شهدت الأشهر الأخيرة تغيرات جذرية في المشهد الإقليمي، حيث تراجع النفوذ الإيراني بسرعة غير مسبوقة. فقد سقطت القوة العسكرية لحماس في غزة، وتراجع دور حزب الله في لبنان، وانهيار النظام السوري، الذي كان أحد أهم أدوات إيران الإقليمية. لكن رغم هذه التحولات الكبيرة، يبقى الملف اليمني جامدًا وغير قادر على الاستفادة من هذه التغيرات الاستراتيجية التي أضعفت إيران وحلفاءها. فما الأسباب وراء هذا الجمود؟
أولاً: استمرار قوة الحوثيين العسكرية
على عكس ما حدث لحماس وحزب الله والنظام السوري، لم تشهد جماعة الحوثي أي تراجع كبير في قوتها العسكرية. الحوثيون لا يزالون يحتفظون بترسانتهم العسكرية كاملة، بل تضاعفت قدراتهم في بعض المجالات. الصراع الأمريكي-الروسي غير المباشر في أوكرانيا دفع روسيا لدعم الحوثيين بأسلحة متطورة واستراتيجية. هذا الدعم ساهم بشكل مباشر في تعزيز القدرات القتالية للحوثيين، مما منحهم تفوقًا عسكريًا على القوات التابعة للحكومة الشرعية اليمنية وعلى المكونات العسكرية الأخرى مثل الحراك الجنوبي.
ثانيًا: اعتماد إيران على ورقة الحوثيين
بعد فقدان إيران لنفوذها في سوريا وتراجع دورها في العراق، أصبح الحوثيون الورقة الأخيرة والأكثر أهمية التي تعتمد عليها إيران للحفاظ على تأثيرها الإقليمي. ومع رغبة القوى الشيعية في العراق بالنأي بنفسها عن مغامرات الميليشيات المسلحة، تركز إيران جهودها بالكامل على دعم الحوثيين بالأسلحة والتكنولوجيا لتعزيز تفوقهم العسكري. هذا الدعم ليس فقط للحفاظ على مكتسباتهم، بل لمنع أي تحرك عسكري من قبل أمريكا أو اسرائيل قد يهدد وجودها.
ثالثًا: غياب وحدة الصف المعارض للحوثيين
من أهم العوامل التي ساهمت في إسقاط النظام السوري وتراجع نفوذ حزب الله هو الإجماع بين القوى المناهضة لهما حول العدو الرئيسي. في المقابل، يفتقر المشهد اليمني إلى هذا الإجماع. القوى المناهضة للحوثيين منقسمة على نفسها؛ فالحراك الجنوبي يركز على مطالب الانفصال ويرى الحكومة الشرعية والإصلاح خصمًا رئيسيًا. أما حزب الإصلاح، فإنه يتردد بين التركيز على الحوثيين كعدو رئيسي وبين مواجهة الحراك الجنوبي وقوات طارق صالح. هذا الانقسام أفقد المعارضة قوتها، وأدى إلى إطالة أمد الصراع.
رابعًا: غياب الحدود المباشرة مع إسرائيل
على عكس حزب الله وحماس، لا توجد حدود مباشرة بين إسرائيل والحوثيين، مما يجعل تنفيذ عمليات عسكرية إسرائيلية ضد الحوثيين أمرًا معقدًا. البعد الجغرافي يمنح الحوثيين حصانة نسبية من الضربات الإسرائيلية، مما يتيح لهم مواصلة استهداف السفن التجارية في البحر الأحمر وإطلاق الصواريخ والطائرات المسيرة باتجاه إسرائيل دون أن يترتب على ذلك أي أثر عسكري كبير عليهم.
خامسًا: الموقف الأمريكي والسعودي المتردد
رغم أن الولايات المتحدة تنفذ ضربات محدودة ضد الحوثيين، إلا أنها تتجنب الدخول في حرب شاملة. هذا التردد الأمريكي يعود إلى رغبتها في تقليل الانخراط العسكري المكلف في المنطقة، مما يمنح الحوثيين مساحة أكبر للتحرك. في المقابل، تملك السعودية معظم الأوراق العسكرية، لكنها لا تمتلك رؤية استراتيجية واضحة للتعامل مع الملف اليمني. هناك تخبط كبير في سياسات الرياض تجاه الحوثيين، حيث تتراوح بين التهدئة والمواجهة دون استراتيجية متماسكة تهدف إلى حسم الصراع.
سادسًا: الوضع العسكري الداخلي
الوضع العسكري في اليمن مختلف تمامًا عن سوريا ولبنان. في سوريا، كان القرار التركي بدعم فصائل المعارضة، مثل هيئة تحرير الشام، حاسمًا في تغيير المعادلة الميدانية. لكن في اليمن، لم تقم السعودية أو التحالف بأي خطوة مشابهة لتسليح ودعم الأطراف المناهضة للحوثيين بشكل يمكنها من حسم المعركة.
سابعًا: الأبعاد الاقتصادية والسياسية للصراع
الوضع الحالي في اليمن يبدو أكثر ربحية لبعض الأطراف من استعادة الدولة. ضخ الأموال من أطراف خارجية في جيوب قادة الجماعات المسلحة أو السياسيين المحليين ساهم في تجميد الأوضاع، حيث باتت حالة الجمود أكثر نفعًا لهم من تحقيق تغيير حقيقي على الأرض.
النتيجة: مستقبل الملف اليمني
يبقى الملف اليمني عالقًا في دائرة الجمود، بينما يستمر الحوثيون في مغامراتهم العسكرية، وتهديدهم للأمن القومي السعودي والإقليمي. ما لم تتحرك القوى الإقليمية والدولية بجدية، وما لم تصحح السعودية أخطاءها الاستراتيجية، فإن الوضع في اليمن سيظل كما هو، مما يمنح الحوثيين المزيد من الوقت لتعزيز قوتهم، ويؤدي إلى إطالة أمد المعاناة الإنسانية للشعب اليمني.
التغيرات الإقليمية الكبرى التي أضعفت إيران قد تكون فرصة ذهبية لإعادة فتح الملف اليمني، لكنها فرصة تضيع يومًا بعد يوم في ظل غياب رؤية واضحة وتحرك جدي من الأطراف المعنية.