آخر تحديث :الثلاثاء-10 سبتمبر 2024-09:20ص

تمهيد في فهم الأزمة اليمنية من منظور جديد

الخميس - 08 أغسطس 2024 - الساعة 12:22 ص

د. قاسم المحبشي
بقلم: د. قاسم المحبشي
- ارشيف الكاتب


( لماذا السلطة هي محور الصراع في اليمن؟ لإنها تمنح مالكها القوة والسطوة والثروة والجاه والنفوذ وكل شيء تقريبا؛ بينما تجعل من يفتقدها بلا حول ولا قوة) ق.م.

ربما كانت المعضلة الجوهرية في المجتمعات التقليدية المساواتية الانقسامية تكمن في الصراع الدائم على السلطة السياسية بعكس المجتمعات التدرجية حيث كل طبقة من طبقات المجتمع تعرف حدود قدرتها وحقوقها. في المجتمعات المساواتية التي يعد فيها كل فرد من افراد المجتمع المتعين على درجة متساوية مع معظم افراد مجتمعه في الحسب والنسب العشائري والقبلي أو القروي المناطقي بمعنى لا لا احد افضل من غيره. كلنا عيال تسعة! كما يقولون. في هذا المجتمع المساواتي عند الوضع الأصلي تكون البنية الانقسامية جزءا جوهريا من نسيجه التقليدي طبعا؛ هويات ومرجعيات دائرية اشبه بالقنبلة العنقودية( عائلات، عشائر، قبائل، قرى، مناطق، جهات، طوائف، مذاهب ، ملل، نحلل، حارات، شوارع، مدن..الخ من اشكال التجمعات السكانية التي توجد بجانب بعضها بعضا لا مندمجة ولا منفصلة. تجمعها رغبة العيش المشترك في أرضها التي وجدت نفسها تنتمي اليه وتحمل أسمها. وقد كانت ولا زلت السلطة السياسية مشكلة عويصة في كل مكان وزمان ولا توجد غير ثلاثة خيارات مجربة لضبطها وتداولها بحسب عالم الاجتماع الفرنسي ماكس فيبر وهي : الوراثة كما هو حال الممالك والسلطنات التي تتوارث الملك والحكم بين الأجيال بوصفها حقا طبيعيا . والقوة بالقهر والإخضاع كما هو حال الغزاة والطغيان والاستبداد بمعنى الحكم بقوة السيف والساعد والثالثة هو الديمقراطية العلمانية وهي افضل الطرق المجربة أو التقنيات المبتكرة لحل معضلة السلطة بالتداول السلمي في معظم الدول المستقرة. وانا أتأمل في حال مجتمعنا اليمني لاحظت ظاهرة غريبة جدا إلا وهي إن مشكلة السلطة وأدارة الشأن العام هي اخطر المشكلات التي تحتدم حولها المعارك منذ اقدم العصور ومع ذلك لازلنا نتعامل معها بلا جدية ولا اهتمام ولا مسوولية حقيقية. حتى المعايير الشكلية البسيطة التي ممكن أن تخفف من حدة الصراع على السلطة وتفننها - اقصد المساواة في توزيع الفرص بين الفعاليات والحساسيات الاجتماعية القائمة بحسب الحجم والقوة والوزن والمكانة وبحسب الشهادات العلمية والتخصص والكفاءة والخبرة والسمعة النجاح المهني وغيرها من المؤشرات والمعايير الشكلية حتى هذه يتم تدميرها بغباء لا مثيل له يقود الجميع إلى التهلكة دئما في دورات متكررة من الحروب والنزاعات والتمردات والثورات المرهقة.

