آخر تحديث :السبت-27 أبريل 2024-03:11ص

منوعات


لماذا تسببت الإنفلونزا الإسبانية في وفاة ملايين البشر؟

لماذا تسببت الإنفلونزا الإسبانية في وفاة ملايين البشر؟

الثلاثاء - 06 نوفمبر 2018 - 05:09 م بتوقيت عدن

- نافدة اليمن / بي بي سي

في عام 1918، اجتاح وباء الإنفلونزا الإسبانية العالم، وفي فترة وجيزة أوقع ضحايا بالملايين. وبينما اندلعت أوبئة إنفلونزا أخرى في العصور الحديثة، فإنها كانت أقل منها فتكا بمراحل، فما هو سرّ ضراوة هذا الفيروس؟

إذا كنت بلغت سنا يسمح لك بقراءة هذا المقال، فأنت في الغالب قد عايشت أحد أوبئة الأنفلونزا العالمية على الأقل، وربما لا يكون الفيروس المسبب لهذا الوباء أقل قدرة على الانتشار من الفيروس المسبب لوباء الإنفلونزا الفتاك الذي اندلع في عام 1918.

فقد تفشت موجة وبائية أخرى في عام 1957، أُطلق عليها "الإنفلونزا الآسيوية"، وبعدها موجة "إنفلونزا هونغ كونغ" في عام 1968. وبعد أربعين عاما، شهدنا تفشي "إنفلونزا الخنازير" في عام 2009

وتتشابه جميع موجات وباء الإنفلونزا الأربعة في أصولها، إذ بدأ كل وباء من هذه الأوبئة بطريقة ما بسبب فيروس إنفلونزا حيواني المنشأ تطور ليصبح قادرا على الانتشار ونقل العدوى من شخص لآخر. لكن لا وجه للمقارنة بالطبع بين حصيلة ضحايا جائحة الإنفلونزا التي وقعت عام 1918، وبين عدد ضحايا الجوائح اللاحقة.

إذ يقال إن وباء الإنفلونزا الذي تفشى في عام 1918 قد أودى بحياة ما يتراوح بين 40 و50 مليون مصاب، في حين أن الموجتين اللاحقتين، إنفلونزا هونغ كونغ، والإنفلونزا الأسيوية، حصدتا أرواح مليوني مصاب، وأودت إنفلونزا الخنازير في عام 2009 بحياة 600 ألف مصاب.

وخلف وباء عام 1918 خسائر بشرية فادحة إلى حد أن الكثير من الأطباء يصفونه بأنه "الكارثة الطبية الأشد فتكا في تاريخ البشرية". لكن لماذا كان وباء الإنفلونزا في عام 1918 شديد الفتك والضراوة إلى هذا الحد؟ وهل من الممكن أن تساعدنا دراسة هذه الأوبئة وكيفية نشأتها في أخذ الحيطة والحذر تحسبا لحدوث موجات مماثلة من وباء الإنفلونزا؟

لا شك أنه لولا القفزات الهائلة التي شهدها الطب خلال القرن العشرين لما تمكنا من فهم كيفية تطور الفيروس إلى وباء واسع الانتشار.

ففي عام 1918، كانت الفيروسات لا تزال حديثة الاكتشاف، ويقول ويندي باركلاي بجامعة إمبريال كوليدج بلندن: "لم يدرك الأطباء حينها بالطبع أن الفيروسات هي التي تسبب هذه الأمراض".

Image caption لم يخلف وباء 1968، الذي كان أسرع وأوسع انتشارا، ضحايا مثلما خلف وباء 1918

وكان الطريق أمامهم لا يزال طويلا لاكتشاف الأدوية المضادة للفيروسات واللقاحات التي تساعد الآن على كبح تفشي المرض وتسريع التعافي منه.

لكن الإنفلونزا قد تودي أيضا بحياة المصابين في الكثير من الحالات بسبب "العدوى البكتيرية الثانوية"، إذ تغزو البكتيريا الجسم الذي أوهنه فيروس الأنفلونزا، وتتكاثر وتسبب التهابا ثانويا مثل الالتهاب الرئوي.

وقد اكتشفت المضادات الحيوية مثل البنسلين في عام 1928، ويستخدمها الأطباء لتقليل احتمالات حدوث العدوى الثانوية، لكن في عام 1918، لم تكن هذه العلاجات واللقاحات التي تساهم في حماية الفئات الأكثر عرضة للإصابة بالفيروس قد اكتشفت بعد.

وتقول جيسيكا بيلسر، التي تعمل في إدارة الإنفلونزا بمراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها بالولايات المتحدة: "أصبحت أنظمة الرعاية الصحية وأدوات تشخيص الأمراض وعلاجها أكثر تطورا بمراحل عما كانت عليه في مطلع القرن العشرين".

