آخر تحديث :الإثنين-16 سبتمبر 2024-09:51م

هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (3 ــ 30)

السبت - 07 سبتمبر 2024 - الساعة 11:51 م

د. ثابت الأحمدي
بقلم: د. ثابت الأحمدي
- ارشيف الكاتب


‏لافتات سبتمبرية

هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (3 ــ 30)

المتتبع للجذور الأولى لهيئةِ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يرجح أنها قد تأسست في مصر قبل عودة الأستاذ محمد محمود الزبيري، وإن لم تُعلن هناك؛ إذ بعد تفرق عناصر كتيبة الشباب اليمني التي تأسست في سبتمبر من العام 1940م تحول حماسُ الزبيري إلى نشاطٍ آخر من أنشطةِ بعض الجماعات المصريّة التي أُعجب بها كثيرا، ومن ثَـمَّ قرّرَ تأسيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، متخليًا عن كتيبةِ الشباب اليمني، ووضعَ دستورًا أو برنامج عملٍ للهيئة، متأثرًا بها، وفقا لإشارة المؤرخ علي محمد عبده.

وإذن فالهيئة من تأسيسِ الزبيري فقط. وربما شاركه فيها زملاء آخرون في القاهرة، لم تذكر أسماءَهم أيةُ وثيقة تاريخية بين أيدينا حتى الآن، وبطبيعة الحال ليس من بين الأسماء رفيقه الأستاذ أحمد محمد نعمان، عدا مَن شاركه نشاط الهيئة في اليمن عقب عودته من القاهرة، وارتبطوا بها، من أمثال: الشيخ حسن الدعيس في إب، وأحمد عبدالله الكبسي، وحسين عبدالقادر في صنعاء، وعبدالله العيزري في ذمار، وعلي بن حمود شرف الدين في الطويلة، وعباس بن علي في تعز، ثم محمد قاسم أبو طالب في صنعاء، لاحقا. وكان لكل واحدٍ من هؤلاء أتباعٌ، يمثلون خلايا تنظيمية سرية.

برنامج شباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
لأن الزبيري كان قد تفتح وعيه أكثر في القاهرة، بثقافتها وجدلها وحراكها الفكري، أضف إلى ذلك موهبتَه الأدبية والفكريّة فقد استطاع صياغة برنامج إصلاحي، يجمع بين خصائص ما يُعرف بالمدرسةِ الزيديّة والمدرسة السُّنية، ومن ثم قام بعرضه على الإمام يحيى، طامحًا وطامعًا تنفيذه، إلا أن الإمام سخر منه؛ على الرغم من أنه كان يركزُ على القضايا الاجتماعية، ومبتعدًا عن الجوانب السياسية، لعدم إثارة الإمام. ليس ذلك فحسب؛ بل لقد كان منهاجُ الهيئة ينصُّ على الولاء التام للإمام يحيى، وعلى التقدير الكامل له، كما نلمسُ في هذا البند من برنامجها، والذي يقول: ".. جديرٌ بالشباب أن يستمدَّ من حكومته الهاشمية المتوكلية النصح والتوجيه، وأن يصغى لما يبديه أميرُ المؤمنين، نصره الله، وما يراه جلالتُه من الطرق الناجعة، فإمامُنا المعظّم قد خبرَ الأمورَ وعرك الدهر. كما يجبُ على الشباب أن يستعينوا برجال حكومتنا الأفذاذ، فهم الآباء، ونحن الأبناء".

ورغم كل هذا الولاء الذي أبداه الزبيري وجماعته في الهيئة إلا أن الإمامَ قد رفضه رفضًا قاطعًا، وتوجس منه، وسجن أصحابه، لأنه ينطوي على نزعةٍ تجديديةٍ إصلاحية، فيما الإمام عدو كل جديد وتجديد. ومن ثم بدأ الصِّراع والاصطراع. ويمكن تقييم الهيئة بأنها أولُ هيئةٍ منظمةٍ ببرنامج مكتوب، بلغة عصرية، تتغيّا الإصلاح السياسي لا التثوير الجماهيري. وإن كانت قد سبقها هيئة النضال.

وإلى جانبِ هذا النص، في برنامج الهيئة، فثمة نصوصٌ تثويرية بلغة الواعظ الديني، حدسَها الإمام، فاشتم ما وراءها، وما يترتبُ عليها، كما يقول هذا النص، مخاطبا اليمنيين: "هل تعلمون ما الذي يهدمُ السعادة، ويمحو الشخصية، ويفني الأمم؟ يا قوم، هل تعرفون ذلك؟ إنه يسيرٌ لو تمعنتم وتأملتم لوجدتموه واضحًا جليًا، هو الذي جعلكم في اضطراب وانزعاج. هو الذي أضاع ماضيكم وحيّركم في حاضركم، وسيقضي على مستقبلكم إن لم تنتبهوا له وتقتلوه في مهده. إنه يا قوم الجبنُ، اقهروه، قاوموه، حاربوه في أبنائكم..".

