لا يسقط حاكم مستبد في عالمنا العربي إلا وتتوالى صيحات الفرح والتهليل، وكأن إسقاط الطاغية هو نهاية المعاناة. لكن، هل نحن مستعدون لما بعده؟ التجربة تقول لا.
سوريا ليست مجرد دولة، بل خليط من الطوائف والمجموعات العرقية: السنة، العلويون، الأكراد، المسيحيون، التركمان، الشركس… لوحة فسيفساء تنتظر اللحظة المناسبة لتتحطم.
زرت سوريا ثلاث مرات برًا في سنوات ما بين 2000 و2002. إحدى هذه الرحلات كانت عبر الأردن إلى لبنان مرورًا بسوريا، والأخرى من لبنان إلى سوريا ومنها إلى الأردن، والثالثة من العراق إلى سوريا. كل رحلة كانت تحمل قصصًا تعكس واقع الحدود البيروقراطي المعقد الذي يواجهه المسافر العربي.
أذكر في إحدى تلك الرحلات، تحديدًا عام 2001، عندما وجدت نفسي عالقًا على الحدود السورية في ليلة شتوية قارسة. كنت في سيارة GMC مع سائق عراقي، والجو حولنا صقيع لا يرحم. اضطررنا للنوم في السيارة، نحاول تجاوز برودة الليل بحديث عابر وكوب شاي قدمه السائق، بينما كنت أشرب السجائر التي منحني إياها كوسيلة للتدفئة. السبب وراء هذا الانتظار الطويل كان مهنة “الصحفي” المكتوبة في جواز سفري، والتي وضعتني تحت تدقيق وزارة الإعلام السورية. تصريح الدخول لم يُمنح إلا بعد موافقة الوزارة، لتتحول تلك الساعات الطويلة إلى درس في الصبر وسط بيروقراطية قاسية وصقيع لا يرحم.
تلك الرحلة لم تكن استثنائية بالنسبة لسوريا؛ بل كانت انعكاسًا لحالة التعقيد التي تعيشها البلاد.
دمشق اليوم تُقارن ببرلين 1945، مع فارق واحد: لا أحد يجلس للتفاوض. الفرات قد يصبح جدار برلين الجديد، لكنه بدون “حلفاء”، فقط فصائل تتنازع البلاد. من أسقط النظام في سوريا؟ لم يكن جيشًا واحدًا، بل ثلاث قوى رئيسية:
• هيئة تحرير الشام، التي تمددت بدعم تركي.
• غرفة عمليات الجنوب، التي زحفت من درعا نحو دمشق.
• قسد، التي أخذت الشرق تحت المظلة الأمريكية.
لكن هل يعني هذا سوريا واحدة؟ بالطبع لا. هذه ثلاث سوريات، وربما أربع. الحديث عن الفيدرالية ليس إلا مقدمة لتقسيم مغلف بعبارات دبلوماسية، بينما الضحية الكبرى لهذا التقسيم هو الشعب السوري، الذي يجد نفسه أمام خريطة جديدة لا تخدمه.
سوريا دخلت مرحلة الفوضى المطلقة. ظهر تنظيم “قسد”، ليس كمنقذ، بل كقوة تسعى لإقامة دولتها. إسرائيل، التي لا تترك أزمة دون استغلالها، استغلت الوضع لتنفيذ مشروعها المعروف بـ”ممر داوود”، وهو خطة استراتيجية لضمان سيطرتها الاقتصادية والأمنية في المنطقة.
وعلى الجانب الآخر، تركيا لن تسمح بوجود جار كردي مسلح، والعراق لا يقبل بحدود غير مستقرة. في النهاية، الجميع يقتسم سوريا، والشعب وحده من يدفع الثمن.
ما يحدث في سوريا ليس استثناءً. ليبيا في حرب لا تنتهي، والسودان يغرق في دماء صراع داخلي، واليمن منقسم بين شمال يسيطر عليه الحوثيون وجنوب يسعى إلى الانفصال. يبدو أننا لا نسقط حكامنا، بل نسقط أوطاننا.
إلى أين تتجه سوريا؟ هل إلى التقسيم؟ المقاومة؟ أم إلى طاولة تفاوض؟ أسئلة كبيرة، لكن الحاضر لا يترك لنا مجالًا للتفاؤل.
في النهاية، منطقتنا لا تتقن شيئًا كما تتقن الانتقال من أزمة إلى أخرى. هل نتعلم من التاريخ؟ بالطبع لا.