لديّ مشكلة تكررت معي واستمرت، وهي أنني أترك قاتي، وربّما أجلس عليه او أنحّيه من مكانه دون قصد لسبب يكون طارئاً أو عارضاً كأن أحاول في زحام ما، افسح مكانًا لآخر جانبي، أو استقبل آخر للمعانقة أثناء المقيل، أو أكون منشغلاً بمن حضر، أو نحو ذلك من الظروف التي قد تحيط بي، وأنسى إعادة قاتي إلى مكانه، أو يكون هو قد تدحرج بحركتي من موضعه، ثم أجد نفسي أخزّن دون وعي من قات الذي يخزِّن بجانبي ظاناً أنه قاتي، لاسيما حالما أكون شارداً او منهمكاً في حوار جاذب أو مندمجاً في حديث يكون مثيراً لاهتمامي.
مشكلة تترك بعض الأسئلة عالقة في ذهني، وأنا أتخيل الوقائع وتكرارها المثير.. لا أستطيع سبر ما يعتمل في تفكير الآخر الذي أعتبره هنا في مقام "الضحية"، وهو يشاهد ما أقترف بحقه من "اعتداء"، في لحظة خروجي عن الوعي في أمر ما كان ينبّغي أن أجهله، و ولوجي تلك اللحظة فيما يشبه الغياب الذهني حيال ذلك الأمر.
مرّات غير قليلة هي تلك التي وجدت نفسي أخزّن بقات الشخص الذي بجانبي، واجد نفسي فريسة للاوعي.. إنه ضرب من حال ربما أحياناً يطول، وربما يستمر إلى نهاية المقيل.. لطالما اكتشفتُ في وقائع كثيرة أن برمجتي العصبية هي من تخزّن لا أنا.
ويظل السؤال الذي تشغفني الإجابة عليه: يا تُرى ماذا كان يدور في خلد من يراني تاركاً قاتي، وأخزّن من قاته، وهو صامت، ومتمالك أعصابه طول فترة المقيل، ويعف عن تنبيهي، بل وأحياناً يحدث أن أوزع من قاته على زملاء يأتون دون قات، أو أضيف إلى من ينتهي عليهم القات قبل نهاية المقيل.. ويعظم وقع الأمر عندّما يكون من أفعل به هذا ضيفاً لديّ، أو بيني وبينه بعض أوجه الرسمية و"الإتكيت" والحياء الجم.
***
كنتُ معزوم بمناسبة عرس في صالة أعراس في منطقة تقع قرب الجامعة الجديدة في صنعاء، وبعد مباركتي للعريس، عدتُ أبحث عن مكان في القاعة للجلوس والمقيل.. كانت القاعة مكتظة والزحام على أشده.. وجدتُ في القاعة محمد علي سعيد مدير دائرة الأشغال العسكرية، والأخ محمد عبد الغني القباطي مدير جمارك الحديدة، اللذان رحبا بي بحفاوة، وأزاحا لي مكاناً في الزحام إلى جانبهما.. كان هذا على الأرجح عام 2004 إن لم تخني الذاكرة.
وضعتُ قاتي "القطل" الذي كان في "علاقي" إلى جانبي، وفيما أنا أحاول التموضع في ضيق الزحام، كنتُ دون أن أدري قد حسرتُه إلى تحتي في الجهة اليمنى.. دُمته وقطعت أنفاسه خلال المقيل، وهو رازح تحت جسدي الثقيل.. عذّبته مع كل حركة آتي بها عليه، فيما قات صديقي محمد عبد الغني لا يخلو من فخامة.. مُطول ومقطّف ومفروداً أمامه، ومحاطاً بعناية، وبدلاً من أن أخزّن بقاتي، صرتُ دون دراية أو وعي أخزّن من قات صديقي محمد، وأكثر منه أنني ظللت أخزن من قاته حتى النهوض من مكاني وقت المغادرة، وتحديداً من الساعة الرابعة بعد العصر وحتى السادسة قبل المغرب.
لا شك أن محمداً الرجل الطيب والخجول كان يرمقني مع كل مدة يد، وأنا اكرر ما افعله على نحو واثق وحافل بنشاط وهمّه.. يرمقني بصمت، ولكنّه صمت لاشك يخفي تحته كثيراً من العجب والأسئلة، وأشياء أخرى ذات صلة لا أعرفها على وجه التحديد، والأكثر عجباً أن يتمالك اعصابه طيلة مدة مقيلي معه.
أخذتُ ما تبقى له من قات، ونهضتُ للمغادرة وهو لم ينبس ببنت شفه، وحالما انحنيتُ لأتناول تلفوني، لمحت "علاقية" القات التي أخذتها من اذن رباطها وقد صارت مسطحة ومستوية وملتصقة بقطعة القماش التي كنتُ قاعداً عليها، ولون القات قد مال من الأخضر إلى أخضر غامق يخالطه السواد، وعندما فتحت "العلاقية" لأستكشف القات أحسست أنه قد عانى كثيراً، وتعذب أكثر، من جلاد لا يعرف رأفة أو رحمة.
سألت صديقي محمد عبد الغني:
- هذا قات من الذي جلست عليه؟!
أجاب: قاتك
- سألته مرة أخرى: وأنا منين خزنت؟!!
أجاب: من قاتي.. ولا يهمّك.. الحال واحد..
- قلت له: قاتي قطل وقاتك مُطول..
أجاب : ولا يهمك .. نحن واحد.
أعدتُ قاته المتبقي إلى موضعه، وأخذتُ علاقية قاتي، وشعرتُ بحرج وخجل يجتاحني دون أن يمنع ذلك من شهقة دهشة، وخروج قهقهة حاولت كتمها بكل ما اوتيت من تماسك وقوة حتى كادت تخنقني لولا خروج قليل منها إلى خارج فمي رغماً عنّي.
***
ظللتُ بدافع من معرفة وبحث عن جواب أنتظر مقيلاً آخر مع صديقي محمد عبدالغني حتّى تأتّى لي المقيل معه في منزله، وكان أهم ما أردت معرفته، بل وسبب مقيلي معه، هو أن يجيب على أسئلتي التي لطالما ظلت تدور في ذاكراتي:
بماذا كان يتحدث مع نفسه في طي سرّه وكتمانه، وهو يراني منهمكاً، أقتات من قاته بشراهة معزة؟! كيف استطاع يتمالك أعصابه ساعتين، وهو يراني أفعل ما أفعله؟! ما أنا متأكد منه أن شكلي والطريقة التي كنت أتعاطى فيها القات تثير عاصفة من الضحك؟! فكيف استطاع أن يكتم ضحكته طيلة مدة ساعتين تستحق الضحك الطويل، بل وختمتها بأخذ ما بقي له من قات قبل أن أعيده إلى موضعه.
ولكن للأسف لم يجب صديقي محمد الإنسان الصبور والحليم على سؤالي، وإنما عمد إلى التهوين مما حدث.. فعدتُ حاسراً دون جواب.