إلا أن غياب الوسائل التشخيصية والعلاجية في عام 1918 لم يكن هو السبب الوحيد لارتفاع أعداد ضحايا وباء الإنفلونزا، بل يضاف إلى ذلك أيضا تردي الأوضاع المعيشية في هذا الحقبة العصيبة من تاريخ البشرية، التي دارت فيها رحى الحرب العالمية الأولى.

إذ كانت الخنادق مرتعا للبكتيريا والفيروسات المسببة للأمراض بين الجنود.

ويقول باتريك ساوندرز هيستنغز، من جامعة كارلتون بولاية أوتاوا: "ظهرت الفيروسات عندما جمعت ساحة المعركة شعوبا، لم يكن قد سبق لها الالتقاء ببعضها من قبل. وكان الكثير من المصابين بفيروس الإنفلونزا يخضعون للعلاج من إصابات أخرى ويعانون من سوء التغذية".

ويضيف أنه قد لوحظ وجود علاقة وثيقة بين نقص فيتامين ب تحديدا وبين زيادة معدلات الوفيات في موجات الوباء الأخيرة.

لكن وباء 1918 طال المدنيين غير المشاركين في القتال أيضا، إذ أن البيئات المغلقة والمكتظة التي كان يعيش فيها الناس بعيدا عن ميادين القتال لم تسرع انتقال الفيروس من شخص لآخر فحسب، بل فاقمت أيضا حدة الأعراض.

ويقول باركلاي: "من المعروف أنه كلما زادت جرعة الفيروسات التي تدخل إلى الجسم، زادت حدة الأعراض وتدهورت حالة المصاب، لأن الفيروس في هذا الحالة سيجتاح الجهاز المناعي ويتكاثر وينتشر بقوة في مختلف أجزاء الجسم".

وتقول كيرا غرانتز من جامعة فلوريدا: "مما لا شك فيه أن التطور الصناعي، وما ترتب عليه من تحسن كبير في النظافة الشخصية والعناية بالصحة العامة، وانخفاض معدلات الفقر بشكل عام، قد أسهما في تراجع معدلات الوفيات الناجمة عن الأمراض المعدية عما كانت عليه في مطلع القرن العشرين".

وبتحليل سجلات من شيكاغو تعود إلى عام 1918 أثناء تفشي الوباء، اكتشفت غرانتز أن ثمة عوامل عديدة زادت من فرص انتقال العدوى من شخص لآخر، مثل الكثافة السكانية والبطالة.

والغريب أنها لاحظت من السجلات أن معدل الوفيات في بعض المناطق من المدينة ارتبط ارتباطا وثيقا بمعدلات الأمية. وقد يرجع ذلك إلى العلاقة الوطيدة بين الأمية والفقر، أو ربما لعب الجهل دورا مباشرا في تفاقم أعراض المرض.

وتقول غرانتز: "بذلت الجهات المسؤولة عن الصحة العامة قصارى جهدها للتصدي لتفشي الوباء في مدينة شيكاغو، إذ أقامت محاجر صحية في مختلف أنحاء المدينة وأغلقت مدارس، وحظرت إقامة بعض المناسبات الاجتماعية. لكن كل هذه التدابير لن تسهم في الحد من انتشار المرض إلا إذا عرفها الناس والتزموا بها".

أضف إلى كل هذه العوامل ضراوة الفيروس نفسه، إذ يرى الكثير من العلماء أن الفيروس المسبب لوباء الإنفلونزا عام 1918 كان فتاكا وسريع الانتشار بشكل استثنائي، إلا أننا لم نفهم أسباب شراسته إلا بعد مرور مئة عام على ظهوره.

فبالرغم من أن تقنيات جمع الفيروسات واختزانها وتحليلها وزراعتها مخبريا لم تظهر إلا بعد اختفاء السلالة الأصلية الفتاكة من الفيروس بعقود طويلة، فإن التطورات الحديثة في مجال الهندسة الوراثية قد مكنت العلماء من إعادة إحياء فيروس فعال من جينات عينات فيروسات خاملة قديمة، وحقنوا حيوانات مخبرية مثل القرود بهذا الفيروس الفعال الذي تسبب في حدوث وباء 1918 لدراسة آثاره.

ولاحظ العلماء أن هذا الفيروس ليس قادرا على التكاثر بسرعة فائقة فحسب، بل أيضا كان يبدو أنه يستحث استجابة مناعية مفرطة، يطلق عليها متلازمة إفراز السيتوكين أو "عاصفة السيتوكين"، أي الإفراز السريع والمتلاحق لكميات هائلة من الخلايا المناعية والجزيئات التي تنظم الاستجابة المناعية والتي تسمى بالسيتوكينات.