والمتتبع للتاريخ اليمني سوف يجد أن الصراع على السلطة والثروة قد شكلا العامل الأساسي في الصراع بين العصبيات والقوى التقليدية المتنازعة على الاستئثار بعناصر وأدوات القوة ، السلطة والحكم والثروة والأرض والعقيدة والهوية وكل فرص العيش الممكنة، وفي سياق ذلك المحور الملتهب للعصبية السلطوية بمعناه الخلدوني كان ومازال يجري توظيف الدين والطائفية والمناطقية والقبلية بطرق واشكال مختلفة في شمال اليمن وجنوبه ولأن اليمن بلد فقير وإمكانياته محدودة جدا فإن الحصول على الثروة قد تطلب أن يقوم على قهر وسلب الفئات المنتجة وحرمان الفئات الضعيفة ولمهمشة، وبهذا أصبحت (السلطة) تسلطية عنفية تستخدم أداة للقهر والظلم والحرمان وبؤرة للصراع الدائم غير أن بناء وتأسيس الدول لا يقوم ولا يدوم إلا على أساس الشراكة المجتمعية التي تقوم على قوة الحق؛ حق كل مواطن في أرضه ووطنه بغض النظر عن مواقفه واتجاهاته السياسية والأيديولوجية، والدين لله والوطن للجميع! وسبب خراب اليمن يكمن في أن النخب السياسية الغبية جعلت من حق القوة قاعدتها الأساسية، إذ أن كل من استولى على السلطة أقصى الآخرين منذ ١٩٦٢ في صنعاء الجمهورية اليمنية ومنذ 1967 في عدن الجمهورية الشعبية بنِسَب متفاوتة من العنف والقسوة إلى أن جاء من يقصي جميع الإقصائيين، جاء من غياهب التاريخ وأعلن نفسه مالك اليمن وما عليها تحت راية طائفية من خارج التاريخ،. اسمها ( أنصار الله) والحق اللهي والبطنيين والمسيرة القرآنية.
وبين العنف والسلطة علاقة جدلية تفاعلية تبادلية ؛ فهما منفصلان ومتصلان في آن واحد بحيث تتأسس الثانية على توقف الأول والعنف هو أولا قبل- سياسي لأنه يشير الى الوضعية التي تسبق ظهور سلطة سياسية ما, تلك هي المشكلة التي استقطبت اهتمام كل من هوبز وروسو وكلاستر، وهو _ العنف_ ثانياً ضد - سياسي لأنه ينذر بدون توقف بانهيار النظام السياسي وهو أخيرا ما بعد - سياسي لأنه يبعد السياسية عن السلطة وينقل مركز القوة والنفوذ إلى دوائر أخرى خارج المجال السياسي وقواعد لعبته اذ تأخذ صور شتى ؛ اقتصادية وتقنوية وبربرية وفوضوية تجعل تحقق المواطن والمواطنة في المجتمع امرأ مستحيلا. ورغم هذا التعارض بين السلطة السياسية والعنف من حيث الماهية، فإن العنف يجد نفسه تجريبياً مقترناً دائماً بالسلطة ومتداخلاً معها اذ يشغل مكانة داخلها، وداخل السياسة بما هي علاقات قوى تنافسية واستراتيجات مصالح متصارعة وهذا ما يظهر بقوة في مقدمة ابن خلدون وفي أعمال نيقولا ميكافيللي، الذي كان أول من حدد تقديرهما اي «العنف والسلطة» باكبر قدر ممكن من الدقة لا سيما في كتابه الشهير الأمير انجيل السياسية الحديثة إذ أن تقدير كمية العنف والسلطة هو ما يؤسس في نظره السياسة والمجال السياسي المستقل بقوانينه الخاصة ويتعلق الأمر هنا بمقدار ما تحتاجه السلطة السياسية من العنف للحفاظ على السياسية، دون الخطأ في تقديره لأن الإفراط في مقدار العنف يلغي السلطة فعلاً ويهدد السياسة والنظام السياسي بالتفكك والاضمحلال وبالزوال , وهذا هو معنى العبارة ( لا تدوم الدول إلا بعدل صحيح وأمن راسخ وأمل فسيح ) بحسب الماوردي، الإحكام السلطانية .
إن السلطة يجب إلا تظهر بمظهر من يستخدم العنف العاري بل بمظهر القوة القائمة بدقة على الحق وهذا هو ما قصده ماكس فيبر, بالشرعية العقلانية للسلطة السياسية او «بالعنف المشروع» حتى في الحالات الصعبة لا تستطيع السلطة في أية حالة ان تستسلم للعنف العاري _بل لا يجوز لها ذلك أبدا حتى لو امتلكت القدرة والاستطاعة على استخدام العنف المفرط الاعتباطي وغير المبرر وإلا فإنها ستنفي ذاتها كسلطة سياسية وتفقد مشروعيتها العقلانية العامة , لهذا فالعنف ترياق مسموم بالنسبة للسياسة - حسب أفلاطون- «فارموكان» فيه الداء والدواء، إذ إن كل عنف باعتباره ملجأ للضعيف وليس للقوي يكشف عن ضعف (عن مرض ما) عن خلل خطير في الجسم السياسي. كما إن اللجوء غير الملائم إلى العنف يدخل السلطة مرة أخرى في وضعية (حرب الجميع ضد الجميع السابقة على إقامة السلطة السياسية) حسب هوبز تلك الحالة التي تتساوى فيها كل الكيانات بالقوة والأهلية وتضيع فيها الشرعية والحق الشرعي وهكذا يحول العنف جهاز السلطة المبني على أساس الحق الى جهاز للعنف والقوة والقمع والقهر , جهازا يدخل في حرب مع أجهزة أخرى للعنف ويلغي وضع تعاليه السياسي بوصفه سلطة على كل ما يقف في وجهها ومن ثم تقويض مشروعية قوتها وشرعية وجودها.. ان العنف الذي تلجأ أليه السلطة يظل دوماً محفوفاً بالمخاطر مثلما هو الشأن بالنسبة للعنف الذي يهاجمها. وترى كل من الأمريكية حنة ارندت وكلود لوفور بأن العنف يفضي الى اختفاء السياسة في الأنظمة الشمولية , وإحلال العنف قوة تسلطية وحيدة محل السلطة السياسية يسيران بنفس الوتيرة ويتلازمان بحيث ان حضور احدهما يعني غياب الآخر لأن حلول العنف محل السلطة جعل هذه الأخيرة ضائعة المعالم وغير متعرف عليها وعلى شرعيتها السياسية , وبذلك كان الطغيان والاستبداد اللذان يستندان على قوة العنف والقهر والإجبار هو تسلطية وليس سلطة حقيقية إذ لا تكون المبادئ (المداخل والمخارج) مستبطنة من طرف أولئك الذين يخضعون له إي المحكومين به فضلاً عن ذلك فهو لا يتوفر على دعامة إيديولوجية سوى إرادة المستبد الحسنة او السيئة ومثلما اكد افلاطون بأن المستبد بوصفه سجين عالم باطني لا يستطيع السيطرة عليه يعيش مفتوناً باضطراب رغباته واهوائه الخاصة به، اذ ان الاستبداد شكل سياسي يوجه فيه العنف الباطني للمستبد السلطة ويحيلها الى تسلط , وهكذا نتعرف في هذا التحليل على أحد اوجه الـ«بدون- اساس» الذي اشار اليه هيدجر في كتابه (مبدأ العلة) فالقوى الاستبدادية لا تعرف لماذا ولا بواسطة ماذا هي جائرة انها هي نفسها تسقط اولاً ضحية هذا الجور قبل ان تصير استبدادية، انها لا تعلم بتاتاً بأن العنف «بدون لماذا» «بدون علة» «بدون- اساس» يستحيل تبريره بل ينكشف بعده باطل وجور لايجب السكوت عليه .
إن السلطة التي تتخذ من العنف الخيار الوحيد في حل مشكلاتها وأزماتها تعمل على تقويض ذاتها وتهديد حياة مجتمعها، اذ يستحيل تبرير مشروعية العنف في كل الحالات، فاذا لم يكن العنف استثناء تستدعيه ضرورة قاهرة وفي لحظة مباغتة للحفاظ على حياة الناس ومصالحهم وتأمين سعادتهم ومستقبلهم ضد اي تهديد خارجي مؤكد، فإن السياسة والتسلطة السياسية تضع نفسها على شفير الهاوية و«حينما يكون الحصان على شفأ الهاوية، فلا يجدي شد اللجام لا إيقافه!

