آخر تحديث :الثلاثاء-02 يوليه 2024-05:04م

الأقلمة.. بين مقتضيات اللامركزية وغياب المتطلباچت المسبقة ومخاطر الصراع الهوياتي والتقسيم الجغرافي!

الأحد - 30 يونيو 2024 - الساعة 01:26 ص

همدان الصبري
بقلم: همدان الصبري
- ارشيف الكاتب


ما أن تقرأ مقالة جيوسياسية أو تشاهد مقابلة مع شخصية حزبية، أو يمر عيد وطني مرتبط بالوحدة، أو تتم مفاوضات غير معلنة، أو تخرج تصريحات ناعمة، أو يتم طرح مشاريع عابرة، أو تقترح حلول لقضايا معقدة؛ ألا ويكون موضوع الأقلمة (الأقاليم) حاضراً بقوة في الواجهة، وإحدى الأوراق الموضوعة تحت الطاولة. وعلى الرغم من أن تناول هذا الملف أمر شائك وحساس، إلا أنه لا بد من الحديث عنه، وتصفح أوراقه، وقراءة ما بين سطوره، واستخراج مضمون نصوصه!.

واقعياً، التقسيم الإداري الجغرافي السليم أمر بالغ الأهمية لاستقرار أي دولة، وفي وضع الأوطان التي أضاعتها المركزية تصبح لزاماً، وتطبيق اللامركزية عبر الأقاليم يٌضحي أمراً ضرورياً ومتطلباً هاماً؛ ولكن يجب مراعاة معايير تقسيم الأقاليم وعددها، والأخذ بضرورة توافر كافة المتطلبات المسبقة لجني ثمارها ومزاياها وتجنب مخاطرها، بما في ذلك اختيار موقع العاصمة الفيدرالية. ولا بد هنا من الإشارة إلى أن أحد أهم الإخفاقات في الجمهورية الأولى تمثلت بأنها أخذت التقسيمات الإدارية التي كانت عليه في عهد الأمامية البغيضة (لواء، مخلاف، محفد)، وبدلاً من قراءة وتحليل خريطة الألغام للتقسيمات الجغرافية، والعمل على تفكيكها ونزع فتيلها؛ إلا أن تلك الألغام تٌركت كما هي دون تغيير، ومع تحوير طفيف في المسميات (محافظة، مديرية، عزلة)!.

المثير للاشمئزاز أن تجد من يرفض فكرة الأقاليم، يبرر ذلك بحجة مخاطر التفكك، ويطرح فكرة اللامركزية الكاملة للمحافظات، وهو بنفسه من هاجم المدن ويحاصر المحافظات، وهو بذاته من يتناقض عبر دعم ومساندة مركزية المركزية (إمامة ولاية الفقيه)، وهو بعينه من يعمل جاهداً على شرذمة وتدمير الوطن بأكمله. والمثير للحيرة أن من يٌنفذ مشروع أجندة التشطير وينادي بها ليلاً نهاراً، هو نفسه من يصر على تغيير عدد الأقاليم إلى إقليمين فقط. والمثير للاشمئزاز والحيرة معاً أن تجد المنتفعين ممن يجيدون الانتهازية، ويمارسون التبعية المفرطة، ويبرعون في بيع وشراء الأوطان، هم من لا يهمهم المركزية أو اللامركزية أو التشطير أو الوحدة او عدد الأقاليم أو معايير تقسيمها، أو ما إذا كان ذلك يصب في مصلحة المواطن والوطن، وكل ما يهمهم مصالحهم الضيقة، وأولئك هم من يؤيدون ويدعمون ويستميتون على كل ما يٌطرح في المؤتمرات الممولة والموجهة!.