وبينما تساعدنا الاستجابة المناعية الفعالة في مكافحة العدوى، فإن الإفراز المفرط للخلايا المناعية النشطة في الجسم، قد يؤدي إلى حدوث التهابات حادة وتجمع السوائل في الرئتين، مما يزيد احتمالات الإصابة بعدوى بكتيرية ثانوية، مثل الالتهاب الرئوي الثانوي.

وربما لهذا السبب كان الشباب الأصحاء هم الفئة الأكثر تضررا من وباء الإنفلونزا عام 1918، ففي هذه الحالة تسببت أجهزتهم المناعية القوية، التي تساعدهم عادة على التخلص من المرض، في حدوث متلازمة إفراز السيتوكين أو عاصفة السيتوكين الحادة.

لكن لنفهم سر قوة تأثير سلالة فيروس الإنفلونزا المسببة لوباء 1918، سنلقي نظرة على أصولها.

إذ يرى العلماء أن سلالة الفيروس التي سببت وباء 1918، تطورت من سلالة للفيروس تصيب الطيور، إذ تحورت واكتسبت القدرة على إصابة الجهاز التنفسي العلوي لدى البشر. وبهذا أصبح بإمكان هذه السلالة الانتقال عبر الهواء بسهولة من شخص لآخر، عن طريق زذاذ السعال والعطس.

وترجع أهمية هذا الأمر لسببين، أولا أن جهاز المناعة في الجسم لن يستطيع التعرف على الفيروس وتوليد الاستجابة المناسبة له إن لم يكن المضيف قد أصيب به مسبقا.

وثانيا، لم يكن الفيروس نفسه آنذاك قد تأقلم تماما مع الحياة داخل الجسم البشري. فعلى عكس التوقعات، ليس من مصلحة فيروس الإنفلونزا أن يقتل المضيف.

ويقول باركلاي: "لا يريد الفيروس أن يقتل المضيف فور الدخول إلى جسمه، لأن هذا سيقلل من فرصه في الانتقال لمضيف آخر".

بل في المقابل يحتاج الفيروس أن يظل داخل جسم المضيف لأطول فترة ممكنة حتى يتمكن من الانتقال عبر السعال والعطس لمضيف غيره. ولهذا تتطور معظم الفيروسات مع الوقت لتصبح أقل تأثيرا على المصاب. ولكن في عام 1918، لم يكن فيروس الإنفلونزا قد اكتسب هذه الخصائص بعد.

وفي المقابل، تكيفت الفيروسات التي سببت الأوبئة اللاحقة وأصبحت أقل فتكا حتى تتمكن من الإنتشار من شخص لآخر ومن بلد لآخر حول العالم.

إذ ظهر الفيروس المسبب لوباء 1957 على سبيل المثال نتيجة اكتساب سلالة فيروس الإنفلونزا التي تصيب البشر بعض الجينات من سلالات فيروس الإنفلونزا التي تصيب الطيور، وأسفر هذا الاختلاط الجيني عن نشوء سلالة جديدة شديدة العدوى، لكنها أقل فتكا من سلالة فيروس إنفلونزا الطيور بفضل ما تحمله من جينات من سلالة الفيروس البشري.

والحال نفسه ينطبق على الفيروس المسبب لوباء 1968، المسمى بإنفلونزا هونغ كونغ، فهذا الفيروس المهجن كان يحمل جينات فيروسات عديدة موجودة بالفعل، وكانت الفيروسات الأصلية قد تكيفت وأصبحت أقل شراسة من السلالات السابقة.

أما وباء الإنفلونزا الذي تفشى عام 2009، فكان سببه فيروس إنفلونزا الخنازير، ولأن الخنازير بطبيعة الحال أقرب إلى البشر على الأقل مقارنة بالطيور، فإن هذا الفيروس الذي يصيب الخنازير عادة قد تطور ليصبح أقل شراسة من الفيروسات السابقة.

وفي ضوء هذه النظرة عن كثب على عمليات تطور الفيروسات، قد نتمكن من فهم أسباب تفشي الأوبئة في السابق، والوقوف على الخصائص الجينية للفيروس التي تجعله قادرا على الانتشار ونقل العدوى بسرعة هائلة من شخص لآخر كما حدث في عام 1918، لنكون أكثر استعدادا لمنع وقوع كوارث مماثلة مستقبلا.

يقول بيسلر: "أرى أن دراسة الفيروسات التي سببت كوارث بشرية في الماضي ستساعدنا في اتخاذ القرارات السليمة وتوجهنا إلى أفضل الطرق لتلافي اندلاعها في المستقبل".