هذه دعوة دينية، تربوية، سياسية معًا، قولبَها الزبيري بحدسه اللماح وذكائه المتوهج، وهو يعي تماما ما الذي يقول. وذلك حين كانت رهبة الإمام يحيى في قلوب الناس كأنه ابن السماء كما يدعي، فدعا الناس ــ ضمنًا ــ لكسر هذه الرهبة، ومقاومة ذلك الخنوع الذي كان يطبع سلوك عامة الناس، بسبب الجهل. داعيًا إلى محاربةِ ذلك في الأبناء، باعتبارهم المستقبل، وباعتبار أكثر تلقيا للأفكار التي يسمعونها أيا كانت.

وفي هذا يقول البردوني: لقد فطنَ الزبيري وجماعتُه إلى متطلباتِ المرحلة، فأعلن ميثاق جمعية، تجمع مهماتها بين الإيقاظ الديني والإيقاظ السياسي على أساسٍ ديني. وكان الزبيري لا يخرج عن هذا المنحى، لا في كتاباته ولا في أشعاره. ففي قصائده في الأربعينات كان يركز على الإيقاظ حتى في الأماديح والمراثي..".

وعلى أية حال فقد انتهى الأمرُ بالزبيري سجينًا في سجن الأهنوم في حَجَّة، في ديسمبر من سنة 1941م، مع أحد عشر شخصًا من أقرانه، منهم محمد قاسم أبو طالب، أحد أبرز رفاقه في الهيئة، وذلك عقب خطبة جمعةٍ خطبها في الجامع الكبير بصنعاء، دعا فيها الإمامَ إلى الإصلاح، وظل في السّجن حوالي تسعة أشهر، حتى استعطف الإمام بقصيدة مدح، مصحوبةٍ أيضا بشفاعة عمه، يقول فيها:
نور النبوة من جبينك يلمع والملك فيك إلى الرسالة ينزع

علمًا أنّ خطبة الجمعة التي ألقاها بديلا عن رفيقه الخطيب محمد قاسم أبو طالب، لم تكن إلا الشرارة التي أشعلت السهل، والقطرة التي أفاضت الكأس بين الزبيري والإمام، فلقد أحسَّ الإمامُ يحيى بخطورة برنامج الهيئة، والتي إن تبدت في صورة برنامجٍ ديني إصلاحي؛ لكنها ــ وبحسب البردوني ــ: "فقد أرادت من الإيقاظ الديني الإيقاظ السياسي ضمنًا". وهذا ما توجس منه الإمامُ يحيى، المتوجس أصلا بطبعه قبل تطبعه. معلقا بعد قراءته القصيدة بالقول: القصيدة طنانة، ولكن من أين لنا رجوعُه؟ فإن أفكاره مسمومة..!

وبهذا تكونُ قد انتهت محطة من محطات النضال، متمثلة بانتهاء مشروع هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مهدها، كما انتهت فكرة كتيبة الشباب اليمني في القاهرة بعد أشهر على تأسيسها. ومن ثم يتحول الزبيري ورفاقه إلى منعطفٍ آخر من النضال، هو وسط بين هذه المحطة ومحطة تالية، أو بالأصح: محطات تالية، كما سنوضح في حلقة قادمة.

يقولُ الزبيري: "بذلك انتهت تجربتي مع الإمام يحيى بالذات، بعد أن أدركت بعمقٍ وبيقينٍ أنه يعادي كل تطور، وكل إصلاح، وأنه لا ينفع معه رفقٌ ولا لِين، ولا استعطافٌ ولا ثناء، إذا كان المطلوب منه أن يحققَ إصلاحًا، ولو على الأسس الدينية. لقد كانت تجربة خصبة عميقة، كسبنا منها الأساسَ الأول للثورة، وهو اليقين باستحالة تغيير الإمام يحيى عن غير طريق القوة. ولم يكن هذا اليقين الثوري ليحصل إلا بعد المرور على كل هذه التجارب، وأهمها في رأيي استعطاف الشعر بكل ما فيه من تأثير عاطفي شديد".

وعمومًا، فقد خرج من سجن الأهنوم بحجة، ثم لم يلبث بصنعاء إلا أيامًا قليلة، انطلق بعدها مباشرة إلى تعز، حيث التقى رفيق دربه نعمان لأول مرة في قصر السّيف أحمد، منذ افتراقهما في القاهرة.