسرُّع في اعلان قيام دولة الوحدة في 22 مايو 1990 على ذلك النحو الارتجالي والمتهافت أو بما يُطابق حالة الهروب إلى الأمام أو كالمستجير من الرمضاء بالنار. وهذا الرأي صحيح في جانب محدود من بورتريه المشهد.

ويرى آخرون أن حرب صيف 1994 (وهي نتيجة للحالة الأولى وليست حالة مفردة بذاتها) كانت بمثابة الشرخ الأكبر الذي أدى إلى هذا التصدُّع الجسيم -بل والكارثي- الذي آلَ إليه جدار الوطن اليوم. وهذا رأي صحيح أيضاً في جانبٍ من الصورة الشاملة.

ويعتقد بعضهم أن هشاشة الدولة -أو بوضوح أكثر: رخاوة مؤسساتها وكرتونية هيكلها البنيوي واستفحال جرثومة الفساد في مفاصلها، وهي أبرز ملامح عهد الرئيس السابق ع . ع . صالح - هي التي أعجزت الرئيس الحالي عن السيطرة على البلاد سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وأمنياً، مثلما مكَّنت جماعة الحوثيين من اسقاطها - أو ما تبقَّى منها- تحت سنابك جيش متناقض الولاءات ومتداخل المصالح، أجتمع قادته على كلمة سواء واحدة: الخراب.

وسوف تتعدّد أسماء الأشخاص وعناوين الأحداث وسمات الوقائع، وتظل تتكرّر كمياه النافورة وأوراق الروزنامة، وجميعها تشير إلى سبب ما أو عامل معين وراء أيلولتنا إلى الواقع السياسي والاحترابي والانساني الماثل قبالتنا اليوم. غير أن بداية المشهد وبؤرة الحدث يبعد بالضرورة عما حدث في 1990 و 1994 و2014.

إن هناك من لا يريد الاعتراف -لأسباب ذاتية في المقام الأول- بأن اغتيال الرئيس ابراهيم الحمدي (كمشروع كبير بمعنى الكلمة وليس كشخص بالتحديد) في 11 أكتوبر 1977 كان الضربة القاصمة في رأس وبدن اليمن، بشطرها الشمالي يومها. ثم تعاظَم أثر هذه الضربة حدَّ الاصابة القاتلة بما استتبع ذلك الاغتيال من انحراف حاد وخطير للغاية عن كل دروب النجاة بالبلاد والعباد على يد النظام الذي خلف نظام الحمدي، إذْ لم يكن ذلك الاغتيال مجرد جريمة قتل استهدفت حياة رئيس الدولة وبعض مساعديه ومريديه، كما هو متوافر ومتكرر في الحالة اليمنية المُزمِنة، بل كانت حالة انقلاب جذري حاد في بُنية نظام ودولة بنى الحمدي لبناتهما ثم محاها خلفه -قاتله- عن بكرة أبيها!

كما أن هناك من لا يريد الاعتراف أيضاً -ولأسباب ذاتية في المقام الأول كذلك- أن مسبعة 13 يناير 1986 كانت أُمَّ الكوارث على الاطلاق في تاريخ اليمن، بشطرها الجنوبي، منذ استقلال 30 نوفمبر 1967، برغم أن جرائم 22 يونيو 1969 و26 يونيو 1978 -وما بينهما- قد مهَّدت بالضرورة القطعية للجريمة الأكبر والأخطر والأفدح والأعمق في 1986، لاسيما أن الأدوات والأساليب والخلفيات والشخوص ظلت نفسها في كل تلك الأحداث -الجرائم- ما أكد حتمية حدوثها، من منطلق أن النتائج وليدة أسبابها بالضرورة.

نقلا عن (يمن مونيتور)