آخر تحديث :الإثنين-30 سبتمبر 2024-01:05ص

ثورية 26 سبتمبر لا انقلابيتها (22 ــ 30)

الإثنين - 30 سبتمبر 2024 - الساعة 01:05 ص

د. ثابت الأحمدي
بقلم: د. ثابت الأحمدي
- ارشيف الكاتب


‏لافتات سبتمبرية

يحاولُ البعض التشكيك بثورية 26 سبتمبر 1962م، مسميًا إياها "انقلاب" من أجل سلبها شرعيتها الشعبية، وهو تحاذقٌ مكشوفٌ، ينم عن جهل مركب في عدم التفريق بين الثورة والانقلاب. مع أن هؤلاء قلة قليلة، والأصل عدم الالتفات إلى ما يقولون، لمعرفتنا أساسًا بمواقفهم المسبقة. والحق أن هؤلاء وأتباعهم لم يؤمنوا بشرعية أبي بكر الصديق ولا عمر بن الخطاب، ولا بشرعية خلفاء بني أمية ولا العباس من بعدهم، ولم يعترفوا أساسا بشرعية الأنظمة القائمة اليوم جميعها، سواء كانت ملكية أم جمهورية، وبالتالي فمن الطبيعي ألا يؤمنوا بشرعية ودستورية 26 سبتمبر. ولو اجتمع الثقلان لإقناعهم بشرعية هذه الأنظمة، قديمِها وحديثِها لما اقتنعوا، لكونهم لا يؤمنون إلا بما تقرره نظريتهم الكهنوتية، "نظرية البطنين"..!

وكان الأصل أن نعرضَ عن هؤلاء، ولا نجادلهم، لمعرفتنا بمواقفهم المسبقة، وبنفسيتهم المتأزمة، ولنتركهم لأحقادهم وأضغانهم ولجهلهم بفلسفة الدول وشرعية الشعوب والأمم؛ لكن لما كان هناك بعض العناصر من المُغَرّر بهم، من محدودي المعرفة والثقافة وجب الوقوف عند هذه الجزئية، وتوضيح حقيقتها.

وقبل الدخول في تفاصيل الحديث عن ثورية 26 سبتمبر، يستوجب الأمر الوقوف عند التعريف الإجرائي لمعنى الانقلاب، ولمعنى الثورة في القواميس السياسية المعاصرة، ومن ثم العودة إلى الحديث عن ثورية سبتمبر.

في الموسوعة الميسرة للمصطلحات السياسية
الانقلاب: Military coup
هو استيلاء العسكريين على السلطة الشرعية، بواسطة القوات المسلحة، وتغيير نظام الحكم بالقوة، دون الرجوع للناخبين. والسلطة هنا هي الحكومة؛ أما ما يطيحُ بالدولة فيُسمى ثورة".

الثورة: Revolution
مصطلح يُقصد به التحول الجذري في التكوينات الاجتماعية والسياسية والنظام العام، وفي العلاقات والخبرات المتبادلة بين الناس. وقد يُقصد به التغير الدائري الذي يكشف عن أنماطٍ جديدة. والثورة مصطلح يقصد به الآن مقاومة نظام الملكية ذاته، وليس مجرد التمرد والعصيان. وهناك الثورة الجماهيرية، والثورة الشعبية، والثورة الطبقية.
مرة أخرى قبل الحديث عن ثورية السادس والعشرين من سبتمبر، نتساءل أولا:
ما نمط الحكم الذي كان سائدا قبل 26 سبتمبر؟
هل هو ملكي؟
هل هو جمهوري؟
هل هو أميري/ سلطاني؟
هل ديكتاتوري؟
هل هو غير ذلك؟
الواقع هو غير ذلك كله، ولا علاقة له بما ذُكر البتة؛ بل لا يصح لنا إضافة مصطلح "نظام" إلى حكم الإمامة مطلقًا إلا من قبيل المجاز فقط؛ لأنه لا علاقة له بالنظام، ولا التنظيمية، ولا الأنظمة. إنه حكم طغياني، موغل في طغيانيته وكهنوتيته. هذا كل ما في الأمر.

للأنظمة الجمهورية دساتيرها وقوانينيها التي ترى في الرئيس مجرد موظف في خدمة الشعب، ولا يستطيع التصرف أو اتخاذ أي قرار إلا بموجب اللوائح والقوانين. ونموذجه الأول في أوروبا فرنسا، وأيضا الولايات المتحدة الأمريكية والصين وغيرها.
وللأنظمة الملكية كذلك مرجعياتها، سواء الدستورية، كبريطانيا والأردن، أو مرجعياتها اللائحية التي تستند إليها، وتنظم شؤون الدولة، ولا يستطيع أي مسؤول تجاوزها، وعادة ما تخضع هذه الأنظمة الملكية لشعوبها وتتعامل بدلال ورقة، موفرة لها الرفاه الاجتماعي والعيش الكريم، بحيث يعيش المواطن كما يعيش الملك أو قريبا منه. ويعتبر الملك فيها مرجعية الدولة، لكونه يحظى باحترام كبير لدى الشعب. "المملكة العربية السعودية" أنموذجا.
وللأنظمة الأميرية والسلطانية أنظمتها القريبة من هذين النظامين.

