آخر تحديث :الثلاثاء-24 ديسمبر 2024-09:22م

من بعدان إلى فانكوفر.. الحلقة الـ4 (محاربة النجاح)

الخميس - 27 يوليه 2023 - الساعة 11:15 م

جمال الغراب
بقلم: جمال الغراب
- ارشيف الكاتب


منذ تأسست المدرسة والأهالي في صراع مستمر على الإدارة، لا دولة تفرض قوانينها ولا مجتمع متعلم وواعٍ يفكر بمستقبل الاجيال ويختار الشخص المناسب.

وفي النهايه توافق الأهالي على إختيار أحد أبناء المنطقة المثقفين يحظى بإحترام الجميع وهو نصر العطاب ليكون مديرا للمدرسة.

العطاب شخص مثقف وكان عمله تطوعي ،بلا اي مقابل مادي، وقد حاول جاهدا أن ينتشل المدرسة من واقعها المزري وقدم ما بوسعه لخدمة المدرسة غير أن خلافات الأهالي نشبت من جديد  لسبب لم أعد اتذكره ،هذا ما دفعه إلى التخلي عن الإدارة.

زادت حدة  الخلافات بين الأهالي حتى وصلت إلى إدارة التربية في المحافظة حينها فقرر المدير العام تعيين مديرا من خارج المنطقة وقبل الأهالي بذلك وكان رئيا صائبا ومقنع للجميع.

الاستاذ عبد الملك الأنسي الذي جاء بتكليف رسمي للعمل مديرا لمدرسة الأنصار  ميفع هو من أبناء مديرية ذي السفال.

ا شاب مفعم بالحيوية والنشاط وكتلة من الأفكار ففي  غضون سنة واحدة فقط غير واقع التعليم في المدرسة بشكل جذري مستغلا الدعم الذي حظي به من قبل الاهالي على اعتبار بأنه مديرا توافقيا .

تجربة نجحت بمدرستنا وجعلتني أومن بالتوافق ومازلت مؤمن بأن التوافق أساس الاستمرار.

فضلا عن ان الأنسي إداري ناجح بكل ما تحويه الكلمة من معنى، شهد له الجميع بذلك ،حيث استطاع أن يحول  المدرسة من مجرد "معلامة" إلى صرح تعليمي متميز ، بجهود ذاتية .
إثنين من زملاءنا الطلاب حصدا نسبة نجاح ليكونا ضمن أوائل الجمهورية في عهد الأنسي وهما الطالب غانم العطاب الأول على مستوى الجمهورية في العام ٩٢م في المرحلة الاعدادية والطالب ماجد القطوي الثامن على مستوى الجمهورية، تقريبا في عام ٩٣ م .
أيضا  الكثير من الطلاب المبدعين برزوا وحصدوا نسب عالية في نتائج امتحانات شهادة الثانوية العامة ،وحصلوا بموجبها على منح دراسية للدراسة خارج اليمن وهم اليوم يتبؤون مناصب إدارية جيدة في البلاد.

اتذكر من هؤلاء الطلاب المبدعين الطالب أشرف القطوي من قرية النظاري و آخرون كثر لم أعد اتذكر أسمائهم.

الأنسي جاء الى المدرسة بأفكار حديثة نظم المسابقات الثقافية، أشرف بنفسه على أداء المعلمين، شجع الأذكياء وكرمهم واستخدم التحفيز وفتح لنا آفاقاً كبيرة للنجاح وبدأنا نشعر بأهمية التعليم ولماذا نتعلم ولأول مرة نسمع صوت أيوب وأناشيده الوطنية تصدح من مكبرات الصوت في الصباح والراحة وعند المغادرة.

ولعل أهم ما اتخذه الأنسي في الأيام الأولى من ادارته للمدرسة إصدار توجيهات صارمة للمعلمين المصريين بمنع الضرب بعد ان كنا نتعرض للجلد باعصي غليظة لا تصلح حتى لضرب الحمير من شدتها (حسب المثل الرائج "ضرب الحمير").

لحظتها شعرنا بنوع من الأمان وبدأ الخوف يتلاشى من دوالخنا تدريجيا وعدنا للمواظبة على الدراسة بشكل جيد حتى انني ،حصدت الترتيب الرابع في نتيجة امتحانات الصف الخامس من المرحلة الاساسية ومرت بعدها أربع سنوات دراسية دون ان اغيب عن حضور الحصص الدراسية إلا للضرورة.

لكنني في صف سادس وكانت الامتحانات حينها ما تزال وزارية رسبت بعد أن تركت مقدمة الفصل وعدت للجلوس أخر الصف.
لست أدري كيف تأثرت  بأفكار بعض الطلاب المشاغبين ،والمهملين الذين كانوا يكبرونني بالعمر بفارق صغير.

اهملت المذاكرة تماماً وبقيت معهم في مؤخرة الصف نتبادل النكت والمرح طوال السنة الدراسية.

وخلال السنة التالية اجتهدت نسبيا  بعد أن أقام الأنسي حفل تكريم لائق للناجحين لاسيما الأوائل حيث قدم لهم جوائز قيمة .

