من المهم التوقف عند التجربة الصّفوية الإيرانيّة المعاصرة التي استطاعت تحويل قطاع واسع من الأمّة من التسنن إلى التشيع بالثقافة وبالفنون حتى وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم.
قد يكون مُفاجئًا للبعض القولُ بأنّ الصفويين أنفسهم كانوا سنة، على مذهب الإمام الشافعي في الفقه، وأنّ نسبة التشيع في إيران نفسها أقل من العراق خلال تلك الفترة. كانت إيران أغلبية سنية، وكانت مراكزها الثقافية ــ وعلى وجه التحديد خراسان وأصفهان ــ من مراكز السنة، نشأت في الأولى الصوفية بجميع مدارسها، ونشأت في الثانية الفنون والأدب والجمال.
إضافة إلى هذا كانت إيران نفسها شبه مُسيّجة بمحيط سني في غالبه: العراق، الأحواز العربية السنيّة، تركيا العثمانية، أفغانستان، بلوشستان السنيّة، الخليج العربي وخليج عمان؛ لكن ما الذي غيّرَ الموازين في زمنٍ قياسي وجيز؟ وكيف؟
لقد اتبع الشّاه إسماعيل الأول، مؤسس الدولة الصفوية: 1501 : 1524م هذه الاستراتيجيّات لتأسيس امبراطورية طائفية جديدة على النحو التالي:
1ــ اعتنق الشّاه إسماعيل الأول المذهب الشيعي، وفرضه قسرًا على الناس، بقوة الحديد والنار.
2ــ دعا عناصر الشيعة من النيل إلى جيحون للتوافد على إيران، لتكوين كتلة شيعية قوية في المجتمع السني، تحسبًا لأيّ أخطار قادمة. "مصطلح "ما بين النيل وجيحون" جغرافي ينطوي على إيماءة ثقافيّة، يوازي اليوم مصطلح: الشّرق الأوسط، الذي ينطوي على إيماءةٍ سياسيّة".
3ــ اتخذ الشاه سياسة عنفٍ حادة تجاه خصومه من أهل السنة، إلى حد تخييرهم بين اتباع التشيع أو الإعدام، أو مغادرة البلاد، إضافة إلى تدمير مساجدهم ومصادرة أوقافها، في الوقت الذي بنى الكنائسَ للأقليّات المسيحيّة هناك وحماها.
4ــ استقدم الأدمغة الشيعية العربية من العلماء والفقهاء والكتاب ــ وخاصة من العراق والشام والأحساء ــ إلى إيران، ووزعهم على مختلف الأقطار.
5ــ لتأمين محيطه الجغرافي غزا أذربيجان وأرمينيا، ثم العراق بعد ذلك، وعددًا من المناطق الأوراسية، وأجبر أهل هذه البلاد على اعتناق المذهب الشيعي. ووحدها "قندهار" التي استطاعت مقاومة الفكر الصّفوي في مرحل لاحقة، والتمرد عليه، وقتل محافظها المعين من قبل الشاه، وإعلان الاستقلال عنه.
6ــ اهتم كثيرًا بالثقافة والفنون بمختلف أنساقها، وتم توظيفها لنشر وتعميق الفكر الشيعي، وخاصة في عهد خلفه ابنه "طهماسب" الذي خلفه في الحكم، وعمره عشر سنوات، عام 1524م، وكان عاشقًا للفنون ومتذوقا لها، وفي عهده ازدهرت صناعة السجاد، وانتشرت الفنون من رسم وتشكيل وزخرفة وغناء وألحان.. إلخ. فكانت الفنون ركيزة أساسية في الفكر الشيعي الجديد. يصف الفيلسوف "مارشال هودجسون" طهماسب، في كتابه "مغامرة الإسلام" ص: 50 بقوله: كان ذا مزاج خامل وطبع لئيم، وكان ذا ذائقة فنيّة وجماليّة رفيعة، بحيث منح دفعة قوية لرعاية الفنون التي أصبحت السمة المميزة للصفويين".
قبل الأخير.. بتتبع الخارطة الثقافيّة لمنطقةِ "ما بين النيل إلى جيحون" في القرون الأربعةِ الحديثة، ابتداءً من القرنِ السّادس عشر سنجد أن أغلبَ المدن والمراكز الثقافيّةِ في المنطقةِ كانت سُنيّة.
فترةُ ما بعد الحروب الصّليبيّة فترة انتشار السُّنة بكثرة، نظرًا لموقفهم الصّارم من الصّليبيين، خلاف الشّيعة الذين مالؤوا الصّليبيين، وسكتوا عنهم.
كان الصّراعُ بالدرجة الرئيسيّة في هذه المراكز والمدن فقهيًا: حنفيًا، مالكيًا، حنبليًا، شافعيًا، إلى جانب مدارس كلامية فلسفيّة وصُوفية، وأخرى شيعيّة على الهامش.
أصفهان نفسُها كانت منقسمة حنفية وشافعية. ولم تتشيع إلا فيما بعد، بعد أن جعل الصفويون من الثقافةِ ركيزة استراتيجيّة كبرى، أكبر من الركيزة العسكرية.
ما تجدر إليه الإشارة هنا أنّ تركيا العثمانية كانت الإمبراطوريّة الإسلاميّة السنيّة الموازية لهذا المشروع آنذاك، والأقوى منه بكثير، ولو كان لقادتها مخيلة سياسية مستقبلية لعملوا على توقيف هذا المشروع في بدايته، بدلا عن الاتجاه شرق أوروبا، خاصة وقد كان الصّفويون أعداء للأتراك العثمانيين وحلفاء لأعدائهم أيضا، وظل هذه المشروع كذلك حتى آخر خليفة/ سلطان عثماني الذي تحدث عن الدور السلبي الإيراني في عهده بمرارة. لو كانت لهم مخيلة صلاح الدين الأيوبي لأوقفوا هذه الكارثة من بدايتها، كما فعل هذا القائد العظيم مع الفاطميين الشيعة في مصر، وجَنّبَ المنطقة كلها من شرورهم منذ ذلك الوقت وإلى اليوم؛ بل وأمرُّ من ذلك لقد غزت الفنونُ الشيعية مناطقَ سنية، محسوبة على الإمبراطورية العثمانية السنية آنذاك؛ لأن تدفق الفنون كتدفق الأنهار يصعب إيقافها. لقد كانت الثقافة الصّفوية أبلغ تأثيرًا من العسكرتارية التركية.
ولا أدلّ على ذلك من غزو الصفوية الشيعية الإيرانية للصوفية السنية التركية، شمس الدين التبريزي، وجلال الدين الرومي أنموذجًا، وكذا الفلسفة، صدرالدين الشيرازي أنموذج آخر، والأخير يعتبره الخميني ملهمه الروحي..!
أخيرًا.. لقد كان البُعد الثقافي أهم الأبعاد الاستراتيجيّة في تجسيد المشروع الصّفوي، ولا يزال؛ نظرًا لحساسيّة الثقافة، ورهافة الفن، ولنفاذهما إلى الوجدان بلا حواجز؛ إذ تنتقل الصورة الفنية، ومعها تنقل الفكرة مباشرة، ومن ثم تكون أكثر ثباتا في النفس، وأكثر تعلقا بالوجدان.
د. ثابت الأحمدي