آخر تحديث :الإثنين-30 سبتمبر 2024-01:05ص

مأزق الحرية الإنسانية في الثقافة العربية الإسلامية

الإثنين - 30 سبتمبر 2024 - الساعة 01:00 ص

د. قاسم المحبشي
بقلم: د. قاسم المحبشي
- ارشيف الكاتب


مأزق الحرية الإنسانية في الثقافة العربية الإسلامية
فيما يشبه الحوار الفكري مع الدكتور محمد عيسى

(الحرية؛ تلك الكلمة المكتوبة على مركبة العواصف ) كامو

في سياق احتفالية أكاديمية وصالون تفكير بسبعينية المستشار عبدالجواد ياسين قدم الشيخ الأزهري الدكتور محمد عيسى رئيس مركز إسلام فيما وراء البحار بشيكاغو محاضرة مهمة عن ( الحرية الدينية في فكر عبدالجواد ياسين) وذلك عبر منصة Zoom وذلك يوم الخميس 26 سبتمبر 2024م جاء فيها " وظلت فكرة "الحرية" بمعناها الشمولي الواسع تراودني وتلحّ على ذهني وتدعوني إلى تتبعها في فكر مجتهد معاصر، علّـي أظفر من خلال جهوده واجتهاده إلى ما يعينني على فهم الواقع الديني الإسلامي الذي أعيش فيه، وعلى تقديم أفكار قد تسهم في تقريبعقول المسلمين من بعض أمَلًا في الوصول إلى حالة تفاهم متبادل،وإدراك أن الإسلام دين واحد رغم تعدد طوائف المسلمين مذهبيا،وتباينهم عرقيا، واختلاف ألسنتهم لغويا، وتغاير انتماءاتهم سياسيا واجتماعيا.
وقد كان كلام المستشار عبد الجواد عن حد الردة ومعالجته لمفهوم عدم الإكراه في الدين هو ما أغراني بمحاولة التعرف على ابعاد الحرية الدينية في فكر المستشار عبد الجواد ياسين، وقدَّرت أن البحث في هذا الموضوع ربما يقودني إلى التعرف على جوانبأخرى من الحرية، وحالات ممارستها أو مصادرتها باسم الدين.
وتشكل البحث في ذهني بهموم الواقع ودور الدين والتدين في المجتمع الذي أعيش وأعمل فيه منذ ما يقرب من نصف قرن، كما تأثر بتاريخ ونوعية نشاطي الاجتماعي والأكاديمي في مؤسسات التعليم الأمريكية، وبنشأتي التعليمية الأزهرية في مصر. وبهذه الخلفية لِنـيَّة البحث اطلعت على ما أتيح لي من أنتاج المستشار عبد الجواد ياسين، منقبا عن مفهوم الحرية في كل موضوع طرحه للمناقشة. فماهي الحرية؟" ( ينظر ، محمد عيسى الحرية الدينية عند المفكر عبدالجواد ياسين،صالون تفكير )
ولما كنت مهتماً بمشكل الحرية منذ زمن الدراسة الأجتماعية وربما كان هذه الاهتمام هو الدافع لجني أتخصص في الفلسفة الوجودية وكتابة رسالة الماجستير عن فيلسوف الحرية الشهير جان بول سارتر بإشراف الأستاذ الدكتور، أحمد نسيم،برقاوي ، إذا كتبت في الوجود والماهية عند جان بول سارتر ناقشتها عام 1995م في قسم الفلسفة بكلية الآداب بجامعة عدن. وقد وجدت أن الحرية من المفاهيم الفلسفية الإشكالية في تاريخ المعرفة الإنسانية، فهي من الكلمات المفهومية المجردة التي عادة ما يرددها الناس في كل زمان ومكان دون فهم صحيح لمعناها، بل أن كثرة المعاني والدلالات التي يثيرها لفظ الحرية قد جعلها عرضة لسوء الفهم ومصدراً لشتى أنواع الالتباسات والغموض والتشوش إذ تنطوي على شبكة كاملة من الانفعالات الجمعية والفردية، وترمز إلى التضحية والإنطلاق والوثوب والتحدي والتمرد والإنكار والكفاح والاستقلال والابتكار والسمو والنضال والإبداع والصدفة واللاحتمية والعاصفة والشمس والريح والطيران وتحطيم القيود والدم واللون الأحمر والعدالة والقلق وآمال الشعوب المعذبة والانعتاق والطموح والتقدم