تزخر كتب التاريخ بكثير من الحقائق الثابتة المؤكدة أن إغلاق المنافذ وحصار المدن من أبجديات الكهنوت الإمامي عبر التاريخ. وفي عصرنا الحديث غدت استراتيجية إغلاق المنافذ وسد الطرق حيلة حربية أعادها السلاليون الجدد بصرامة، وبصورة أشد مرارة وقسوة من حقيقة الحرب ذاتها؛ كونها حولت مسار التنقل من وإلى المدن اليمنية إلى جحيم متخم بالقهر والمعاناة والبؤس وضنك يشبه الموت.
عمت هذه الاستراتيجية السلالية شتى المدن اليمنية، وأثقلت كاهل اليمنيين، وتتصدر تعز قائمة هذه المأساة؛ فمنذ تسع سنوات أطبق الكهنوت حصاراً جائراً على المدينة من ثلاث جهات، وبقي للمدينة منفذ وحيد يربطها بمحافظة عدن عبر خط بديل وعر محفوف بالخطر، أما الخطان الرابطان بينها وبين إب والحديدة فموصدان تماماً. والأنكى أن المدينة شُطرت إلى نصفين، وقُطع شرق المدينة عن غربها، وتمدد الزمن للعابر من داخل المدينة إلى خارجها من دقائق مقتضبة إلى ساعات قاسية، ومن خط إسفلتي معبّد إلى طريق قاتل يلتهم- من حين لآخر- عشرات الضحايا من بشر ومركبات، لأنه بديل مجازي لا يصلح البتة للسير، وبدائي للغاية.
ليست تعز وحدها التي طالها هذا التعنت والخسف من قِبَل السلاليين؛ فمثلها طريق مأرب- صنعاء، وطريق حيس- الجراحي، وعلى نفس الشاكلة وقعت في الفخ صعدة والبيضاء والضالع والجوف، حتى غدت الصحراء المجهولة هي الخيار الأمثل أمام المسافر إلى المنافذ الحدودية السعودية، وهلم جراً من حوادث مأساوية كان السبب فيها إغلاق الطرق والمنافذ الرئيسية التي أُحيلت إلى بدائل يُعد المرور عبرها موتاً محققاً.
وبعد إطالة أمد هذا الإجرام السلالي بحق اليمنيين، يزأر السلاليون وتعتريهم النخوة البائسة إزاء الحصار والحرب في غزة؛ بينما غالبية المدن اليمنية تتجرع ويلات أغلال الحصار وإغلاق المنافذ، وكأن الأمر بالنسبة للداخل اليمني بمثابة نزهة وترفيه عام يرغب فيه اليمنيون ولا يشكون من عواقبه الوخيمة.
مرات كُثر يتهرب الحوثي من الرضوخ للمطالب والضغوطات الداخلية والخارجية شعبياً وسياسياً، التي تأمل وتتلمس قبوله تخفيف هذا العبء الثقيل وتسهيل العبور من خلال فتح المنافذ المغلقة وإعادة الحياة إلى الطرق الآمنة، وتمكين العامة من المرور عبرها لا القذف بهم في طرق الموت وخوض غمار التهلكة بحتمية الخيار الوحيد لبلوغ غاياتهم.
يتشرنق الوضع العام كلياً في اليمن بين مرارتين؛ مرارة الحرب، ومرارة إغلاق الطرق والمنافذ، وتبدو الأخيرة أشد مرارة وحتفاً من الحرب؛ باعتبارها الشبح الذي أغرق اليمنيين في محيط من الأزمات والمعاناة التي يصعب حصرها واقتصارها على فئة دون أخرى؛ كونها طامة كبرى لم تستثنِ أحداً من بؤسها، وقلبت صورة الحياة في البلاد رأساً على عقب، جرفت الاستقرار نهائياً وأسقطت موازين وتصورات وتموضعات العامة إزاء معيشتهم ومصادر دخلهم وملابسات حياتهم قعر الحضيض والعدمية، فبإمعان النظر والتأمل إزاء ما أحدثه إغلاق المنافذ والطرق بين المدن اليمنية ستجد أن المسألة فظيعة ومرعبة، ومآسيها كارثية على الفرد والمجتمع اقتصادياً واجتماعياً وإنسانياً؛ آلاف الأسر اليمنية تشردت، ومثلها فَقدت مصالحها وهلكت من الجوع والفقر، وتحولت إلى حطام من الشتات والنزوح، ومن تعايشت مع هذا الوضع تجرعت علقم العناء والشقاء ومكابدة الحياة في حلها وترحالها معاً.
من لم يسقط في ساحات الوغى هلك وهو يعبر من مدينة إلى أخرى، ومن جهة إلى أخرى، مات على ناقلة تمخر شرفات الجبال الشاهقة أو وسط رمال الصحراء، ولم يتبقَّ منه إلا خبر نعيه ونبأ مَنيّته وهو يكابد من أجل قوت من يعوول، فهناك حكايات تروي الأرض دمعاً ودماً لمن فُقدوا ومن تاهوا ومن لقوا حتفهم، وهم يتنقلون من منفذ إلى آخر تحت ضغوطات الحياة القاسية ومتطلبات البقاء فيها.
الطرق والمنافذ- في مختلف العصور والثقافات والأزمات- حق إنساني عام، وموضوع حيادي لا يخضع لمنطق الحرب والصراع؛ لكن في زمن الحوثي تم تحييزهما ضمن نقاط الضغط ودائرة المواجهة، ومن هنا يتحتم على القوى الشرعية والمقاومة الوطنية، بمختلف أطيافهم وتوجهاتهم، أن يهبّوا هبة رجل واحد لاستعاة حياة اليمنيين المختطفة بيد المليشيات إبان تعنتها ورفضها الاستجابة للأصوات التي تترجاه لفتح المنافذ لدواعٍ إنسانية وأخلاقية بحتة؛ لكن قلب المجرم لا يلين وسياسة السلالي لا تتغير مع تقادم الزمن ولا تضع أي اعتبار للإنسانية ولا للكرامة، ولا يجدي معها إلا منطق القوة والنار.