ثمة جهل واضح وفاضح عند الأجيال المولودة في العهد الجمهوري بتاريخ ثورتي (سبتمبر وأكتوبر) وما حققتاه للمواطن اليمني الذي كان مقهوراً ومُستعبَداً خاصة في شمال اليمن.
والسبب ما كان من تجاهل لتوثيق تاريخهما وتدريسه للناشئة بما يُحصنهم من الوقوع في براثن الفكر الكهنوتي مرة أخرى.. لكنهم، مع الأسف، وقعوا ووقعت معهم الجمهورية، في 21 سبتمبر المشئوم.. الذي تعمد السُلاليون اختياره عيداً لثورتهم لموافقته يوم تنصيب (البدر) آخر إمام هرب من صنعاء بعد تعيينه بخمسة أيام، في رسالة منهم بأنّهم أعادوا اليمن مُجدداً لحكم الأئمة الذين يَرَوْن أنّهم أبناء الرسول وأحباؤه وأنقى عِرقاً وأشرف نسباً وأقرب إلى الخالق الذي -
بزعمهم- عصمهم من الوقوع في الشبهات.
ولا تعني مخالفتنا لهم، غير الأخذ على أيديهم وإعادتهم من جنوحهم للظلم والطغيان إلى الرُشد والصواب، فالناس سواسية أمام الله والدستور والقانون، والتمييز لا يكون سوى في المَلَكات الفردية والمهارات الشخصية بغير إضرار وانتقاص من الآخرين، وليس لكون الشخص مُنتسباً لأسرة تزعم صلتها بالنبي أو بـ(أحد من أهله) كما يفعل الحوثيون في تقسيم المراتب والمناصب!! وحسنٌ أنّهم أسرعوا في فعل ذلك: لتتكشف حقيقتهم لمن كانوا مخدوعين بهم.. وكانوا يظنون أنّهم حقاً رُسل العدالة الإلهية لإنقاذهم من الفساد والظلم!
إلى ما قبل 1962م، كان اليمنيون يُجبَرون على افتتاح طلباتهم المُرسلة للأئمة بألقاب التفخيم والتبجيل والعظمة بنسبتهم إلى النبي ويُذيلونها بوصف أنفسهم بـ"خادم تُراب نعلكم"..
ومن أخطاء أنظمة ما بعد الثورة تجاهلها تدوين تلك الحقبة في المناهج التربوية كما هو حاصل في كل ثورات العالم التي حررت الناس من الاستعباد والظلم ومنحتهم الحرية باعتبارها الفارق الأساس بين الإنسان وبهيمة الأَنْعَام. وبسبب هذا التجاهل، حرص دعاة الإمامة على بث وغرس معلومات قد تكون صحيحة في ظاهرها لكنها مُضلّلة في مراميها.. حيث كرست في أذهان الأجيال التي ولدت بعد (26 سبتمبر العظيم) أنّها كانت ثورة ضد الفقر والجهل والمرض فحسب، وهي مقولة صحيحة وصادقة، لكنها كلمة حق أريد بها محو التاريخ الاستعبادي العنصري والتمييز الطبقي الذي حكمت به الإمامة أجزاءَ من اليمن لأكثر من ألف عام.
لقد كان ذلك هو الخطأ الكبير الذي ارتكبته أنظمة ما بعد الثورة، رُبما بسبب حرصها على إغلاق ملف قرون الإمامة المُظلمة وطي صفحات الماضي، وقد يكون السبب استجابتها لشورى وضغوطات رجال الإمامة الذين تغلغلوا في جسد الجمهورية بعد المصالحة الوطنية في سبعينات القرن الماضي، وسيطروا على أهم الوزارات القريبة من مصالح الناس والمرتبطة بدينهم ودنياهم لا سيما العدل والأوقاف ومواقع حساسة في التربية والتعليم.. وتغاضى من بقي من ثوار سبتمبر عن سريان سموم الإمامة في مفاصل الجمهورية، رُكوناً منهم على عظمة المنجز الجمهوري، وتجذّره في وجدان الشعب، فتجاهلوا أهمية تعريف أبنائنا -الذين صاروا محضناً لمثل هذه السموم- بتضحيات ونضالات الثوار من كافة ربوع الوطن.
واليوم، وبعد أكثر من ستة عقود يحكم الإماميون العنصريون مساحات كبيرة وأجزاء مهمة من شمال اليمن.. ويحظون بدعم من دول ومنظمات، بزعم أنّهم أقلية إثنية، رغم سيطرتهم السريعة قبل 8 سنوات على مُعظم اليمن.
وباسم الولاية والاصطفاء وحديث الغدير يفرضون كهنوتهم، متغافلين عن أنّ مبدأي الحرية والمساواة هما رُكْنا الشرعة الدولية لحقوق الإنسان.. وما يمارسونه من تمييز عرقي يضعهم في طائلة المُحاسبة والمساءلة، مهما طال بهم الوقت، ويكفي أنّ لهم مرجعاً لا شريك له يعتقدون عصمته ويؤمنون بولايته، ومن يخالفه لا عهد له ولا ذمة.. لا يتغير ولن يتبدل إلاّ بمفارقته الحياة، وبـ(سيد) آخر من نفس السُلالة.
دخل الحوثيون صنعاء بذريعة تخفيض الأسعار وتجفيف الفساد ومنع الفقر والمرض.. وبعد سيطرتهم زاد الفقر والجهل والمرض انتشاراً وارتفاعاً، وقفزوا من ادعاء تخفيض الأسعار ومحاربة الفقر، إلى مُحاربة العدوان!!
وصار من المؤكد أنّ أحلام الخطاب المدمّر الموجّه من الحوثيين تحوّلت إلى أضغاثٍ وكوابيس مُدمرة لهم، فالشعب اليمني صار يعرف سيرتهم عملياً وواقعاً، لا نظرياً، ومن بُطُون الكُتب، ومهما اختلفت مشارب اليمنيين الفكرية والسياسية -باتوا يدركون عظمة ثورة سبتمبر الشرعية لا اللقيطة.. وصاروا على يقين بأنّ الحوثيين لا يرون أبعد من أنوف مصالح آيات وملالي إيران.
يتعافى الناس من المرض والجوع والجهل بتوفير وسائل التطبيب والعمل والتعليم.. لكنّ حُكاماً مثل الحوثيين يُمارسون التعالي على الشعب هم أحوج ما يكونون لإنقاذهم من فقر الأخلاق ومعالجتهم من مرض التعالي والجهل بالدين.
* رئيس المركز الإعلامي للمقاومة الوطنية