آخر تحديث :الأربعاء-25 سبتمبر 2024-02:23ص

نعمان الابن.. المهندس الأول لفكرة الجمهورية (16 ــ 30)

الأربعاء - 25 سبتمبر 2024 - الساعة 12:35 ص

د. ثابت الأحمدي
بقلم: د. ثابت الأحمدي
- ارشيف الكاتب


‏لافتات سبتمبرية

المتتبع لأدبيات الأحرار السياسية والثقافية منذ منتصف العام 1935م ــ وهو العام الذي بدأت فيه ملامح المعارضة السياسية للإمام يحيى ونظام حكمه ــ يستشف أنّ فكرة الجمهورية كانت غائبة عن دعوات الأحرار، وأن دعوتهم السياسية كانت مقتصرة على إصلاح النظام السياسي القائم بالمقام الأول، وهي دعوة لها معطياتها الموضوعية آنذاك. لم تكن ثمة دولة جمهورية في المنطقة كاملة تقريبا.

قامت ثورة 1948م الدستورية التي قضت على الإمام يحيى، وعينت بدلا عنه الإمام عبدالله بن أحمد الوزير، أحد مشاركيه في الحكم، وقامت حركة 1955م العسكرية وعينت السيف عبدالله أخا الإمام أحمد بدلا عنه، لكونه رجلا مستنيرًا، وداعية للتحديث والإصلاح السياسي، مع حفاظه على جوهر النظام السياسي "الإمامي".
وهو ما يعني أن فكرة الجمهورية كانت غائبة عن مشروع الأحرار السياسي حتى هذه الفترة.

باختصار.. المؤسس الأول لفكرة الجمهورية هو المناضل الأستاذ محمد أحمد نعمان "الابن"، منتصف خمسينيات القرن الماضي.

ولنقف هنا بصمت أمام شهادة المناضل محمد الفسيل عن الفكرة الأولى لميلاد الجمهورية، يقول:
حال وصولي إلى عدن في عام 1956م، انضممتُ إلى الاتحاد اليمني، وسكنت في داره، وكان زميلي في السّكن الأخ محمد علي الأكوع. وقال لي نعمان الابن بحماس: آن الأوان أن نتجاوزَ الإمامة والإمام، ونعلن أن البديل هو النظام الجمهوري. لقد جربنا في ثورة 48 الدستورية استبدالَ إمامٍ مستبد بإمامٍ دستوري من أسرة أخرى، وسقطت التجربة بكل ما فيها من مآسٍ، وقلنا أن السقوط كان نتيجة تعود الشعب لحكم بيت حميد الدين، ونظرته لآل الوزير كأتباع للإمام لا كأئمة، وجاءت حركة "مارس" 1955م بقيادة الثلايا وإمامة الإمام عبدالله بن يحيى حميد الدين، وسقطت الحركة خلال أيام، وانتصر الإمام أحمد مرةً أخرى، فمن الغباء أن يبقى تفكيرنا قائما على استبدال إمامٍ بإمامٍ؛ لأن الإمامَ هو الموجود لا "الإمامة"، ولا بدّ من ثورة جمهورية تتجاوز الإمام والإمامة.

هذا ما قاله نعمان الابن في أواخر عام 1956م بعد سقوط حركة الثلايا وإمامة عبدالله بن الإمام يحيى، وكنتُ معه في هذا، ولكني سألته: كيف نحقق ذلك؟ ومَن رجاله؟ فقال: علينا أولا أن نتبنى المبدأ الجمهوري، ونعلنه ونبحث عمن يؤيده".

ودار بين بين الفسيل ونعمان الابن حوار طويل. ووفقا للفسيل: "كتب نعمان الابن إلى أبيه خلاصة الحوار، وطلب منه تبني مبدأ الجمهورية، بدلا من "الإمامة". وقد رد الزعيمان الزبيري والنعمان عليه بأن من الصّعب عليهم في الوقت الحاضر تبني ذلك، ولكنهم لا يمانعون من تبني الصّف الثاني من الأحرار لفكرة الجمهورية". كما ذكر المناضل الفسيل في مذكراته.

ويفصح علي محمد عبده في كتابه لمحات من تاريخ حركة الأحرار اليمنيين عن الحقيقة سافرةً، وعن أول داعٍ إلى الجمهورية صراحة، وبلا مواربة، وذلك في أول أكتوبر من العام 1957م، ضمن توجهات الاتحاد اليمني، في القاهرة؛ حيث قال عن محمد أحمد نعمان، وهو يخاطب قيادة الاتحاد اليمني: "لقد آن الأوان لتبني الهيئة الإدارية الدعوة للجمهورية كهدف، ويعمل الاتحاد اليمني على تحقيقه كنظام حكمٍ لليمن".

