حقيقة بديهية قديمة وراسخة في الواقع لكن الكل ينساها وينفلت من يده الخيط ويذهب في تحليل الأحداث من منظور ديني وسياسي وعسكري فقط، في حين لو أننا نقرأ ونتأمل جيدا ما بين السطور في الأخبار الاقتصادية والمشاريع والاتفاقيات والبعثات التجارية للدول الغنية لعرفنا الكثير جدا مما يفسر تقلبات الأحداث السياسية واندلاع الحروب والنزاعات ونشوء الصداقات أو العداوات بين الدول.
يبدو لي أحيانا أننا لم نعد شعوبا بالمعنى الثقافي السائد لمفهوم الشعب وأننا قد أصبحنا عمليا وفعليا مجتمعات محكومة بالخطط الاستراتيجية لتوسع الشركات القابضة ذات التمدد الاستثماري الذي استبدلت به الدول التقليدية تمددها الاستعماري في السابق.
أعود لأكرر التذكير بالحقيقة القديمة الجديدة، وهي أن سر أسرار التحولات الإقليمية والعالمية التي تجري من حولنا لا ينفصل عن الاقتصاد، لكننا مجتمعات عاطفية لا تنظر إلى ما وراء الأحداث من صفقات وأطماع، فقد نرى الأخبار الاقتصادية جافة ومليئة بالأرقام ومؤشرات صعود وهبوط أسهم الشركات في الأسواق العالمية، وأخبار استحواذ شركة على أخرى وأنباء عن توقيع اتفاقيات، لكن جميع هذه الأنباء تحمل في جوهرها رسائل ومضامين غير بعيدة عن السياسة والتعبير المباشر عن المصالح التي تنعكس على الجغرافيا والأمن، ومن هنا تتشكل ملامح الصراعات بين الدول التي تفكر وتتحرك غالبا كما يفعل الأفراد، لأن من يقودونها في النهاية هم بشر يسعون إلى تحقيق مصالح دولهم كما يسعى تاجر أو مستثمر إلى زيادة أرباحه، ولقد تغلبت في هذا العصر أكثر من غيره المصالح الاقتصادية على الأيديولوجيات، فإذا كانت الدول تدرج في ما مضى الصراع الأيديولوجي ضمن اشتباكها مع المعسكر المضاد فإن الاقتصاد وحروبه الخفية يحتل اليوم الأولوية، وهذا ما يجعل المجتمعات في خطر أكبر لأن العالم يتخفف سريعًا من القيم والأفكار الكبرى لصالح الأرقام والمؤشرات وحدها، لذلك يفتقد ضحايا اليوم في مناطق النزاعات لإجابات شافية تبرر استهدافهم.
ومع فقدان المنظومات التي تحكم الدول للفلسفات والرؤى والقيم الضابطة لسلوك الدولة والمحركة لنزعاتها وطموحاتها، أصبح المجال أمام الأفراد الذين يصعدون إلى الحكم مفتوحا ليتمكنوا من إضفاء نزعاتهم وميولهم الفردية بوصفهم أشخاصا لهم من يناصرونهم ويدفعونهم إلى تحقيق نزعاتهم التي تتصادم مع شخصية رجل الدولة المنضبط، لذلك ينتظر العالم أمريكا الترامبية القادمة بعد أن يتسلم ترامب الحكم إثر فوزه مؤخرا، وهو القادم من تجارة العقارات مدعوما بتحولات عالمية أدت إلى تدهور قيم الرشد السياسي في الغرب وانتعاش اليمين المتطرف الذي لا يجد حرجا في القفز على الثوابت والأخلاقيات التي كان الغرب يحرص ولو نظريا على تصديرها وتأطيرها نسبيا في الممارسات القانونية داخل دوله.
وبالعودة إلى أهمية قراءة ما بين سطور الأخبار الاقتصادية، سنرى أن أخبار الاقتصاد تكشف لنا عن دوافع الدول وسياساتها بأوضح ما يكون، وسنرى أن الاتفاقيات التجارية التي يجري توقيعها على سبيل المثال مع بعض الدول الإفريقية ليست سوى محاولات للحد من استنساخ بقية دول القارة للتمرد على فرنسا وأوروبا وأمريكا كما فعلت غينيا ومالي وبوركينا فاسو، لمنعها من الاتجاه نحو الاعتماد على الصين وروسيا.
وبالتالي فإن أي اتفاقية اقتصادية أو تجارية لا تعني أنها محصورة على تبادل السلع والخدمات بهدف رفع قيمة الصادرات وتنويع الاقتصادات وزيادة عوائد التجارة الخارجية، بل هي كل ما سبق مضافا إليه توسيع نفوذ الطرف الأقوى الذي يربح في النهاية أكثر من الطرف الأضعف من خلال استثمار الفوائض المالية في مشاريع تدر الربح وتزيد السيطرة على الموارد وتأمين مصالح ومواقع استراتيجية ووجود اقتصادي مؤثر لا يمكن الفكاك منه سياسيا.
