آخر تحديث :السبت-27 أبريل 2024-08:02م

قراءة أولية في "حنبات" فكري قاسم

السبت - 16 سبتمبر 2023 - الساعة 12:20 ص

د. صادق القاضي
بقلم: د. صادق القاضي
- ارشيف الكاتب


سعدت بالاطلاع أكثر من مرة على قصص هذا العمل، وأعجبني صدوره بهذه العتبات المعبرة بداية بلوحة الغلاف الذي يصور شخصًا بلا ملامح تقريبًا، باستثناء عينين مفتوحتين على اتساعهما؛ تعبيرًا عن الصدمة المباغتة المصاحبة عادة للوقوع في ورطة، وأنف طويل منقسم رأسيًا بين الضوء والظل؛ تعبيرًا عن انقسام الشخصية المتورطة العالقة بين حالتين.

الترابط بين هذه اللوحة والعنوان لا تخطئه العين، فاللوحة مرادف أيقوني للعنوان، الذي هو بدوره، وباعتباره أهم مفتاح عتباتي سيمولوجي للعمل، وكمنصة خارجية تطل على عناصر المجموعة القصصية، كان موفقًا وملائمًا في التعبير الإجمالي عن الرابط المشترك بينها، وهو أنها جميعًا حنبات.

الحنبة مفردة لغوية شعبية، تعني الورطة الشديدة التي من الصعب الخروج منها، كون هذه المفردة العنوانية شعبية، تناص إضافي مع قصص المجموعة التي يجمع بينها أيضًا أنها مطعّمة باللغة الشعبية في غضون اللغة الفصيحة.

معظم قصص المجموعة تجارب شخصية للمؤلف من مرحلة الطفولة، والصبا، وبداية الحياة الشبابية، الجامعية أو المهنية، وكل منها يتناول جانبًا من جوانب الشخصية في تفاعلاته مع الحياة، كورطة إنسانية كبرى.

قصة حذاء هائل سعيد:
تجربة عميقة في التدين الطفولي البريء، وشقاوة الطفولة، وانطباعاتها الساذجة عن الشخصيات الخيرة المحسنة المجسدة في شخصية "بابا نويل"، والشخصيات الشريرة المجسدة هنا في شخصية "بهلول"، شخص مناع للخير، هذا التجسيد الذي ينعكس في أغلب قصص الأطفال، مع خصوصية لكل تجربة.
"بهلول" في التراث العربي، شخصية ذات مستويين:
المستوى الأول مستوى سطحي شعبوي يتبدى فيه بهلول كشخصية رثة تافهة متخلفة عقليًا، تقوم عادة بدور الأهبل، الأراجوز المسخرة الذي يقوم من خلال غبائه، بإضحاك "السلاطين".
المستوى الثاني: مستوى خصوصي عميق، ينبثق من المستوى الأول ليطرح مفارقة قوية، كيف يمكن لشخص بسيط ساذج أن يكون بهذه الخصوصية النوعية والخطورة.
استغل الكاتب هذه الازدواجية التراثية، ليصور بهلوله كشخصية تافهة وشريرة في الوقت نفسه.
القصة تغلغل نفسي للأفكار والعواطف الطفولية الساذجة، والطموحات والمخاوف والحاجات البسيطة للطفولة الفقيرة خاصة في مواسم الأعياد، واستكناه للطفولة التعيسة في علاقاتها بالمساجد، كحالة حانبة في سرقة حذاء، أو طامحة للحصول على مبلغ يكفي لشراء تذكرة لحضور سيرك.. أو تذكرة سينما. 
"هاذيك المباهج المرتقبة في العيد، والموضوع يشتي له ضمار كبير". ضمن قصة استندت الذكريات الخالدة لحنبات الطفولة. وتمحورت حول مغامرة للحصول على مساعدة تحولت إلى مغامرة لسرقة حذاء، وحنبة تخبئته، وحنبة بيعه وحنبة إعادته..

