آخر تحديث :الأربعاء-02 أكتوبر 2024-07:09ص

حرب الجيل الخامس.. إلى متى؟

الثلاثاء - 01 أكتوبر 2024 - الساعة 10:29 م

د. ثابت الأحمدي
بقلم: د. ثابت الأحمدي
- ارشيف الكاتب


الحروبُ جزء من تاريخ البشرية القديم والمعاصر، وهي أحد فصولِ الممارسات السياسية بوجه آخر، ولكل عصر أدواته الخاصة في الصراع، وقد ابتدأ الإنسان الأول في صراعه مع أخيه الإنسان بالعظم والحجر والعصا، ثم الخنجر والسيف والرمح والنبل. وكل ذلك في البر. ومع تطور الزمن انتقلت الحروب إلى البحر، وفي العصر الحديث تطور الصراع إلى البندقية، فالبندقية الرشاشة، فالمدفع والدبابة، ومع الطائرات أضيف مجالٌ آخر للحروب وهو المجال الجوي، فصارت الحروب: برية، بحرية، جوية؛ أما في العصر الحالي فقد أضيف مجالان آخران: المجال الفضائي، ومجال ما تحت المياه في البحار والمحيطات. وهي مجالات لم تعرفها أجيال الحروب السابقة.

من ناحية أخرى كانت الحروب في السابق عسكرية فقط؛ أما اليوم فقد أضيفت إليها أبعاد أخرى، بل لقد أصبحت الحربُ العسكرية أضعف أنواع الحروب، أو قل أقلها استعمالا، ومع المستقبل قد تكون أقل خطرًا. فالحروب اليوم أيضا اقتصادية، سياسية، أمنية، تكنولوجية "سيبرانية" بيولوجية. وكلُّ واحدة منها منفردة تعمل ما لا تعمله الدبابة أو الطائرة أو المدفع.
واليوم نشهد ما يعرف بحروب الجيل الخامس وفقا للباحث د. شادي عبدالوهاب منصور، في كتابه "حروب الجيل الخامس أساليب التفجير من الداخل على الساحة الدولية". وتتداخل كل الأدوات المتاحة اليوم مع بعضها.

جرب اللاعبون الكبار في الدول العظمى الحروب خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، فكانت تكلفتها باهظة، ومع الألفية الجديدة بدؤوا يتجهون إلى صناعة جيل جديد من أنواع الحروب، عبر الوكلاء الفاعلين من الجماعات المسلحة، سواء الدينية أم القبلية أم الطائفية. أي حروب مجتمعات لا حروب دول، إذ تختفي اليوم الحروب بين دولة ودولة، وتبرز أمامنا في الساحة العربية حروب الفاعلين المسلحين داخل كثيرٍ من الدول.

وتتسم حروب الجيل الخامس بطابع أيديولوجي في الغالب: الحوثيون، داعش، القاعدة، بوكو حرام.. إلخ، الذين يتخذون من الدين شعارا لحروبهم، مزودين بكثير من الدعم اللوجستي من اللاعبين الكبار، كالدعم التقني والدعم المعلوماتي، مستهدفين المجتمع إلى جانب الدولة، وهو الأخطر.