وكما تتحرك الولايات المتحدة ومن معها من الحلفاء والتابعين، سنجد التحرك الاقتصادي المضاد من الصين التي أجادت لعبة الحرب الاقتصادية وأطلقت مشروعها العملاق "الحزام والطريق" لتوسيع النفوذ الصيني في آسيا وإفريقيا وصولا إلى أوروبا، وهو مشروع طموح يمنح الصين ما تستحق من النفوذ السياسي والاقتصادي، والفرق كبير بين الغرب والصين التي تلقى القبول والترحيب لأنها ليست دولة استعمارية.
في المقابل وأثناء بحثنا عن مثال بارز ومباشر لتحرك الولايات المتحدة بدوافع اقتصادية، وجدنا في أرشيف الأخبار أن أبرز مثال هو انسحابها من اتفاقية باريس للمناخ استجابة لأولوياتها الاقتصادية على حساب القضايا البيئية، حيث رأت الإدارة الأمريكية أن الاتفاقية ستضر بالاقتصاد الأمريكي وتحد من نموه. والأمثلة على ما تقوم به أمريكا بدوافع اقتصادية يشمل بالطبع دعمها العسكري للحليف الذي يرتكب أبشع الجرائم في المنطقة، ترجمة للعلاقة الحيوية بين الطرفين التي عمادها الاقتصاد والأمن وأشياء أخرى من قبيل انتظار المُخلّص الذي يستعجلون ظهوره بارتكاب المزيد من الأفعال غير الإنسانية بحق الأبرياء.
تتضح أهمية الاقتصاد وأنه الخلفية الأهم للسياسة عندما نرى كيف يتم استخدام العقوبات الاقتصادية ضد الدول التي تتمرد على القوى الكبرى المهيمنة، والعكس كذلك صحيح عندما نرى كيف يهل الدعم المالي والقروض الميسرة بسخاء على الدول التي تستهدف بهذا النوع من الكرم المشبوه.
ولا تحتاج أن تكون ماركسيا أو خبيرا اقتصاديا لتعرف أن الصراعات السياسية في جوهرها هي في الأصل صراعات على فائض الإنتاج ورغبة محمومة في السيطرة على الموارد الاقتصادية وفرض النفوذ الاقتصادي، ومعظم الحروب هدفها السيطرة على الموارد والأسواق، وما يبدو لنا صراعا أيديولوجيا يمكن بقليل من التأمل والغوص في ثناياه الكشف عن جوهره المادي، ومن هنا فإن الحديث عن الاستقلال والسيادة بدون استقلال اقتصادي يبقى حديثا معلقا في الهواء، وهذا الأمر ينطبق على الأفراد والدول معا، فمن يطمح في استقلال وعيه وفكره عليه أن يسعى إلى الاستقلال الاقتصادي.
ومن الجيد أن نرى دولا في منطقتنا تنبهت إلى أهمية تنويع اقتصاداتها وتحالفاتها وأدركت أخيرا أن الولايات المتحدة ليست الصديق الأبدي والوحيد، وأن الصداقات والعداوات بين الدول تنشأ بناء على ما يخدم مصالحها الاقتصادية، مع التحفظ على المبالغة في انفلات العقال وتسليم الزمام في بناء المصالح للشركات العابرة للحدود التي مكنتها عولمة الاقتصاد العالمي من الهيمنة وامتلاك نفوذ يخلو من القيم غير السوقية، واعني هنا تفصيلا خطر الاستسلام للنفوذ غير المحدود للشركات العالمية التي تسعى للربح فقط بعيدًا عن احترام سيادة البلدان والاعتبارات الأخلاقية والمسؤولية الاجتماعية، وخصوصا أن التقدم التكنولوجي جاء ليكمل هذا التمدد الذي يسهل على الشركات الكبرى الاستحواذ والطغيان، وهو ما سنلمس أثره السلبي مع الوقت وبالتدريج في مناطق من عالمنا العربي بعد أن واجه الامر نفسه غيرنا في بعض دول آسيا وأمريكا الجنوبية.
(جثة في كرتون)
أختم بهذه القصيدة للشاعر الجواتيمالي لويس ألفريدو أراجوا ذات العنوان المؤثر والكاشف (جثة في كرتون) التي تكشف عن تناقضات التقدم بمفهومه الغربي، والتي سمعتها لأول مرة من الناشطة اليسارية الهندية كورين كومار ذات لقاء في تونس قبل 14 عاماً. تقول القصيدة:
لقد شاهدتهم ذات مرة يدفنون طفلاً ميتاً
في كرتون من الورق المقوى
أجل، شاهدتهم بعينيّ هاتين
وكان مشهداً لا أنساه،
وكان على الكرتون ختم:
شركة "جنرل إليكتريك"
التطور أفضل منتجاتنا.