آخر تحديث :الثلاثاء-08 أبريل 2025-02:51ص

عن تهويد الأغنية اليمنية

الثلاثاء - 08 أبريل 2025 - الساعة 02:50 ص

مصطفى ناجي
بقلم: مصطفى ناجي
- ارشيف الكاتب


ربطتني الاذاعة بالأغاني ونشرات الإخبار رباطا حميمياً. استمعت لإذاعتي صنعاء وعدن - وإذاعة تعز بدرجة أقل- منذ وقت مبكر من طفولتي، ومنهما تشكلت ذائقتي الفنية لمدة عقد ونصف. ثم حدثت قطيعة طويلة مع الإذاعة ومع الأغاني في وقت واحد.


ومؤخرًا تجدد العهد بالإذاعة، ولكن إذاعة فرنسية اللغة حصرًا وداخل السيارة.


تكونت ذائقتي الفنية من أغانٍ يمنية بامتياز، ثم أغانٍ عربية. ومن خلال برامج إذاعية باللغة الإنجليزية، استمعت إلى أغانٍ إنجليزية وشاهدت أغاني هندية في لوكاندات. ولاحقًا، بعد أن تعلمت الفرنسية، استمعت لأغانٍ فرنسية وعالمية من اليوتيوب ومتابعة برامج ذا فويس وأمريكان غوت تالنت وغيرها.


ليست هذه الحكاية المهمة التي أرغب في طرحها.


أرغب في الحديث عن الأغاني اليمنية. اعتادت أذني سماع أغانٍ يمنية متنوعة وفيها رسمية إلى حد ما أو لنقل أغانٍ معيارية. تعددت الألحان والألوان الغنائية اليمنية. استمعت إلى أقدم التسجيلات المتاحة عبر الإذاعة، خصوصًا تلك التي بصوت إبراهيم الماس وأحمد عبيد قعطبي، وبالطبع استمتعت بكثافة إلى أغاني الحارثي والسنيدار ومحمد جمعة خان وبامطرف ومرسال والحداد والعطاس والمرشدي وفيصل والزبيدي وعزان والصبري وابراهيم والقائمة تطول. وكانت بيتنا حافلة بأشرطة أيوب طارش وعبد الباسط عبسي والسمة والأنسي وأبو بكر .


وكان من المصادف أنني عشت عشريتي الثانية في صنعاء القديمة في باب شعوب، وهناك شاهدت وسمعت عازفي الدفوف والمزامير، ومنهم ناصر. بل كان حظي وافرًا كوني قضيت عشر سنوات جوار محل بيع أشرطة في باب شعوب يمثل كنزًا لأقدم الأغاني. تربطني بولده علاقة صداقة، وخضنا نقاشات كثيرة جدًا عن الفن والفنانين.


مع هذا، لم أجد في كل ما سمعت من كل فناني اليمن لحنًا يغنى بالطريقة التي تنسب الآن إلى أغاني يهود اليمن. بمعنى آخر، ظلت الأغنية اليمنية متنوعة متعددة ثرية إلى حد الافتراق في تسارع الإيقاع وبنية الجملة اللحنية، ولم أجد فيها لحنًا واحدًا يعزف بالطريقة التي يعزفها يهود اليمن في إسرائيل أو الطلعة الجديدة من المؤدين اليمنيين المغرمة بتهويد الأغنية اليمنية.


يعود مولد كل من الحارثي والسمة والأنسي والسنيدار إلى ثلاثينيات القرن الماضي. وربما غادر يهود اليمن وهم في عمر الـ15 سنة أقل أو أكثر قليلاً. وربما كانوا أقرب إلى المغنيين اليهود وأقدر على النقل الأمين للأغنية التي كانت تؤدى حينها على يد تلك الشريحة من سكان اليمن والمتجذرة في الهوية اليمنية. مع هذا، لم يقدم أي منهم أغنية ذات لحن وينسبها إلى يهود اليمن أو غناها على طريقة أغاني يهود اليمن في إسرائيل. ناهيكم عن ان المؤرخ الارياني ينسف ادعاء تهويد الاغاني ويقول انهم كانوا يمنيين يؤدون اغانٍ يمنية.