في حروب الجيل الخامس تتعامل الجماعات "الكهفية" الفارة في الأدغال والكهوف مع أرقى التقنيات بصورة غير متوقعة، كما هو الشأن مع تنظيم القاعدة، فعلى سبيل المثال استطاع إبراهيم العسيري خبير المتفجرات في تنظيم القاعدة "قتل في العام 2017م" من تصنيع المتفجرات غير المعدنية من مواد يصعب رصدها من أجهزة الأكس راي، المعمول بها في المطارات، الأمر الذي كلف الدول الغربية ملايين الدولارات؛ إذ اضطرت إلى الاستغناء عن أجهزتها القديمة في المطارات وبحثت عن تقنيات أرقى بتكلفة عالية. وكما هو الشأن أيضا مع الحوثيين في اليمن الذين يستخدمون الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة وأحدث تقنيات الاتصالات والبرمجيات، ومعروف عن الحوثيين أنهم مجرد "شيعة شوارع" كما عبر عنهم الإيرانيون أنفسهم. أغلب قيادات الصف الأول فيهم شبه أميين. وأتباعهم كذلك. وأيضا جماعة داعش الذين استخدموا الدرونز في هجماتهم ضد خصومهم، والذين بلغ عددهم في العام 2015م ما يزيد عن ثلاثين ألف مقاتل، ينتمون إلى 85 دولة؛ بل لقد رفدت فرنسا وحدها التنظيم بأكثر من ثلاثة آلاف مقاتل، واحتلت الترتيب الأول من حيث الأعضاء الأجانب في التنظيم، تلتها ألمانيا فبريطانيا فبلجيكا فالسويد. بين هؤلاء الإرهابيين نساء ذهبن مع أزواجهن إلى أرض المعركة، وقاتلن، وبعضهن قتلن. ويبدو أن فرنسا أرادت أن تتخلص من متأسلميها الجدد، فسهلت لهم الموت مع أقرب جماعة للموت، وهي داعش.

والواقع أن هذا الرقم ما كان له أن يصل إلى هذا المستوى مزودا بأحدث الأسلحة، وأجهزة الاتصالات، بما في ذلك طائرات الدرونز، لولا التسهيلات الغربية والدعم اللوجستي لها. كذلك ما كان الحوثي يستطيع الانقلاب على الدولة وغزو العاصمة صنعاء بتلك الطريقة، لولا الضوء الأخضر الخارجي، ثم الدعم اللوجستي، وقد أشارت إلى ذلك تلميحًا سفيرة الاتحاد الأوروبي في اليمن جين ماريوت في أحد حواراتها مع صحيفة الوسط.

إن حروب الجيل الخامس لم تعد حكرا على الدول فقط، بل يستطيع الفاعلون المنظمون صناعة حروب وإدارتها، مزودين بتقنيات الاتصالات والأسلحة الحديثة والمال الذي يتدفق إليهم عبر اللاعبين الكبار من خارج الدولة، مستغلين المتناقضات السياسية في المجتمعات المعقدة، ومتحالفين مع الجماعات الساخطة على الدولة، من "الفواعل المنفعلة"، وقد رأينا كيف ساند كثيرٌ من اليساريين في اليمن الجماعة الحوثية؛ وأيضا كيف يتعاطى المجلس الانتقالي معهم بتلك الخفة، خاصة إذا ما نظرنا إلى التصريح الأخير لعيدروس الزبيدي الواهم بالتحاور مع الحوثيين في حال سيطروا على بقية المناطق..! وهو تصريح يعكس مدى طيشه وجهله باللعبة الكبرى من حوله، وبحقيقة الحوثيين الذين يتحاورون بأفواه البنادق لا بالحوارات السياسية.

باختصار.. إنها حروب الشبكات والطائرات والإعلام، حروب هجينة، طويلة المدى، تسعى لرسم خارطة جديدة في المنطقة، غير الخارطة السابقة، ربحت الدول الكبرى حتى قيمة الرصاصة الواحدة التي يقتل بها الأخ أخاه، إذ لم تخسر لا السلاح ولا المال ولا الأفراد؛ حتى أرض المعركة يتم الاتفاق عليه سلفا، وتدار اللعبة من وراء ستار بطريقة لا يدركها بعض قادة الصراع أنفسهم. وهي واحدة من الاستراتيجيات الحربية التي نظّر لها صن تسو، بقوله: "أعظم درجات المهارة تحطيم مقاومة العدو دون قتال".

هذه حروب الجيل الخامس التي نعيش تفاصيلها اليوم، ولما يدرك الكثيرون حقيقتها، والسؤال المستقبلي الذي قد يبدو التساؤل عنه من قبيل الترف والخيال الجامح: ما هي حروب الجيل السادس؟!
د. ثابت الأحمدي