والمغامرة والرقص والفرح والسعادة.. الخ. إنها الكلمة التي ينثر اللفظ بها كنانة شاملة من الغضب المقدس وتلهب النفوس بالرغبات والآمال والأحلام فهي تكتب في دفاتر التلاميذ ، وعلى مقاعد الطالبات وعلى جذوع الأشجار وعلى الرمل والثلج وفي جدران السجون، وفي لوحات الفنانين، وفوق الأضرحة، وفي عيون الفتيات وتوشم فوق أجساد الشباب وفي عقولهم. أنها الكلمة التي المكتوبة على مركبة العواصف بحسب كامو ولعل الإحساس بالدوار الذي ينتاب المرء حينما يكون عليه البحث في مشكل الحرية يعود إلى هلامية المفهوم وضبابيته الفائقة وغياب الخبرة والتجربة الحياتية لتحقيق الحرية. وهذا ما أكده معظم الفلاسفة والمفكرين الذي تناولوا الحرية بالبحث والتحليل فهذا الفيلسوف الكبير هيجل- فيلسوف العقل المطلق الذي أكتشف ما لم يستطيع جميع الفلاسفة اكتشافه "الجدل" وقف محتاراً بازاء لفظ الحرية. إذ كتب: " هذا اللفظ "الحرية" هو لفظ مبهم غير محدد وكلمة غامضة لا يعتمد عليها.. إنه عرضة لسوء فهم لا نهاية له، وألوان من الخلط والاضطراب والأخطاء لا حصر لها كما أنها عرضة لكل ما يمكن تخيله من إسراف وتجاوز" وهناك من يرى أن الحرية غير قابلة للتحديد ولا للتسمية، فهي لا تقبل أن توصف، لأن لا ماهية لها ولا تخضع لأي ضرورة منطقية والحصر الدقيق لمعانيها ليس من شأن أن ينتهي كما يقول المفكر المغربي عبد الله العدوي في كتابه "مفهوم الحرية" ويرى المستشرق روزنتال " أن الحرية عبر التاريخ استطاعت أن تعتق نفسها من قيود التعريفات المؤطرة وأن تتطور إلى واحد من المصطلحات المجردة القوية، لكنها في ذات الوقت غدت موضوعا لتعريفات متعددة وأدبيات واسعة" وهذا ما حذا بالمفكر المغربي محمد عزيز الحبابي أن يقترح الحديث عن "حريات لا عن حرية" فالحريات ملموسة والحرية مجردة.
تجدر الإشارة إلى أن تراثنا الثقافي العربي الإسلامي شديد الفقر فيما يخص الحرية ودلالاتها المفهومية وكل ما نعرفه عن الحرية الإسلامية لا يتعدى عبارة الخليفة ألراشدي عمر بن الخطاب وبعض تصورات المتكلمين من المعتزلة في سياق حديثهم عن "الجبر والاختيار" وسؤال هل أن الإنسان مخيرا أم مسيرا؟ فيما عدا ذلك فالوعي القدري والرضوخ لمشيئة الأقدار والطاعة والامتثال والرضاء بالمكتوب هو الأفق الذي ساد وما يزال سائداً في المجتمعات العربية الإسلامية إذ أن غياب اسم الحرية من القواميس الفلسفية الإسلامية دليلاً على أن الأفق الفلسفي للحضارة العربية الإسلامية لم يكن يسمح بانبثاق سؤالها الفلسفي والاشتباك مع دلالاتها الإنسانية العمومية. لكن هذا لا يعني خلو اللغة العربية وقواميسها من الرموز التي تنتمي إلى مجال الحرية ، كالاختيار، والإرادة ، والقدرة، والمشيئة، والاستطاعة، والروية، والعقل..الخ فقد كانت نشأة علم الكلام مرتبطة أساساً بحل إشكال علاقة الإرادة الإنسانية بالإرادة الإلهية، في حين استعمل التصوف اسم الحرية في أنحاء دلالية غير متوقعة، كادت ترمي بالحرية في أحضان العبودية ففي لسان العرب نقرأ خمسة اشارات أساسية لمادة الحر والحرية تحمل عدد من المعاني ؛ معنى اجتماعي فقهي، وهو المقابل لمعنى العبودية، سواء من جهة الاسم، فالحر والحرة نقيض العبد والأمة، أو من جهة الفعل: حر يحر إذا أعتق أو صار حراً. ومعنى أجتماعي قيمي يشير إلى مرتبة رفيعة في الشرف والكمال والعزة والفضل والكرم. فأحرار الناس هم أخيارهم وأفاضلهم الذين لهم الشرف والعزة، والحرة هي الكريمة من النساء، ويقال هو حرية قومه، أي من خالصهم.