كذلك الشأن مع النظام الديكتاتوري الصارم الذي يتعامل مع المخالفين للنظام بقسوة مفرطة، ويقمع الحريات العامة؛ إذ يجن جنون المستبد إذا ما تم اخترام النظام أو الاعتداء على القانون، وكل ذلك من أجل بناء الدولة الجامعة، هتلر أنموذجًا.

إنَّ 26 سبتمبر ثورة شعبية، شاركت فيها كل جماهير الشعب اليمني، بمختلف تكويناتهم، الاجتماعية والثقافية والعسكرية والسياسية. سبقتها عدةُ محاولاتٍ نضالية، للتخلص من حكم الكهنوت الإمامي، ما بين ثورة وانقلاب وحركة وانتفاضة.

ثورة 26 سبتمبر أطاحت بما يسمى دولة الإمامة، إذا ما تعاطينا مع حرفية المصطلح السياسي المذكور آنفًا، رافقه تحولٌ جذريٌ شاملٌ في مختلفِ مناحي الحياة، وفي التعاملات والثقافة والاتصال الاجتماعي والسياسي، وكأنَّ اليمنيين خُلقوا خلقًا جديدًا بعد ذلك اليوم الذي جللوه وعززوه واحتفلوا به لما يزيد عن ستين عاما عامًا، ولا يزالون.

ولرسوخه العميق في الوسط الاجتماعي والسياسي لم تستطع جماعة الحوثي إلغاء الاحتفال بهذا اليوم، أو مضايقة من يحتفل به، على الرغم مما يسببه لها من وجع سياسي كبير، لأنها تعرف أنها ستفتح لنفسها جبهة في كل بيت، بل إن بعض رموزها يتقرب إلى المزاج الشعبي بالتظاهر بحب يوم 26 سبتمبر؛ "لأنها تدفقت من كل عناصر الواقع، تعبيرًا عنه، واستجابة لتغييره؛ لهذا يصعب على أي فريق أن يتجاوز دائرة ثورة سبتمبر، وإنما ينطلق منها حتى إلى ضدها، وذلك لأنها حقيقة تناسجت منها حقائق، تلو حقائق، كما يقول البردوني.
قد يقول قائل: كان العسكرُ على رأس الحدث..

نقول: نعم، كانوا على قمة الحدث، كرأسِ حربة، تقدموا العملية، مسنودين برموز النخبة اليمنية الثقافية والسياسية والاجتماعية، وبرجالات القبائل المستنيرين، والعامة من الناس، كما مثّل التجارُ أيضًا عصب هذه العملية من خلال تبرعاتهم المالية التي ابتدأت من مطلع أربعينيات القرن الماضي، وخاصة تجار اليمن في الحبشة، وكما يقول البردوني عن 26 سبتمبر: "فالثورة هي إرادة الشعب، نفذها بعض أبنائه، وتعسكر تحت رايتها كل أبنائه".

ثانيا: ألم تكن ثورة يوليو المصرية عسكرية خالصة؟ لقد كانت ثورة "ضُباطية" بالمقام الأول، أكثر بكثير من "ضباطية" ثورة 26 سبتمبر، ساندها الشعب بعد ذلك، فاكتسبت الصبغة الثورية. مثل يوليو المصرية، ثورة الفاتح من سبتمبر الليبية، سنة 1969م بقيادة الملازم أول معمر القذافي وزملائه الضباط، ضد الملك محمد بن إدريس السنوسي، ومثل هذه أيضا ثورة يوليو/ تموز العراقية سنة 1958م ضد العرش الهاشمي هناك، بقيادة العقيد عبدالكريم قاسم والعقيد عبدالسلام عارف.

ثالثا: لكل ثورة من ثورات العالم القديمة والحديثة طلائعها النوعية والفئوية التي تتصدر الحدث في البداية، فتتفجر بعدها جموعُ الشعب سيولا هادرة من كل منحدر، ملتفة حولها ومساندة إياها.

رابعا: ألم يكن الجندُ أول المنضمين إلى الثورة الفرنسية، وهي الثورة التي لُقبت بأم الثورات؟! ليس ذلك فحسب؛ بل لقد برز دور الجيش بصورة ملفتة عقب قيام الثورة، وبعد ظهور المؤامرات عليها من قبل الامبراطوريات الأوربية القائمة آنذاك، وخاصة إنجلترا وبروسيا والنمسا، وجميعها أرادت محو الجمهورية الوليدة والقضاء عليها لولا أنَّ الجيش استبسلَ في ذلك، وقدم خلال العشر السنوات اللاحقة للثورة ما يقارب 700 ألف قتيل، من الشباب الذين دافعوا عن جمهوريتهم وثبتوها. وبهذا أصحبت الثورة عند الفرنسيين عقيدة كبرى، متشبعين بمبادئها الثورية التي آمنوا بها، وفي هذا قال جوستاف لوبون: إنّ حماسةَ مؤسسي الثورة الفرنسية تعدلُ حماسة ناشري دين محمد. وتقريبا كانت هذه هي الحال مع ثورة 26 سبتمبر التي افتقدت إلى "روبسبير" فقط.

