كنت أتساءل بتلقائية، بدافع من معرفة ما زلتُ أعيش مهدها.. أحاول أطرق باب عالمي لاستكشاف أوله.. بعض ما هو بديهي كان ما يزال لدي محل غموض وحيرة وسؤال.. ببراءة طفل كنت أسأل أمي، ثم أنتقل بالسؤال وبوثبة واحدة من المحسوس إلى المجرد، ومن الملموس إلى ما وراء الطبيعة.. أسئلة كنت ألقيها ببراءة طفل لازال حديث عهد بعالمه.
تارة أحاول من خلال السؤال أن أفهم محيطي القريب، وتارة أخرى أجد نفسي أنتقل إلى ما هو وجودي وكبير.. ربما يأتي السؤال سهلاً بوجه، وممتنع بآخر.. ربما لا يتم الرد عليه، أو يتم الرد عليه ولكن على نحو كاذب ومغلوط لمانع اجتماعي، أو لجهل وعدم دراية، أو لأمر آخر كان يستصعب عليّ فهمه.
كنتُ لا أدرك بعض موانع العيب التي جرى عليها الحال، ولا أفرّق بين سؤال مسموحا به وجائز، وآخر ممنوعاً ومكروها.. كنتُ لا أعرف أن هناك مناطق محظورة أو غير مسموحٍ أن يجول فيها السؤال.
أحياناً كنتُ ومن دون دراية أتمرد بالسؤال عمّا هو معتاد ومألوف، وأطرق باب المسكوت عنه، وأجتاز ما هو محظور، في واقع ثقيل بركام الماضي، وأثقال العيب، وسطوة الخوف، والزجر المعلن لمن يتعدّى على الممنوع، حتى وإن كان طفلاً بريئاً يحاول استكشاف عالمه.
أسئلة كانت الإجابة عليها، مُحفّزاً لمزيد آخر من الأسئلة المتوالدة منها أو المتداعية بسببها، وبعض الإجابات مهما كانت خاطئة أو متعمداً كذبها، تنطلي علي إلى حين، معتقدا بصحتها، ثم تعود وتستأنف تلك الأسئلة وجودها ووهجها مرة أخرى بسبب شك، أو انكشاف حدث، أو مستجد جد.
بعض تلك الإجابات في مرحلة لاحقة لمعطاء ما، أو مستجد أستجد، وبعد رضى ربما دام لحين، أجدُ تلك القناعة قد تبددتَ، وذلك الرضى قد تلاشى، وأجدُ نفسي قد صرتُ مرتاباً فيما سلف من إجابة، أو بات الشك أكبر من السؤال، فيستعيد ذلك السؤال وجوده وحضوره مرة أخرى، ولكن بقوة وإلحاح أشد.
كانتَ أمّي أحياناً تتذاكى، وتأتي بكذبة ما جواباً لسؤالي، هروباً من استحقاقي لجواب السؤال؛ ربما يحدث هذا لمانع شديد الوطأة من وجهة نطرها، وهي غالباً كذبة لا يطول عمرها، بل ينطبق عليها المثل "حبل الكذب قصير"، وما أن تتكرر الواقعة أو يتبدل الحال حتى يعود ذلك السؤال إلى الواجهة، وعلى نحو يكون احوج للإجابة، بعد أن تصير الإجابة السابقة في وعيي هشة أو أكثر وهناً وهشاشة مما كانت عليه.
***
كنتُ أسأل أمّي أسئلة دون أن أعلم أنها ستضطر إلى الكذب في الإجابة عليها؛ بسبب العيب وما هو ملحقاً به؟! كنت أسألها عن وجودي، وكيف خرجتُ من بطنها إلى هذه الدنيا، ومن أي مكان خرجت على وجه التحديد؟! وعندما تولد أمّي وأرى أخي أو أختي الوليدة؛ أكرر السؤال ذاته على نحو مُلح، داحضاً إجابتها السابقة التي استنفذت صلاحية كذبها، ولم تعد تصلح للتصديق.
كانتَ أمّي في البداية تجيبني وهي تضحك أو تبتسم زاعمه أننا خرجنا من ركبتها. وبعد حين أو مع ولادة جديدة أجد السؤال يعاود نفسه، وأوجهه إليها مرة أخرى، وقد رأيت المولود الجديد أكبر من ركبتها، ولا أجد في ركبتها أثراً ولا علامة على تلك الولاة المزعومة من الركبة، فيعود وهج السؤال إلى الصدارة، بعد أن أكتشف أن إجابة أمي القديمة معتمة أو كاذبة، أو باتت غير مقنعة، أو بات لا شيء يدعم جواب امي المضحوك به عليّ أو على سؤالي!!