فكرة الفيدرالية الاتحادية نابعة من نمط تنظيمي سياسي تقوم بموجبه مجموعة وحدات منقسمة جغرافياً، وشبه مستقلة سياسياً، على الاتحاد في دولة واحدة، بحيث تكون فيها السلطة مقسمة بين حكومة مركزية وكيانات أصغر تمثل الأقاليم، مع مراعاة الخصوصيات الثقافية والاجتماعية، وعلى أن يكون هناك هوية عليا جامعة لمجموعة الهويات المتعددة داخل إطار الدولة الموحدة. ولكن بالمقابل، فكرة الفيدرالية لا تهدف لتفكيك دولة موحدة جغرافياً، ولا تعمل على زيادة فجوة تقسيمها سياسياً، ولا تحث على توسيع التفاوت الاقتصادي بين مكوناتها، ولا ترتكز على تقوية الكيانات الأصغر بهدف إلغاء الارتباط المركزي فيما بينها، ولا تصب في تقسيم الهوية العليا إلى هويات متعددة متناثرة متناحرة!.

كما أن الهدف الأساسي من الفيدرالية الاتحادية يتمثل بأن تكون العلاقة قائمة على تقاسم السلطة والثروة، وتوازن بين الحكم المحلي والسلطة المركزية، مع مراعاة مركزية الحفاظ على سيادة واستقلال الدولة، وتعزيز التنوع الثقافي والإجتماعي، وزيادة الكفاءة الإدارية، وتحقيق الاستقرار السياسي. ولكن بالمقابل، لا تهدف الفيدرالية إلى اختلال التوازن بين الحكم المحلي والمركزي، ولا التفريط بمركزية الحفاظ على سيادة واستقلال الدولة، ولا إلى اشتداد الاضطراب السياسي.

وقبل القفز إلى الفيدرالية، فإن هناك معايير وعوامل متعددة لتقسيم الأقاليم، تتمثل بمعايير المساحة الجغرافية، والكثافة السكانية، والجوانب الاقتصادية، والسياقات الثقافية والاجتماعية، وتنوع الموارد الطبيعية، والجوانب السياسية والإدارية والأمنية، وكذلك الأبعاد التاريخية. والغرض الأساسي من أخذ تلك المعايير بعين الاعتبار؛ لكي تساعد في تعزيز الاستقرار والتنمية، وضمان توازن التمثيل السياسي والاقتصادي، وتعزيز التماسك الإجتماعي، وتوزيع الموارد وتحسين البنية التحتية، وتطبيق العدالة الاجتماعية في الدولة ككل. ولكن بالمقابل، فإن معايير التقسيم الفيدرالي لم يتم وضعها لكي تؤدي إلى تفاقم النزاعات الثقافية، أو لتأجيج الصراعات المناطقية، ولم توجد لكي تعمل على تجميع مشكلة الألغام الجغرافية في إقليم واحد بدلاً من تفكيك ذلك الإقليم ليسهل حل الإشكاليات المرتبطة به، ولا تعني -بأي حال من الأحول- بأن تجعل من إقليم واحد ذو كثافة سكانية بسيطة يبتلع أكثر من نصف المساحة الجغرافية للدولة، ويقتص أكثر من نصف الشريط الساحلي لنفس تلك الدولة!.

ويتطلب إقامة الفيدرالية الاتحادية وقتاً وتعاوناً وتنسيقاً قوياً بين اطراف متعددة متمثلة بـ الحكومة المركزية، والقوى المحلية، والأحزاب السياسية، ومجلسي البرلمان والشورى، والمؤسسات القضائية، والمؤسسات الأكاديمية والبحثية، ومؤسسات المجتمع المدني، والخبراء والاستشاريين الوطنيين. وبالمقابل، لا يمكن إقامة فيدرالية اتحادية عبر عملية سلخ وسلق مستعجل من قبل من لا يحملون حتى الشهادات الاعدادية، أو من قبل المنتفعين الذين لا يهمهم إلا تنفيذ ما يُملى عليهم بمقابل ما يصب في جيوبهم وخزائنهم!.