كما تشير مشتقات ومعنى جمالي ثقافي يتصل بالناس أو بالأفعال، فالحر هو الفعل الحسن والجميل، والحُسن الأحر، أي الأرق. وللحرية معاني طبيعية تتصل بالجودة والجود. فالأرض أو الفاكهة الحرة هي الطيبة الخيرة ، والحر في كل شيء هو الفاخر، والسحابة الحرة هي الكثيرة المطر، وأحرار البقول ما رق ورطب منها والدهن الحر هو الخالي من الكرسترول. وتستعمل التصوفية كلمة حرية بمعنى العبودية. "فالحرية عند السالكين انقطاع الخاطر من تعلق ما سوى الله تعالى بالكلية. فالعبد في مقام الحرية يأتي عليه وقت لا يتعلق فيه بأي غرض من الأغراض الدنيوية، فلا يهتم بالدنيا ولا بالآخرة ويرى الجرجاني أن "الحرية في اصطلاح أهل الحقيقة تعني الخروج عن الكائنات وقطع جميع العلائق الأغيار إن العبد إذا وصل إلى مقام الحرية تخلص من قيود النفس، يعني أنه لا يتبع ما تأمر به النفس، بل يكون مالكاً لزمام نفسه، وتصير نفسه مطيعة ومنقادة له، وتبتعد عنه تكاليف العبادة ومشقتها، فيرى في العبادة نشاطه وراحته، ويؤدي العبادة بنشاط"ويري بعض المتصوفة أن الحر هو ما كملت فيه ثمانية أشياء: الأقوال، والأفعال، والمعارف، والأخلاق الحميدة، والترك، والعزلة، والقناعة، والفراغ. فإذا كان لشخص الأربعة الأولى سمي بالغا لا حرا"
وهكذا يمكن القول أن دلالات الحرية في المدونة العربية الإسلامية ليست وجودية ومعرفية ميتافيزيقية بل تدور في أفق القيم الأخلاقية والجمالية والممارسات الصوفية الذاتية. بينما اكتسبت الحرية في الفلسفة معاني ودلالات وجودية تتصل بحياة الكائن الإنساني وتعيينات وجوده في العالم.
إذ تعد الحرية من أهم المباحث الفلسفية
في الفكر الفلسفي القديم والحديث والمعاصر، اذ جرى النظر إليها من خلال بعدين أساسيين هما:
1. الحرية الأنطولوجية: حرية الكائن من حيث هو موجود بين بقية الكائنات الأخرى، هل هذا الوجود مشروط بضرورة قاسية.
وهذا ما ساد الفلسفة اليونانية إذ أن الفكرة التي هيمنت على المزاج الفلسفي اليوناني هي فكرة الاضمحلال وارتبط هذا الشعور او الموقف بفكرة القدر، ولم تكن مأساة اوديب الشهيرة الا نموذجاً صارخاً على هيمنة القدرية الصارمة "ان المويرا" ربة القدر كانت قد حددت لاوديب حياته واحداثها قبل ان يولد ولم تجد حيلة ابواه في التخلص منه وهو رضيع دون ضربة القدر اللازمة. فعلا تعد أسطورة "أوديب" هي خير مثال على قوة الفكر الحتمي القدري، إن "المويرا" ربة القدر كانت قد حددت لأوديب حياته وأحداثها قبل أن يولد ولم تحل محاولة والديه للتخلص منه وهو رضيع حينما وضعوه في صندوق وتركوه في مكان خالٍ، لم تحل هذه المحاولة دون ضربة القدر اللازمة التي سبق وأن تكهنت بها العرافة حينما قالت لوالديه أنه سوف يأتي لكم ولد يقتل أباه ويتزوج أمه، وبالفعل هذا الذي حدث، وأصبح أوديب مذنباً على كره منه، أي لم يكن يمتلك خياراً في ارتكاب ما ارتكبه من ذنوب. وقد جعل عالم التحليل النفسي فرويد من هذه العقد "عقدة أوديب" مبدأ أساسياً يتحكم في سلوك الإنسان حيثما اعتبر الجنس هو السبب الجوهري لكل سلوك الإنسان، وهو بذلك إيمان بالحتمية السيكولوجية.

