فتح عام 2011 البابَ على مصراعيه أمام الكشف الفضائحي إلى حدّ كبير فيما يتصل بالوظيفة العامة، وأصبحت قضايا الفساد سهلة التناول والانتشار، تُتداول وتُعمم دون أن تكون قائمة على أسس سليمة من الفحص والتدقيق.
لم يكن النظام في اليمن - حينها، وقبل هذه اللحظة، وبالتأكيد ما بعدها - بريئًا من الفساد، بل كان في الأساس قائمًا على أشكال متعددة منه، إلى درجة أن النزاهة كانت هي الاستثناء. لكن ما حدث في تلك الفترة هو أن العمل الصحفي دخل إلى منطقة خطرة من المجتمع، وتساهل فيها، حتى أصبح مجرد ناقل لا أكثر. وبهذا خسرنا وظيفة حيوية في المجتمع.
وأنا، كوني عملت في السلك الدبلوماسي في وزارة الخارجية لسنوات قبل أن أزاح عمليًا عن هذه الوظيفة، أعرف جيدًا إلى أي درجة أصبحت وزارة الخارجية والسلك الدبلوماسي هدفًا سهلًا ومتاحًا لكل أشكال الفضائحية.
قبل ثلاث سنوات، تواصل معي صحفي شاب، يطلب مني - كوني، كما قلت، دبلوماسيا سابقا وربما ممن أُخرجوا من الوظيفة بشكل تعسفي ودون إنصاف - أن أساعده في تحقيق صحفي حول تجاوزات ومخالفات في وزارة الخارجية.
أبلغته يومها، وبكل صدق، أنني انقطعت عن التواصل مع زملائي في الخارجية إلى حد كبير، ولم تعد لدي معلومات دقيقة، وأن الواقع قد تغير كثيرًا ولم أعد على دراية به. لذلك فإن أي مساهمة مني قد تكون غير ملائمة ولا تعكس الواقع تمامًا. وقلت له إن المسألة تتجاوز الأفراد إلى آلية العمل نفسها. كما طلبت منه، إن استطاع، أن يتواصل مع آخرين، وألا يكتفي بما يُقال له، بل أن يبحث في السياقات ويقارن الوقائع، ليصل إلى جوهر المشكلة لا إلى مظاهرها فقط.
ومن المؤسف أن تقريره لم يرَ النور، ولم يكن هذا الموقف الأول ولا الأخير ما يضع اسئلة حول جدية الأعمال الصحفية التي تتطرق لوزارة الخارجية اليمنية.
كثيرًا ما يتم التطرق إلى الجهاز الدبلوماسي، أحيانًا بحق، وغالبًا بغير حق، والسبب أن هناك ممارسات وسلوكيات ترسخت في هذا السلك منذ زمن طويل، جعلت منه - في حقيقته - انعكاسًا لتوازنات القوى والنفوذ داخل السلطة، أكثر من كونه مؤسسة قائمة على الكفاءة. ما خلق دوافع متعددة للنيل من الدبلوماسية اليمنية هذه الدوافع هي خليط من متطلبات الديمقراطية والصراع الاجتماعي والسياسي.
ولا يمكن إنكار أن الجسم الدبلوماسي اليمني يعاني من اختلالات كبيرة، لكن المؤسف هو أن الأخبار التي تتحدث عن هذه المشاكل لا تذهب إلى الجوهر، بل تكتفي بالسطح، لأن السطح يخدمها في صناعة "الفقاعات" الإعلامية.
أما الذهاب إلى جوهر المشكلة، فيقتضي تحقيقات معمقة وبحثًا وجهدًا صحفيًا مضنيًا، وهذا ما لم يعد متاحًا في الصحافة اليمنية حاليًا.
قضيت فترة طويلة أتأمل وضعي على المستوى الشخصي، لكن هذا التأمل سرعان ما امتد إلى التفكير في مصير مؤسسة الدبلوماسية اليمنية. وبقدر ما أتألم من الانحدار الذي وصلت إليه هذه المؤسسة، فإنني أتألم أكثر من الطريقة التي يُعبَّر بها عن هذا الانحدار، وهي طريقة لا تسهم بأي شكل في تقويم الوضع أو معالجته.
في الحقيقة، تحمّلت الدبلوماسية اليمنية أعباءً أكثر مما تحتمل. فعندما كانت الحكومة اليمنية في المنفى خلال السنوات الخمس الأولى من الحرب، لم يكن هناك متنفس حقيقي لممارسة النفوذ والسلطة سوى عبر البعثات الخارجية. ولهذا تم التهافت عليها بشكل كبير، وأصبحت البعثات الدبلوماسية تمثل واحدة من أبرز صور الاختلال الذي طال مؤسسات الدولة بشكل عام، لكن الصورة السلبية تركزت فقط على وزارة الخارجية، وكأنها المسؤول الوحيد.
فقد تم تكديس أعداد كبيرة من العاملين في البعثات الخارجية ممن لا ينتمون إلى السلك الدبلوماسي، ولا يمثلون الجهة التمثيلية بشكل مهني،
رغبةً في تصحيح هذا الوضع، تم اتخاذ قرارات شملت إعادة هيكلة البعثات، لكن للأسف، جرت الأمور بطريقة غير دقيقة. في حين لم تكن آلية التصحيح نفسها صحيحة تمامًا، بل إنها طالت حتى الكادر الدبلوماسي المحترف. وهكذا أصبحت كثير من البعثات اليوم شبه خالية، ومن تبقى فيها يعاني من التعتيق واللامبالاة والتخثر الفكري والمهني وبالطبع عدم الاستقرار.
خبر "بيع مبنى السفارة اليمنية في الصومال" هو مثال على نوعية الأخبار "الزائفة" التي تتكرر باستمرار، وتظهر من حين إلى آخر كبقعة ضوء خاطئة، تسلط على العرض لا على المرض. للأسف، نادراً ما تذهب التحليلات الجادة إلى مكمن الخلل الحقيقي.
من الصعب على المراقب العام أن يكتشف أوجه الخلل في الأداء الدبلوماسي، أو أن يدرك تأثير الظروف (المادية، المؤسسية، السياسية ) التي يعيشها الدبلوماسيون على أدائهم وقدرتهم على العمل. فذلك يتطلب ما هو أبعد من المعلومة السريعة، ويتطلب قدرة على إجراء تحقيقات معمّقة ورؤية تحليلية وجهد بحثي مضنٍ، وهو ما لا يتوفر حاليًا، للأسف، في بيئة العمل الصحفي أو البحثي داخل اليمن.
الشائعات وحدها لا تكفي لتصحيح مسار الوظيفة العامة ولا لمكافحة الفساد، بل قد تكون المعلومة الخاطئة التي تُنشر وتلقى صدىً واسعًا أَضَرَّ من غياب المعلومة، لأنه حين يتبيّن عدم صحتها، تُضعف من قيمة أي تحقيق جاد لاحق، وتُكرّس الانطباع بالاستهتار وغياب المهنية، ولا تقدم أكثر من انفعالات مؤقتة سرعان ما تزول.
قد يكون لي عودة في مقال حوّل الدبلوماسية اليمنية، في الأيام القادمة
مصطفى ناجي
من صفحة الكاتب على موقع فيس بوك