ومن هنا بدأت "عمليّة الفكرة" تسفر عن وجهها بكل وضوح، وبلا تحفظ، وخاصة بين الأوساط الشبابية والأقلام الصحفية؛ إذ استحسنت الهيئةُ الإدارية للاتحاد هذه الفكرةَ، شاحذين أقلامهم وأفكارهم للكتابة في هذا الاتجاه، في أغلب الصُّحف العدنية حينها، مع أن ثمة من عارضها من بعض الشباب المثقف، وتحديدا من الشيوعيين، مثل عبدالله عبدالرزاق باذيب وغيره، فقد نشروا مقالات يهاجمون نعمان الابن والأحرار وفكرة الجمهورية، باعتبار أن الفكرةَ جاءت من برجوازيين يدعون لجمهورية، يرأسُها شيخ قبلي، هو أكثر رجعيّة من الإمام، حد تعبيرهم، كما ذكر الفسيل، والذي أشار إلى أن باذيب قد انتقل من عدن إلى تعز بدعم من الإمام أحمد، وهناك أصدر صحيفة النهضة التي تهاجم الأحرار وجمهوريتهم، وتؤيد الإمام وحكمه..!

ومع هذا فلم تؤثر هذه الدعوة كثيرًا، كما لم تتعمق كما ينبغي في ذهن ووجدان الأحرار، ثم إن هذه المواقف لا تعدو أن تكون حالة من العناد السياسي بين المثقفين الشباب ذوي الاتجاهات المتباينة؛ لأن موقف باذيب قد تغير إيجابيا بعد قيام ثورة 26 سبتمبر، لصالح الثورة.

المهم.. انتشرت الفكرة إلى القاهرة، فعدن، ثم تعز وصنعاء وبقية المدن اليمنية، وقد ذكر الأكوع في كتابه أحداث ثورة 55م أن الإمام أحمد بعد عودته من روما في 59، ومطاردته للمشايخ، خاطب أحمد السياغي، قائلا: "تشتوا جمهورية يا قحطاني"؟

ويشير البردوني إلى أن "علم الجمهورية" قد تبدى في رواية "مأساة واق الواق" للزبيري، عازيًا ذلك للاتحاد اليمني الذي عبر عن إرادته في قيام جمهورية ديموقراطية، ولكن من غير بيان سياسي.

وعلى أية حال.. فالمفكر الأستاذ محمد أحمد نعمان هو المهندس الأول لفكرة الجمهورية، وصاحب الصوت الأندى، الذي صدح بالحقيقة في وجه "الإصلاحيين الأحرار" قائلا: إن مهمة المناضلين الأحرار ليست السمسرة للأمير فلان، أو فلان. وليس واجب المناضلين الأحرار عندما يفقد الشعب الأصنام أن يصنعوا له أصناما من فلول الطغيان المندثر.

مضيفا:.. نعم إنني أريدُ الجمهورية في بلادي. أريدُ أن ينتهيَ عهد التوارث للبشر في بلادي. أريد أن يشعر الحاكمُ حقيقة لا مجازًا أنه يخدمُ مواطنيه، وأنه موظف لديهم لمدة محدودة، يعمل أجيرًا لديهم في إدارة شؤونهم العامة، لا إلها متجبرًا، يهب الحياة لمن يشاء، ويطعم سيف الوشاح من يريد. أريد تغيير نُظُمٍ، لا تغيير أشخاص.

ولعل دعوة محسن العيني، الشاب المستنير حينها، وأحد أعضاء الاتحاد اليمني، في كتابه: معارك ومؤامرات ضد قضية اليمن، الصادر عام 1957م، قد كانت صدى لهذه الدعوة، والتي زاد عليها أيضا فكرة الوحدة بين الشطرين، على أساس جمهوري، ديموقراطي؛ بل فكرة الوحدة بين مصر وسوريا، يقول: "هيا بنا يا رجال نوحد النضال في سبيل جمهورية شعبية، يتساوى في ظلها المواطنون، فلا تابع ولا متبوع، ولا سيد ولا مسود. هيا بنا نؤسس الجمهورية، جمهورية اليمن، لتحقق مع جمهورية مصر، وجمهورية سوريا الوحدةَ العربية المنشودة..
د. ثابت الأحمدي