إن النظر إلى الحرية الإنطولوجية قد جاء محكوماً بثلاث اتجاهات فكرية أساسية:
1. الفكرة التي تقول بوجود حتمية صرامة بالكون: نفي الحرية.
2. لا وجود للحتمية، أي إقرار الصدفة، حرية مطلقة.
3. هناك نظام يخضع للضرورة والصدفة، حرية نسبية.
4.
5. ولعل "برومثيوس" اليوناني سارق النار من الآلهة هو خير شاهد على وجود وعي بالحرية الميتافيزيقية. فهو رمز التمرد والعصيان ضد الحتمية الإلهية من خلال:
* الصراع ضد الموت.
* الطموح الأعمى.
* محبة البشر.
وإذا كنا لا نجد في عالم القدسيات مشكلة الحرية والتمرد فذلك لأننا في الحقيقة لا نجد فيه أي التباس، فلقد أعطيت جميع الأجوبة دفعة واحدة، ولم تعد هناك تساؤلات ولا مجالاً للشك والقلق، بل أن هناك أجوبة وتفسيرات خالدة وإيمان ويقين مطمئن، في عالم كهذا يكون كل كلام حمداً وشكراً، وهذا ما نراه في المسيحية، فالحرية عند القديس "أوغسطين" (هي معرفة الله) مع المسيحية تكتسب فكرة القدرية أصغر معانيها، فكل أفعال الإنسان وأفكاره وأعماله وخواطره ونواياه مقدرة عليه سلفاً وعليه، أي الإنسان، أن يرضى بقدره ومصيره ويتحمل العذاب والألم وكل سعيه هو التكفير عن الخطيئة الأولى.
2. المعنى الثاني للحرية: هو الحرية التاريخية، أي حرية الإنسان باعتباره فرداً في جماعة، طبقة, قبيلة, مجتمع, قومية، أمة، عالم، ما هي شروط هذه الحرية الاجتماعية، حرية العمل والتفكير والإرادة الحرية السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية والأخلاقية.. الخ.
إلى أي مدى يكون الإنسان حراً في مجتمع؟ إن الحرية هنا مشروطة بحرية الآخرين، وهناك فرق بين الحرية الصورية.. حرية التعبير والرأي والفكر، والحرية الحقيقية الفعلية.. حرية العيش الكريم والحصول على العمل وتأمين متطلبات الحياة الضرورية، فما قيمة الحرية حينما لا يجد الإنسان عملاً ولا يستطيع تأمين لقمة عيشه في ظل غياب العدالة الاجتماعية في توزيع الإنتاج وتوفير فرص العيش للجميع. إن غياب الحرية الفعلية هو سدى في ظل عدم وجود ما يمكن الإنسان من التمتع بهذا الحرية، فإما أن يكون الإنسان حراً وقادراً على العيش، وأما أن يظل الحديث عن الحرية حديث خرافة، فلا حرية في ظل غياب العدالة الاجتماعية. ومأزق الحرية
ينجم من عدم كفايتها الذاتية.
