ثمة أماكن تنضح بالبهاء وتضج بالإبداع، وثمة مدن تصنع الرجال أكثر مما يصنعها الرجال أنفسهم، تصبغ الشخصية بصبغتها الخاصة حتى ليكاد يفقد فيها ذاته، ومن هذه المدن عدن، وعدن حاضرة كبرى من الحواضر العربية خلال النصف الأول من القرن العشرين فما بعده، جمعت أعراق البشر ولغات الأمم وثقافة الناس وفنون التاريخ وروائع الإبداع بشتى صنوفه.
عدن.. ابنةُ الجغرافيا المتشحة بهيبة المكان، وسليلةُ التاريخ الممتد من كل الأزمنة.
عدن قبلة الثوار والأحرار والتجار، مهبط كل قادم ومنصة كل مودع. منها يبتدئ السفر، وفيها ينتهي، منها يبتدئ لحن الأغنية وفيها ينتهي رقص الدان.
عدن التي أنجبت كثيرا من خيرة رجالات اليمن في الفن والأدب والتصوف والشعر، ولا تزال إلى اليوم كذلك.
ومعنا في هذه الطيافة ابنُ عدن الأديب والشاعر الكبير محمد سعيد جرادة.
محمد سعيد جرادة المولود سنة 1927م في حي الشيخ عثمان بعدن، التحق صغيرا بجامع "زكو" وأي جامع هو آنذاك، ففيه وعلى يد إمامه العلامة أحمد محمد العبادي درس المئات من الطلبة الذين نبغوا وأصبحوا رجالات علم وأدب وسياسة فيما بعد، كان جامعا ومدرسة؛ بل وأكاديمية علمية مستقلة. عمود ضياء من أعمدة الشعر العربي في عدن، بأسلوب متفرد، ولغة متميزة.
بدأ الشاعر جرادة ينظم الشعر من وقت مبكر من حياته، متأثرا بكبار الشعراء قديما وحديثا، ومتأثرا بشعر الصوفية على وجه التحديد الذي كان سائدا، كما قرأ في التاريخ وتعمق فيه كثيرًا، وهو ما نجده واضحا في شعره، فشعر جرادة كشعر الجواهري والرصافي بالعراق أو البارودي وشوقي وحافظ في مصر، فيه الفلسفة، وفيه التاريخ، وفيه الحكمة بجميع أبعادها. وقد وصفه الكثير من رفاقه بأنه كان مرجعًا في اللغة والأدب والتاريخ الثقافي لليمن بإقرار غالبية الكتّاب والأدباء.
يقول في واحد من يمانياته الخالدة:
وطني حملتك في صميم فؤادي
كنزا من الآثار والأمجاد
ورسمت طيفك في الضلوع بريشة
مصبوغة بدمي الكريم الفادي
وهتفتُ باسمك صيحة ثورية
يصطك منها مسمع الجلاد
ويفر منها هاربا وأمامه
أشباحها يربضن بالمرصاد
اشتغل بداية مشواره بالتدريس في بعض مدارس عدن لما يزيد عن عشرين عامًا. انتقل بعدها للتوجيه، وفقا لأنظمة التربية، ثم عين مفتشًا في وزارة التربية والتعليم، ثم خبيرا في مناهجها، ونتيجة لثقافته الموسوعية العالية، ولتميزه الأدبي والتربوي فقد كان له حضور في إذاعة عدن، وكان آخر منصب سياسي له أن عمل مستشارًا ثقافيًا للسفارة اليمنية في أثيوبيا، حتى توفي في يناير سنة 1991م.
للشاعر محمد سعيد جرادة وطنيات خالدة، لا تقل صدقا وإخلاصا وإجادة عن وطنيات الزبيري والفضول والحضراني والمحضار والشحاري والبردوني والمقالح، وغيرهم من فطاحلة الشعراء اليمنيين الكبار، وهي تتغنى باليمن كل اليمن، شماله وجنوبه على حد سواء. فكما ناوأ الاستعمار بقصائده الوطنية، رثى الزبيري عقب استشهاده، يقول في قصة نضال الجنوبيين ضد المحتل البريطاني:
أفلاذ أكباد الجنوب تجمعوا
فرقا كأسراب الطيور الحوم
فوق الجبال وفي الكهوف وحيث لا
ترقى إليهم عينُ وغدٍ مجرم
سكتوا وأرسلت البنادق منطقًا
هو فوق سحر بلاغة المتكلم
كما ساق أعداء الإله إليهم
جيشا كأمواج الخضم المرتمي
وأتته أسباب المنية من علٍ
من حيث لم يشعر بها أو يعلم
أرضي وفيها طعنة مسمومة
تدمي فؤاد الشاعر المتألم
فيها القراصنة اللئام صلاتهم
بشريعة الغابات لم تتصرم
كما يقول في الإشادة بغمدان، وهو رمز حضاري لليمن الكبير:
"غمدان" ردّد أناشيد العلا عجبا
فأنت أبلغُ من غنّى ومن خطبا
يا أيها الشامخ العالي كأن له
من المجرّة أماً والسماك أبا
مرّت بساحتك الأحداث مطرقةً
كأن مرآك قد أوحى لها رهبا
بالأمس جاءت وفودُ العُرب حاملةً
لك الثناء الذي يرضيك والقُرُبى
أضاء فيه على فرَق ابن ذي يزن
تاجٌ يُغِيرُ نجومَ الأفق والشُهبا
فصاغ جدُّ رسول الله خطبته
وكلَّ نبلٍ إلى أعراقه نُسبا
وأنشد الساحر ابنُ الصلت رائعةً
عرائس الفن ماست عندها طربا
يا شعبُ نصرك قد جلّت مكاسبه
فلا تضِعْ في مهب العاصفات هبا
دع الخمول فما غيرُ الخمول يد
تمحو الحضارات مهما صدرها رحبا
ولا تصخ لدعاة التفرقات فمن
أفنى المكارم أحيا العرق والنسبا
واحرص على عامل الوقت الثمين فإن
أمَلْتَ ميزانَه في كفك اضطربا
إنها واحدية الروح النضالية، وواحدية الروح اليمنية، وقبل هذا وذاك واحدية الشاعرية والوطنية والرؤية المنبثقة عن إدراك واع وثقافة عالية. وهي رؤية المثقف الأصيل المنتمي لتربة أرضه وتاريخ أمته.
الشاعر محمد سعيد جرادة عضو في اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، وعضو أمانته العامة، ومجلسه التنفيذي، وقد مثل اليمن في عدد من المؤتمرات والمهرجانات الأدبية والشعرية في كثير من الدول العربية والأجنبية، وحصل على عدد من الأوسمة وشهادات التقدير.
صدرت له عدة دواوين شعرية. إضافة إلى العديد من القصائد الغنائية، وهي:
فردوس القرآن
مشاعل الدرب
لليمن حبي
وجه صنعاء
وحي البردة
وله عمله الأدبي التاريخي الأشهر: الأدب والثقافة في اليمن عبر العصور. وقد طبعت أعماله الكاملة ضمن أنشطة صنعاء عاصمة الثقافة العربية في العام 2004م.
د. ثابت الأحمدي