كنتُ أسمع ولولة أمي وعذابها وهي تلد، ولكن كانوا يمنعونني من الدخول إليها، أو إلى المكان الذي تلد فيه، بل ويتم إبعادي قسراً من المكان القريب، ويخالط هذا الإبعاد رجاء وتفدّي من قبل بعض النسوة الحضور، للحيلولة دون أن يصل إلى مسمعي صوتها المعذّب بالولادة، ويتم منعي من معرفة أي شيء، أكثر من أن أمي تلد الآن، وسيتم إبلاغي بعد الولادة؛ هل المولود أخٌ أم أخت!!
كانوا لا يسمحون لي بالدخول إلى المكان إلا بعد أن ينتهى كل شيء. وعند الدخول أستطيع أن أرى الحبل المعلق إلى خشبة السقف، ويستطيع خيشومي استقبال ما ينفذ من روائح البخور، والحلتيت والمر، وغيرها من لوازم الولادة التي تحترق، أو تشربها أمي لتخفيف وجع وآثار الولادة، ولكن تلك الأشياء كانت غير قادرة أن تكشف أو تجيب على سؤالي: كيف ومن أين خرج أخي أو أختي المولودة؟!!
يتكرر السؤال بإلحاح أشد، بعد أن بدت لي إجابتها السابقة قد تأكلت أو أدركها الشك الفاضح أو صار الشك أكبر منها، أو صار يلتهمها بسهولة ويسر؛ فتحاول أمّي إقناعي مرة أخرى بأننا ولدنا من سرتها، فيبدأ الشك في صحة الجواب، ثم يكبر بعد أن أيقنت أنها كذبت في إجابتها السابقة، وتراجعتَ لديَّ مصداقيتها. وتساءلتُ كيف يمكن لسرّتها التي لا تزيد فتحتها عن عقلة إصبعها، أن تقبل بمرور مولود أكبر من ركبة أمي وسرتها مجتمعين.
ثم أطلقت أمّي كذبتها الثالثة، حيث زعمت أنني خرجتُ أنا وإخوتي من فمها. ولكن كيف يمكن لفم مهما اتسع أن يخرج مولود أكبر منه!! لماذا لم تختنق به؟! كيف لمولود بحجم أكبر أن يخرج من فاهٍ دونه، أو أصغر منه بكثير؟!!
كانت أمّي تتجاهل أسئلتي في بعض الأحيان، وأحياناً تضحك من أسئلتي حالما يكون السؤال بحضور غيرها، وجوابها المصحوب بالابتسامة أحياناً، تجعل الشك في ذهني حالاً أو لاحقاً يكبر ويتسع.
عرفتُ الحقيقة، ولكن بعد فترة لم أرها في عمري باكرة، على غير هذه الأيام التي يدرك فيها أطفالنا أشياء لم نكن ندركها في أعمارنا تلك الأيام. واكتشفتُ أننا نهدر سنوات من المعرفة بسبب العيب الذي يكبح عقولنا المتحفزة للطيران، وعرفتُ أن العيب يؤخر علينا كثيراً من الحقائق التي يفترض أن تكون قد صارت بديهيات معرفية في سن الطفولة، ووجدتُ أن من المهم أن نفعل كلما في الوسع، لنتحرر من العيب الذي يثقل كواهلنا، عندما نجد هذا العيب يتحول إلى معوِّق للمعرفة، وبحدٍ يجب أن لا نستسهله.
وبالمقارنة في سياق أخر أكثر كارثية، تعتبر إجابة أمّي في تلك الأيام، قياساً مع الفارق هيناً مما نعيشه اليوم، فإجابة أمّي المغلوطة أو الكاذبة كانت بدافع درء العيب، وحفاظاً على ماء الحياء، ودواعي الاحتشام في ذلك الزمان.. أما إجابات من يحكموننا اليوم هنا وهناك، وردودهم الكاذبة على أسئلتنا، هي بدافع الدفاع عن أنفسهم وخياناتهم وفسادهم ونهبهم، وارتكابهم كل الجرائم المرعبة من إفقار وإفساد وقتل المواطن والوطن.
***