للثورات منطقها الخاص، ولها سياستها الجارفة، لأنها سيول من البشر تجرف رُكاماتِ الطغيان المتكوم، كما فعلت الثورةُ الفرنسية التي رفعت شعار: "اشنقوا آخرَ ملكٍ بأمعاءِ آخرِ قسّيس"، فكانوا يتحسسون الأيادي الناعمة لقطعها؛ لأنها دليلُ ثراءٍ سابق. وكما فعلت الثورة البلشفية في روسيا ضد القياصرة، خاصة في العهد الستاليني، وكان سر نجاحهما يكمن في القضاء على أعدائهما. وما لم تكن الثورات حاسمة وحادة تجاه خصومها كانت إلى الفشل أقرب.

كانت ثورة 26 سبتمبر أعدل ثورة إنسانية، من حيث مبرراتها التي قامت على أساسها، ومن حيث تعاملها مع أعدائها. وكل من تمت محاكمتهم وإعدامهم بعد الثورة 27 شخصا فقط، أغلب هؤلاء كانوا متورطين في عمليات قتل وانتهاكات جسيمة، سواء بحق الثوار، أم بحق غيرهم من قبل.

لقد تسامحت ثورة 26 سبتمبر ــ حد السذاجة ــ مع أعدائها التاريخيين، رغم الجنايات التاريخية التي اقترفها هؤلاء الطغاة بحق الشعب. ولهذا كانت الموجة الارتدادية التي حدثت في 21 سبتمبر 2014م، والتي لم تكن إلا النتيجة النهائية والإعلان الأخير لما اعتمل تحت السطح من المكائد والمؤامرات داخل أجهزة الصف الجمهوري الذي نخروا فيه من وقت مبكر، متظاهرين بولائهم للجمهورية وللدولة، في الوقت الذي لم تتنبه لهم أجهزة الدولة الرسمية، والوطنيون الشرفاء؛ بل ربما حملوهم على حسن ظن؛ لاسيما وأنّ هذه الجماعة العنصرية كانت أول المستفيدين من خيراتِ الجمهورية وثمارها، لأنَّ المناضلين الأحرار لم يتخذوا منهم موقفا حديا وصارمًا من وقت مبكر، كما يحصل مع بقية الثورات في كل البلدان.
ويرسم لنا البردوني هنا خارطة سياسية عن أبرز التنظيمات السياسية القائمة حينها، والتي تماهت مع الثورة، ومع الجمهورية، إذ يذكر أن هذه التنظيمات قدمت تأييدها للثورة، موقعة بأسماء زعمائها، فتبين أن في العسكريين الثوار أكثر من انتماء إلى أكثر من تنظيم، فتبدى عبدالله جزيلان ممثلا للاتحاد الشعبي الثوري، كما تبدى صالح الأشول وعلي قاسم المؤيد وأحمد الرحومي ممثلين للبعث، وظهر عبدالسلام صبرة ومحمد الفسيل وحسن العمري وعلي محمد الأحمدي كامتدادٍ للاتحاد اليمني بالقاهرة، وعبدالله عبدالسلام صبرة ومحمد الأكوع، مؤذن الجامع الكبير ومحمد عبدالولي من الجبهة الشعبية. وظلت الأنظمة بممثليها في القيادة العسكرية متعاونة وغير متصارعة مع أشباهها ونقائضها من التنظيمات، وذلك لأن الثورة خرجت من إسقاط الملكية حُكمًا بصنعاء، إلى قتال الملكيين في أكثر من منطقة..

وهاشميون.. أيضا
ما تستوجبُه الوقفة هنا ــ والحق يُقال ــ أنَّ ثورة 26 سبتمبر قد ضمّت بين صفوفها من الهاشميين عناصرَ ثورية وطنية، لعبت أدوارًا نضالية رائدة، بحقٍ وحقيقة، ولا يستطيع أحدٌ نكران جهودها، أو جحود أدوارها، مهما جنى بنو عمومتهم على الشعب. كانوا صادقين في معارضتهم السياسية، وكانوا أنقياء في مواقفهم الثورية، وبعضهم سالَ دمه، فداءً لعدالة القضية وشرف الموقف. وكان هؤلاء على قدرٍ كبيرٍ من الاطمئنان لعدالة الثورة، التي لم تستهدف عرقًا بعينه، أو جماعة بذاتها، وإن كان هناك خونة ومتآمرون عليها، سواء من الهاشميين أم من غيرهم. نسجلُ هذه الشهادة احترامًا لتلك الدماء التي سالت، واعترافًا بالحقيقة التي لا مناص من الاعتراف بها.
د. ثابت الأحمدي