لقد بلغ اغتراب الانسان المعاصر حده الاقصى بحيث اصبح الانسان اشبه بالاله المبرمجه, يتحدث ويسلك كما يريد الاخرون, ان الانسان لا يعبر في عالم هيمنه التقنية والمال عن نفسه, ومشاعره وتوقعاته وآماله, بل يعبر عن شيء اخر غير ذاته, وهذا ما اسماه "هربرت ماركيوز" الانسان ذات البعد الواحد" أي الانسان المتمثل الذي يتحول الى كائن مستهلك يخضع للموضة والقيم السائدة دون حس نقدي, وعاطفة حارة. وهذا هو ما اشار اليه اريك فروم عندما تحدث عن مأزق الحرية في عالم الاستلاب المعاصر, حيث اماط اللثام عنه في كتابه "الانسان بين الجوهر والمظهر" 1979م حينما قال: ((ليس الحرية في ان تكون لنا قرارات وخيارت حرة, بل ان المشكلة تكمن في ان هذه القرارات والخيارات التي نتخذها بحريتنا ليست قراراتنا بل هي قرارات موحى بها الينا, لاننا نعيش ممتثلين في عالم مستلب))
واليكم خلاصة مأزق العدالة والحرية كما جاءت في كتاب فيلسوف الحرية ١٩٥٩.
حيث تتحدث عن شاب فرنسي اسمه "برنار" عاطل عن العمل منذ ستة اشهر.. اصبحت ثيابه مهلهلة, فلم يعد يجرؤ على الخروج من منزله, هل اتفق لاحدكم ان بقي اياما طويلة في سريره وهو يشعر بانه لم يبق له وجه انسان في عالم يرفض ذراعكم؟ لقد كان برنار يسمع قرقعة مواعين أمه في الجانب الأخرمن الحاجز وانه يعيش على نفقة امه, وقد خرج مرة اخرى الى السوق ورفضه المشرفون على العمل لانه شديد الضعف فليس بمقدوره ان يكون عاملا منتجا وفي المكتب نظر رئيس الدائرة الى حذائيه المثقوبين وقال ساخرا: "لا عمل" ةفي الغداة الساعة السابعة صباحا تسلل الى مترو "سان لازار" ساعة استئناف العمل, وكان الجميع مرتبطين بساعة الجدار منهمكين في اعمالهم اما هو, فانه حر انه حر يستطيع ان يفكر في فيزياء "انشتاين" او في "الحمل بلا دنس" وفي تلك اللحظة شعر خاصة بانه حر في ان يختار بين صنبور الغاز وسكة حديد المترو!.الساعة السابعة صباحا, بدأ نهار انسان حر لقد دُهس انسان في خط المترو 131, ان برنار انسان حر بين اناس احرار وقد سحقته هذه الحرية !.
ويعلق الباحث على مفهوم الحرية المنطقية قائلا: ان العاطل عن العمل حر لانه غير مرغم على الرضوخ لاوقات العمل.. لكنه عبد لانه خاضع لقسر البؤس.. هو حر في ان يبحث عن العمل يستطيع اصحاب العمل حجبه عنه وهم احرار, هذه هي حرية الشعوب المسماة "حرة".
اجل ان لبرنار حرية في ان يذهب اين يشاء, وان يفكر كما يريد, فان شيئا في الظاهر لم يكن يحد من حريته, لكن ما نفع هذه الحرية المنافقة السدى؟ ما نفع هذه الحرية الصورية السيكولوجية التي لا تشبع ولا تغني من جوع؟ أن الأمر المهم هو الذي يعوزه ليتمتع بها, العمل وتأمين القوت اليومي والطمأنينة على الغد.. انه لا يستطيع سوى اجترار بؤسه وخجله, بدلا من العناية يالخيرات الثقافية التي تقدمها له الدولة الرأسمالية, من حدائق ومتاحف عظيمة وجميلة ومكتبات عامه, وصحف ومجلات ومختلف وسائل المتعة والاستمتاع باوقات الفراغ أن جاهزيته التامة تخفي عدم جاهزية تامة.. وما حريته سوى سراب, وعلى هذا فان "ظاهر الحرية التامة التي تقدمها الليبرالية الاقتصادية واوقات الفراغ غير المحدودة ووسائل الرفاه انما تخفي اقصى العبودية"

‎هذا النص يكثف مشكلة الحرية الصورية التي انتقدها ماركس انذاك, هذه الحرية التي لا تكتسب معناها الا بوجود العدالة الاجتماعية, العدالة في توزيع الخيرات المادية في المجتمع, الخيرات الضرورية الاولية لاستمرار الحياة البيولوجية, كي يستطيع الانسان ان يحس بمعنى الحرية وقيمتها ويستمتع بها في حياته اليومية.