إيش بعد آي لاف يو؟!
حنبة الحب لروبي الجميلة الأجنبية من عائلة إنجليزية راقية، وصراع ضد الحواجز اللغوية والحضارية والقومية، وكيف يمكن للحب أن يكون دافعًا قويًا لكسر هذه الحواجز، بدفع صاحبه لمحاولة أن يتجاوز واقعه ويصبح أفضل من نفسه. ليكون في آخر المطاف لائقًا بالطرف الآخر، ضمن تداعيات سردية تنتهي بمرارة الخيبة المتمثلة في رحيل الطرف الآخر.

توأمة مع البودي!
من أجمل وأظرف قصص المجموعة، وتتناول مرحلة حساسة من حياة أي طالب يمني قروي بسيط في بداية حياته الجامعية، واستغوار الشجون والطموحات والحاجات المادية والنفسية لهذا الطالب الشاب، وهو يخطو لأول مرة هذه العتبة الأكاديمية التي تؤدي به إلى محفل تعليمي يضم فيما يضم زملاء من الجنسين، وبالذات من الجنس الناعم.
ما هو الهم الأكبر، بالنسبة لمثل هذا الشاب، في مثل هذه المرحلة؟!
"بأيش باتفكر"؟!
الجواب من وجهة نظر الكاتب هو: التفكير بأناقة المظهر الشخصي، والموضة اللي تعجب البنات في الكلية.
القصة بمجملها عن حنبات هذا الطالب الفقير في معالجة هذه الحاجة، من خلال استعارة ثياب معارفه وزملائه.
للتعبير عن هذه العملية، استعار الكاتب مصطلحًا فخمًا هو "التوأمة"، وهو مصطلح أكاديمي يقصد به عملية تبادل الخبرات والإمكانيات بين طرفين، كما كان يحدث بين جامعة صنعاء وجامعات أوروبية.
الحنبة هنا، على الصعيد الشخصي، أن العملية تقتضي صداقة بين الطرفين لتتم، ومع أن العملية تقتضي مبدئيًا أن تكون تبادلية، لكن الطرف الأول لا يملك فيها شيئًا ليقدمه في المقابل!
"ومامعك فوق البودي "الجسم" غير الجرم والكلسون؟!" 
"وسارت أيام وجت أيام من بعد ذلك، ومشروع التوأمة القديم، بين جامعة صنعاء وجامعة السربون، لا يزال حتى هذه اللحظة مجرد حلم أكاديمي كبير لجامعة طموحة حظها بين الأمم؛ مثل حظي؛ ومامعاها من ضمار للتوأمة غير البودي فقط".

زاد عدمنا البرميل:
تدور القصة هنا حول "حنبات" شاب صحفي مبتدئ، يحمل مبكرًا هم أمه التي راهنت على شهادته الجامعية لتحقيق حلمها الكبير في الانتقال من بيت أبوها المزحوم بذرية الأخوال، إلى بيت خاص يجنبها المشاكل العائلية. 
شاب غشيم في التكنولوجيا الرقمية، يكتب على الورق ويرسل مقالاته بالفاكس، للصحف التي يراسلها مجانًا. سمع عن الإيميل، واستعان بآخرين ليفتح له واحدًا، وبجانب سوء فهمه للإيميل سوء فهم أمه للإيميل أكبر وأكثر تعويلًا على هذا الشيء الذي سيغير حياتهم.
القصة حافلة بالمفارقات والحنبات الطريفة، والمعانات والوقوع في فخاخ العالم الافتراضي، والخيبات الشخصية، ورغم تعلم الكاتب منها، "وأمي لا تزال على أمل كبير بأن البرميل السعودي سيعاود فتح حنفيته إلى جيبي من جديد ذات يوم من الأيام".

بخت المداكي:
تجربة حافلة بشجون وطرائف المأساة الإنسانية في تعلق الإنسان بحيوان أليف وأنسنته والاهتمام بمتطلباته، مع مشاهد تصويرية غاية في استبطان جوانب الحياة العاطفية والاجتماعية والاقتصادية لمجتمع شعبي بسيط في أموره المعيشية، بقدر تعقيدات الهموم والأزمات والتطلعات الوجودية التي تتغلغل في مختلف جوانب حياته.