آخر تحديث :الجمعة-27 سبتمبر 2024-02:02ص

في الحاجة إلى الإيمان وتبرير المطلق المتعالي

الخميس - 26 سبتمبر 2024 - الساعة 02:03 ص

د. قاسم المحبشي
بقلم: د. قاسم المحبشي
- ارشيف الكاتب


يوم 15 سبتمبر في ندوة أكاديمية تفكير عن مشروع المستشار عبدالجواد ياسين التي قدمها الدكتور أشرف منصور كانت مداخلتي بشأن حقيقة التمييز الأفلاطوني بين عالمين؛ المطلق الثابت والنسبي المتغير ووظيفة ذلك التمييز في العصور القديمة قبل تمكن العلم الحديث من نزع السحر عن العالم؟! هو ذا الذي يفترض دراسته وفهمه لماذا لجاءت نخب المجتمعات التقليدية إلى تبرير مشاريعها السياسية بالاستناد إلى مصادر متعالية غيبية ومقدسة؟


أ. عبد الجواد ياسين
فاذا كانت حاجة الكائن البشري المجبول على الوعي والذاكرة والخيال تستدعي الإيمان بالمقدس كما اوضح عالم النفس الألماني أريك فروم في كتابه المهمة (الإنسان بين الجوهر والمظهر) إذ أكد أن حاجة الإنسان إلى الإيمان بكائنات ارفع منه شأنا، قوية وثابته ودائمة وشغوفة هي متأصلة في الكائنات العاقلة.

للغيب سلطة وسلطته تنبع من ملكة الخيال وحاجة الإنسان للتجاوز والتسامي إلى ما هو أبعد من الواقع وحدوده الضيقة إذ أن في الوجود جانباً باطناً، لا مرئياً، مجهولاً، وأن معرفته لا تتم بالطرق المنطقية- العقلانية، وأن الانسان دونه دون محاولة الوصول إليه، كائن ناقص الوجود والمعرفة، وأن الطرق إليه خاصة وشخصية وفريدة وحميمة.

أشرف منصور
د. أشرف منصور
لهذا سنجد أن هناك قرابات وتآلفات بين جميع الاتجاهات التي تحاول أن تستشرف هذا الغيب. فالتجارب الكبرى في معرفة الجانب الخفي من الوجود تتلاقى بشكل أو بآخر فيما وراء اللغات وفيما وراء العصور، وفيما وراء الثقافات. وهذا هو مبعث ظهور الأساطير والايديولوجيات في كل العصور.

أن الكائن الإنساني هو أضعف الكائنات الحية على المستوى البيولوجي ولكنه اذكاؤها واقواها بسره الغيبي الخفي فالغيب هو سر تفوق الكائن بغض النظر عن المعنى الذي يكتسبه هذا البعد الخفي في الكائن ( العقل، الحرية، الخيال ، الإيمان ، الأمل، الحلم، الوهم، العدم، الموت، الخلود، المعنى..الخ)

فكل الخرافات والأساطير والأيديولوجية هي تعبيرا عن تلك الحاجة الإنسانية المتعطشة للاشباع إذ أن الانسان ظامئ أبداً الى يتجاوز ويتسامي ويجسد ويتجسد إلى أن ينفصل ويتصل. ظامئ الى الوحدة لا الى التجريد والى المشاركة لا الى الهيمنة وفي مثل هذه اللحظة أيضاً يزداد الانسان يقيناً بأن في أعماقه محيطاً تسوره وتلجمه سدود وحواجز من كل نوع، وأن حياته ستظل زبداً إن لم يهبط فيه محطماً سدوده وحواجزه، حيث يرى ما لم يره، (ما لا يرى) ويفكر بما لا يفكر فيه ويحس بما كان يعتقد أن أحداً لا يحظى به.

وحيث يفتح له عبر هذا الهبوط والتسامي في هذا الميحط، عالم ليس محدوداً بالاشياء، وإنما حدوده الفكر والخيال وربما كانت هذه اللحظة لحظة الحب بامتياز:”ففي الحب يتجاوز كل من المحب والمحبوب فرديته، يتجاوز كل من العاشق والمعشوق كينونته، يتجاوز كل من الرجل والمرأة أنيته في وحدة، يشعران فيها أنهما أكثر مما هما في الواقع والمطلق، الوجود وما وراءه ولا يعود كل منهما إلا تجلياً للآخر يتجلى له، وفيه ويتجلى عليه، وكمثله، من هذا السر العميق أنبثقت الصوفية بوصفها تجربة وجودية تتصل بما هو خفي وغيبي وعميق بحسب اودنيس والاتجاه الى الصوفية أملاه عجز العقل والشريعة الدينية”عن الجواب عن كثير من الاسئلة العميقة عند الإنسان. فكيف يمكن أن يعيش الإنسان بدون وهم من الأوهام؟

تلك هل صرخة نيتشه مكتشف العدم في قلب الحضارة الصناعة الحديثة وبهذا المعنى نفهم صرخة نيتشه حينما اكتشف ضمور الأيمان بما وراء الخير والشر في قلبه وقلوب أهل زمانه فجاءت صرخته المشهورة إذ قال: “لقد فتشت قلبي وقلوب أهل زماني فوجدت أن الله قد مات) يقصد الايمان بالمسيح وأضاف متسائلا يا للهول هل يستطيع الإنسان أن يعيش دون أن يؤمن بشيء ؟

تلك هي المسألة التي حيرت نيتشه ولازالت تحير الحضارة المعاصرة. نزع السحر عن العالم وترك الإنسان مغتربا في عالم خالي من الأمل والمعنى العزاء والسلوى” ومن الخطاء الفادح القول بان نيتشه هو الذي أعلن موت الله كما كرر الدكتور أشرف منصور في محاضرته هذه الفكرة غير الصحيحة البتة.