أعطني العداله الاجتماعية وخذ كل الحريات في العالم. فالعدالة تشمل الحرية والتمتع بها. وبهذا المعنى يمكن أن نفهم أن الحرية هي انعدام القسر وتوافر البدائل لتختار الإرادة بينهما أي القدرة على عدم الإجابة على وضع معين إجابة واحدة ووحيدة يمكن التنبؤ بها من الناحية الثيولوجية اللاهوتية أو العلمية السيكولوجية.
ان الانسان هو اولا وقبل كل شيء حرية, حرية تتطلب ان تحقق تتطلب ان يعترف بها, ان يكون لها وجودها الشرعي في وسط هذا العالم ضمن الشروط الاجتماعية والتاريخية والاقتصادية.
ان الشروط التاريخية الاقتصادية ينبغي ان تهيئ الجو الضروري للمزيد من التحرر والخلق والابداع, لا ان تكبل حرية الانسان بقيود سياسية واقتصادية غير انسانية.
ويرى برد يائف ان مأساة الحرية تنبع من الطبيعة المزدوجه لها, حيث يميز بين معنيين مختلفين للحرية؛ الحرية الاصلية اللامعقوله: التي تسبق الخير والشر وتتحكم في الاختيار بينها والحرية التاريخية المعقولة: الحرية في الخير والحق والعدالة.
وهذا يعني في آن واحد ان الحرية نقطة بد, وطريق من جهة وهي غاية وهدف من جهة اخرى).والطبيعة المزدوجة للحرية فيها سر مأساتها, فالحرية في معناها اللامعقول يمكن ان تنقلب بسهولة الى ضدها, حينما تفقد عنانها وتتحول الى فوضى وكوارث "تؤدي الى ظهور مأساة مسار العالم".
والحرية المعقولة: يمكن ان تؤدي الى "الاكراه والقوة في الحق والخير, الاكراه من اجل العدالة والمساواة, كما فعلت الاشتراكية وهذا ما يفضي الى تنظيم استبدادي للحياة" وهذا هو الحل الذي حدده روسو, يجب ان اجبر "الغير" على ان يكون حرا" على هذا النحو يمكن القول ان الحرية تتضمن في داخلها بذور تدميرها ((ان مأساة مسار العالم هي نفسها مأساة للحرية)) – حسب هيجل

في مأزق الحرية في المجتمعات العربية

هل توجد حرية معترف بها في الثقافة العربية الإسلامية؟ وما نوع الحرية التي كانت ؟ وهل الإنسان بوصفه كذلك هو كائن حر وحريته محمية بوصفها حقا طبيعيا مثل مثل حق الحياة والتنفس والتعليم والحلم والتفكير والعمل والعيش الكريم والاعتقاد والتعبير وغيرها من حقوق الإنسان الطبيعية بوصفها محمية في كل زمان ومكان ؟ وما هو القانون الإسلامي الذي كان يحمي الناس وحرياتهم من الظلم والطغيان؟
"عن عكرمة قال: أتى علي – رضي الله عنه – بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس – رضي الله عنهما – فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم، لنهى رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “لا تعذبوا بعذاب الله” ولقتلتهم ، لقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – “من بدل دينه فاقتلوه”
كيف يمكننا الحديث عن أي حرية ممكن في ظل هذه الوقائع المروعة؟
حاول الدكتور محمد عيسى أن يقترب من المأزق ولكن بحذر شديد بحكم تخصصه المؤسسي إذ جاء في تعريفه للحرية ما يلي: " تعرِّف المعاجم العربية "الحريّة" بأنها: حالة يكون عليها الكائن الحيّ الذي لا يخضع لقهر أو قيد أو غلبة ويتصرّف طبقًا لإرادته طبيعته. والطريقة الأزهرية في تقييم التعريفات عموما هي النظر إن كان هذا التعريف "جامعا مانعا". وربما يستعصي عليهم الوصول إلى رأي قاطع في تقييم تعريف "الحرية" من هذا المنظور. فكلمة "الحربة" تعرَّف كذلك بأضدادها مثل "الحربة مقابل الأَسْر، والعبودية/الرِّقّ/الاسْتِرْقاق، أو الحَبْس/السِّجْن". وأن دلالتها لا تكون أكثر دقة إلا إذا اقترنت بمفاهيم أخرى في سياق يربطها بالمعنى المراد مثل:
• حُرِّيَّة الاتّجاه الفكريّ
• حُرِّيَّة التَّعليم أو طلب العلم،
• حُرِّيَّة الكلام: القدرة على التّصرُّف بملء الإرادة والاختيار
• الحُرِّيَة السياسية: نقيض الاستبداد بالسُّلطة
• حُرِّيَّات مدنيَّة: حقوق فرديَّة أساسية منها حريَّة التّعبير، وحريَّة الدين"( ينظر، محمد عيسى الحرية الدينية عند المفكر عبدالجواد ياسين،صالون تفكيير)

كيف يمكن أن يغيّر الناس ما بانفسهم؟ ويغيّرون مجتمعاتهم نحو الأفضل ؟ إذا كانوا لا يمتلكون حرية الاختيار في ثقافة لا تبيح حرية التفكير والتعبير والضمير؟ ففي المجتمعات التي تضيق حدود الحرية؛ حرية العقل والضمير ، يندر أن تجد فيها أشخاصًا طبيعيين يتصرفون ببراءة وعفوية بالاتساق مع سجاياهم الحقيقية بل تسود ثقافة وقيم الظاهر والباطن، وتزدهر قيم التكلّف والتزلف والنفاق والمرآءة والمجاملات والكذب والحقد والخيانة والغدر والخديعة والشتم والغيبة والنميمة والحذر وانعدام الثقة والشك والارتياب وسوء الفهم وسوء الظن والفصام وازدواج الشخصية وسرعة التقلب من حال الى حال ، و الجمع بين المتناقضان دون الشعور بالتناقض ، وصعوبة التنبؤ بسلوك الأفراد وردود أفعالهم. ويمكنك تعداد المزيد من القيم السلبية من واقع حياتك اليومية ومعاشرتك للناس في محيطك الاجتماعي وحينما تسود تلك القيم السلبية حياة مجتمع من المجتمعات يصعب أن تجد أحدا من الأفراد غير متأثر بها بهذا القدر أو ذاك. إذ أن الحرية هي الغاية والهدف الأسمى لكل تنمية ثقافية مستدامة ذلك أن الحرية تعني المقدرة على الفعل والاختيار و التفكير والإبداع . وبدون أن تأمن الدول والمجتمعات بيئة مناسبة للفاعلين الاجتماعيين للمارسة حياتهم الاجتماعية ونشاطاتهم بدون اكراهات وتابوهات فلا يمكن لها أن تتغيير وتنمو وتتطور وتزدهر نحو الأفضل بل ستظل تعيد إنتاج نفسها جيل بعد جيل.
الحرية هي الشرط الجوهري للتغيير والنمو والتنمية وكما يقول كروبر “إن حاجة العلم إلى الحرية، مثل حاجة النباتات التي تنمو في البيوت الزجاجية إلى الشمس والأكسجين، أما إذا طليت النوافذ بالسواد كما في الحروب، فلا تنمو إلا الأعشاب الطفيلية الضارة، والإبداع العلمي يتيبس في البيئات الاستبدادية والتسلطية”

لقد مكنت تجربة حياة الدكتور محمد عيسى في الولايات المتحدة الأميركية من رؤية مأزق الحرية في الإسلام بسعة أفق ونفاد بصيرة إذ كتب في ختام ورقته ما يلي" وإذا كان لي من أمنية أود أن تتحقق هي أن أرى دراسات مقارنة للمجتمعات الإسلامية المعاصرة، خاصة المجتمعات التي تقدم نفسها بأنها إسلامية الدولة دينية التوجه، سواء كانت عربية أم غير عربية ومواقفها من مشكلات الدين والتدين وتكوين الدولة الحديثة ومواجهة مشاكل العصر في ظل ما في الإسلام كدين وفي تدين المسلمين من تحديات مفاهيم الحرية على اختلاف أنواعها، خاصة حرية الرأي، حرية الاعتقاد، الحرية الإنسانية" ( ينظر، محمد عيسى الحرية الدينية عند المفكر عبدالجواد ياسين،صالون تفكيير)