ومع اني اجتهدت وبشكل ملحوظ حتى أن أحد المعلمين كان يشيبد بجهودي بشكل كبير سيما في مادة الرياضيات.

في ذات السنة وقبل الاختبارات بأيام قليلة جدا ارسلتني والدتي إلى مدينة إب ومعي علبة لبن مع قارورة سمن من بقرتنا لإحدى صديقاتها.
ولأني اول مرة ازور المدينة كنت منصدم بجمالها وحداثتها واسواقها المكتظة بالناس والملابس المعروضة في المحلات سيما الملابس الرياضية والمأكولات والايسكريم والكثير من الكماليات والأشياء التي لم تراها عيني من قبل  ذلك ما جعلني أنسى الامتحان تمامآ.

بقيت أنا وصديقي ابن قريبة أمي نتسكع في حواري مدينة إب حتى نسيت أني طالب وأن الامتحان على الأبواب.

في ذلك الحين لم تكن وسائل الإتصال  متوفرة ولم تستطع أمي ابلاغي بالعودة وقلت في نفسي:  هي ضربة مثل حق الشنطة وانساها مع الوقت .

بعد مرور امتحان ثلاث مواد تقريبا عدت ،حيث استقبلتني امي بالتوبيخ  وكما توقعت تعرضت لقليل من الضرب. 
في اليوم التالي ذهبت لأداء امتحان مادة العلوم دون أن احظى بوقت للمذاكرة ومع هذا نجحت بها ورسبت بالمواد الذي غبتها.

بالنسبة للآنسي فقد واصل  نجاحاته في إدارة المدرسة وبدأ اسم مدرستنا يلمع في المنطقة و المديرية، بل والمحافظة بشكل عام واصبحت نموذج يضرب بها المثل بالتعليم حتى أن الكثير من طلاب مدارس قريبة من منطقتنا تركوا الدراسة في مدارسهم والتحقوا في مدرستنا.

اربع سنوات من الإدارة الناجحة و ونحن نعيش أجواء تعليمية متميزة.
المفاجأه  بعد مرور خمس سنوات من النجاحات انتفض بعض الاهالي ضد مدير المدرسة الذي أحببناه، دون أسباب فعلية عدا أن الأمر حدث بايعاز من الاحزاب التي سيطرت على أهالي لم يكونوا على وعي كامل بالحزبية كما هو الحال في تأييدهم ضرب أبناءهم في الفصول الدراسية.

المنتفضون ضد المدير الآنسي أطلقوا على سكنه الرصاص ليلا بهدف اخافته ،ثم  ذهبوا إلى إدارة المديرية ومكتب التربية في المحافظة نظموا وقفات احتجاجية ضده مطالبين بتغييره. وحين سالهم مدير مكتب التربية في محافظة اب.
لماذا تطالبوا بتغييره؟ 
عجزوا عن الرد حتى أن مدير التربية حينها استغرب وقال كلمته الشهيرة آنذاك والتي ظل يتداولها الكثير في المنطقة:" مجتمع جاهل يحارب مستقبل أولاده بنفسه".

بعد عام كامل  من المشاكل المفتعلة وشلل التعليم في المدرسة وبعد أن فشلوا بتغييره لدى الجهات الحكومية قرر الآنسي ترك الإدارة بمحض ارادته و ومغادرة المنطقة وذهب لدراسة البيكالاريوس في كلية الشريعة والقانون وهو الآن من أبرز المحاميين في محافظة اب. 
عقب مغادرة الأنسي المنطقة تم تعيين مديرا جديدا وهو أيضا من منطقة أخرى غير منطقتنا واول ما وصل المدرسة سكن مع أسرته في قرية قريبة من المدرسة وطلب من الأهالي أن يشتروا له بقرة.

قال له  احد عقال المنطقة : انت جابوك  تربي أجيال او تربي بقر.؟ 
بسذاجة حد العفوية رد : نربي الكل. 
وعادات المدرسة إلى وضعها السابق؛ فشل تعليمي ذريع ، هروب جماعي للطلاب ، اداء سيء، تلاشت المسابقات الثقافية، غاب التحفيز، عاد العنف وشعر الطلاب حينها بالياس وبالكاد اكملت المرحلة الاعدادية فيها و المؤسف ان المدرسة مازالت على هذا الواقع منذ غادرها الأنسي حتى اليوم.

عدد كبير من الطلاب تركوا المدرسة والبعض الآخر ذهبوا للعمل وسجلوا الالتحاق بالتعليم "منازلي" -غير منتظم- وانا أحدهم حتى انني اكملت الثانوية منازلي في مدرسة أخرى و بذلت جهود كبيرة وبالكاد حصلت على الشهادة الثانوية.

مرحلة مهمة في  حياتي بداية من صف اول ابتدائي وحتى حصولي على الشهادة الثانوية العامة أضعت فرص فيها لاهمالي ولقسوة التسلط القائم في المجتمع  واتحسر عليها حتى اللحظة

صحيح ان هناك ظروفا فرضت وكانت خارجة عن إرادتي لكنها الحسرة تظل في القلب ومثلي الكثير يشعرون بالحسرة ذاتها. 
*الصورة لمدرسة الأنصار بعد أن تم إزالة السمسرة في عام ٢٠٠٨م .