يصف برايان وينكر اليمن-في كتابه The Birth of modern yemen (ميلاد اليمن الحديث)- بأنه بلد ذو تاريخ طويل للأرض وقصير للدولة. وليس في توصيف كهذا مبالغة، فالتاريخ السياسي للبلاد تأريخ جهوي تمحور حول الجغرافيا، فهذه-من خلال ما فرضته من موقع معزول وتضاريس متنوعة وصعبة وبما منحته من موارد شحيحة- ظلت وما زالت تتمتع بسطوة على الحقل السياسي، وكانت قادرة دوما على التدخل فيه والتأثير عليه، واستطاعت ان تكون الطرف الأقوى في العلاقة التي جمعتها بالحياة السياسية وبالدولة، وان تكون البوابة التي تمر عبرها علاقة الأفراد والمجتمع بهما. فبسبب موقعه القصي، وما يوفره هذا الموقع من منعة، أصبح اليمن فردوسا مرغوبا للمتمردين والخارجين على دولهم، ومقصدا مفضلا للدعوات الدينية المتسيسة منذ القرن منذ قدوم ابرهه الحبشي وجيشه مرورا بسيف بن ذي يزن إلى الإمام الزيدي الهادي الرسي واخيرا اسامة بن لإذن.

اكرر أن الدولة بوصفها مؤسسة المؤسسات الوطنية الجامعة هي البيت السياسي المشترك للموطنين القاطنين في مكان وزمان متعينيين بينما السياسية هي اللعبة التي يمارسها سكان البيت في الصراع على عناصر القوة؛ السطلة والثروة والوظيفة العامة والجاه والتمثيل . الخ. فاذا لم تأسس الدولة على أساس تعاقدي دستوري مدني يكفل حق متساوي لجميع المتعاقدين في العيش الكريم والوصول والحصول على الفرص فمن العبث الحديث عن السياسة ونتائجها.
اليمنيون عجزوا عن تأسيس بيتهم السياسي المشترك (الدولة)فصاروا يتصارعون في الشارع على الجثة المتعفنة. وصراع الشوارع لا حكم عليه ولا معيار له. حرب الجميع ضد الجميع!