نعم يمكن جداً ان يكون هناك لحن يهودي واذا ارتبط اللحن بالديانة فينبغي ان يكون اللحن طقوسي جدا مرتبط ارتباطاً وثيقة بالدين وأناشيده. بينما الاغاني الرائجة هي اغانية ذات طقوس فلاحية او أعراس ومناسبات اجتماعية ضمن الفضاء الديني الإسلامي فكيف يكون اللحن يهودياً والسياق العام اسلاميا ويمنياً؟


والحقيقة أن يهود اليمن في تلك الفترة كانوا يغنون أغانٍ يرونها يمنية ولا يمنحونها طابعًا دينيًا، بينما نحن نمنح هذه الأغنية طابعًا ليس دينيًا فحسب بل أثنيًا.


ومن الغريب أنني سمعت لتسجيل نادر جدًا هو لأغنية لفنان يهودي يحكي فيها قصة نهب صنعاء عام 1948. ويبدو أنها أغنية مرتجلة كلمات ولحناً لغياب وحدة القافية ونمطية اللحن. مع هذا، كانت الأغنية ملفوظة كما يفعل كل سكان اليمن من سكان الهضبة، ولحنها لا يختلف عن الألحان نظيراتها في زمنية الإيقاع وتعتمد على العود بطبيعة الحال.


قد يقول أحدهم إن الإذاعة كانت تمثل توجهًا رسميًا وخطاب سلطة منتصرة ما بعد الثورتين وتركت أنماطًا أخرى في الهامش. نعم، كان ذلك. لكن محل بيع الأشرطة ذاك له حكاية طويلة، لأنه ابن آنس وكان له شركاء يملكون محلات أشرطة في جيزان وغادروها في سبعينيات القرن الماضي، ولديه ذخائر الأغاني إلى درجة أن الفنان الحارثي نفسه كان يأتي إليه ليحصل على أغانيه التي لم يعد لديه منها نسخ.


وكان هذا المحل يبيع اكثر الأشرطة الشعبية وتلك الأصوات التي لم تكن تبثها الإذاعة الرسمية، كفناني الاعراس وفنانات الاعراس وأشرطة ينتجها المزمرون وكان معظم زبائنه من قبائل طوق صنعاء ومولعون بأغاني شعبية وأغاني المزمار التي يبثها بمكبر صوت نحو الشارع.


وهناك تعرفت على ألوان غنائية لن تكون تبث في الإذاعة، منها مناظرات شعبية معروفة بلهجات مختلفة منها لجهات مأرب والجوف والبيضاء.


وربما كان هناك كنز مدفون من الأغاني التي قدمها محمد أبو نصار. وهذه تنطوي على ملف غنائي خارج الرسمية لأسباب سياسية واجتماعية أعقبت ثورة 26 سبتمبر، ولديه غزارة وأصالة الألحان. مع هذا، لن تجد أغنية تقارب ما هو ملحون بالصيغة الميهودة.


الحظ شبقا ساذجا في تهويد الاغنية اليمنية وكأن الأمر يمنحها ميزة تفتقر إليها خارج مكنونها الفني وبيئتها وأدواتها وتاريخها الراسخ او موضوعاتها ولغتها التعبيرية.


بل إن هناك أغانٍ يمنية لأيوب طارش مثلاً يعاد إنتاجها بأصوات وألحان تشذ عن الطابع الأصلي لها، ليس من باب التجديد ولكن لتتطابق والأداء الخاص بيهود اليمن في إسرائيل.


فلماذا يجري هذا التهويد للأغنية اليمنية؟


مصطفى ناجي

من صفحة الكاتب على موقع فيس بوك