ولكي يتم جني ثمار ومزايا الفيدرالية الاتحادية وضمان نجاح تطبيقها، فإن هناك متطلبات إلزامية مسبقة لا بد من تحقيقها، والمتمثلة بـ وجود مؤسسة عسكرية وطنية متماسكة قوية موحدة متوازنة القوى، وأجهزة أمنية متناسقة بين مختلف مستويات الحكم المحلي، ونظام قضائي مستقل، ودستور مٌحكم وقوي، وتمثيل متوازن، ونظام اقتصادي قوي وعادل، وثقافة سياسية ديمقراطية، وبنية تحتية قوية، وهوية وطنية عليا مشتركة، وشراكة حقيقية؛ بحيث يسهم توافر تلك المتطلبات على الاستقرار والازدهار، والحفاظ على وحدة وسلامة الدولة. ولكن بالمقابل، في حال عدم توافر المتطلبات الإلزامية المسبقة للفيدرالية، فإن النتيجة ستكون جني الأشواك وحصاد السلبيات فقط، وذلك من خلال تفتيت الوحدة الوطنية عند تقوية سلطات الأقاليم على حساب السلطة الفيدرالية الاتحادية، والتعرض للانهيار المالي عند الدول ذات الأنظمة الاقتصادية الفقيرة والضعيفة، وزيادة الانقسامات الاجتماعية عبر تعزيز الهويات الصغرى على حساب الهوية الوطنية الجامعة، والانفراط العسكري والأمني في حال عدم وجود مؤسسة عسكرية وأمنية متماسكة، ونشوب الصراعات الداخلية حول الموارد الطبيعية، وتزايد التوترات والاضطرابات السياسية عبر اتباع قانون الغاب.

ويتأثر اختيار العاصمة الفدرالية الاتحادية للدولة بمجموعة من العوامل والمعايير السياسية والاقتصادية والجغرافية والتاريخية والأمنية، بحيث يتوجب أن تكون محمية داخلياً، ومحصنة خارجياً. ولكن بالمقابل، لا يمكن أن تكون العاصمة الفيدرالية غير متوافق عليها سياسياً، أو غير مجمع عليها وطنياً، أو تفتقر إلى المقومات الاقتصادية والقدرة الاستيعابية، أو ثبت تاريخياً فشلها في إقامة دولة مستقرة مزدهرة بسبب موقعها، أو ينعدم فيها الأمان بسبب محيطها الجغرافي الداخلي الذي يهدد سلامة وأمن المؤسسات الحكومية الفيدرالية، أو غير محصنة من التهديدات الخارجية.

ختاماً، قبل القفز المباشر إلى تطبيق الأقلمة فإنه يتوجب اولاً تحقيق كافة متطلباتها المسبقة الإلزامية، وفي مقدمتها وجود مؤسسة عسكرية وطنية متماسكة متوازنة قادرة على استعادة العاصمة السياسية من فكي الكهنوتية السلالية وقفازاتها القذرة، وإلغاء كافة المشاريع المليشياوية؛ وذلك ليتم جني ثمارها ومزاياها، لا حصاد أشواكها وسلبياتها. وايضاً، لإقامة دولة فيدرالية اتحادية مستقرة ومزدهرة وناجحة، لا بد من اختيار عاصمة اتحادية ثبت تاريخياً ملائمتها لذلك، ويتوافر في موقعها الأمان من المحيط الداخلي والتحصين من المهددات الخارجية. أما الارتجالية والعشوائية في طرح الفيدرالية الاتحادية، دون مراعاة معايير التقسيم الصحيحة وتفكيك الألغام الجغرافية، ودون تحقيق كافة المتطلبات الإلزامية المسبقة، وعدم أخذ الاعتبارات المرتبطة باختيار العاصمة الفيدرالية، فإن الهدف من الفيدرالية يزول ويتحول إلى التمزيق والتفكيك، والغرض منها ينحرف لتجريف ما تبقى من هوية وطنية عليا جامعة، ومحور دوران عجلتها قد يسير باتجاه إعادة عجلة التاريخ إلى الخلف (الإمامية البغيضة والمشيخات والسلطنات)!.