آخر تحديث :الجمعة-04 أكتوبر 2024-03:14ص

علي عبدالمغني.. السّعادة في الحرية (25 ــ 30)

الجمعة - 04 أكتوبر 2024 - الساعة 12:43 ص

د. ثابت الأحمدي
بقلم: د. ثابت الأحمدي
- ارشيف الكاتب


‏لافتات سبتمبرية

لبعضِ الشّخصيّات تميزٌ استثنائيٌّ مبدعٌ وخلاقٌ.. تميزٌ من طرازٍ فريدٍ منذ نعومة أظفارهم، هم هدية السماء للأرض، وهم ربابنة الأمة الأكفاء الذين يعصمونها من طوفان الغرق، ويحمونها من هاويات السقوط، ويمثلون إضافة نوعية على مسرح الحياة العامة، وعلى كافة المستويات. شخصيات استثنائية صنعت أحداثا، وصنعتها أحداث، وفقا للحتمية الجدلية المعروفة، ولهذا تخلدوا في ذاكرةِ الشعوبِ رموزًا مقدسة عند البعض أو شبه مقدسة، إلى حد أنّ المساسَ بها يُعدُّ مساسًا بالأمة وروحها الجمعيّة: غاندي في الهند، ماو تسي تونج في الصين، شارل ديجول في فرنسا، بسمارك في ألمانيا، جورج واشنطن في أمريكا، أتاتورك في تركيا، والملك عبدالعزيز آل سعود في المملكة العربية السعودية، وغيرهم الكثير من الرموز والقادة الذين أضافوا إلى تاريخ أمتهم ما أضافوا.

وفي اليمنِ رموزٌ وأبطالٌ كثر، من بينهم البطل الثائر الشهيد علي عبدالمغني، القادم من ظفار إب، ظفار التاريخ والحضارة والمجد، إب الخضراء التي اكتسبَ منها اخضرارَ قلبه، وصفاء عقله، وشعلة روحه المتقدة نضالا وكفاحًا حتى الاستشهاد في سبيلِ قضيةِ أمته العاجلة التي استبد بها طغاة الإمامة ردحًا من الزمن، فهبّ ابن حِمْيَر ونجل سبأ بطلا ثائرًا يزرع قبلاتِ النصر على كل رابيةٍ وسفح حتى انتصرت ثورتُه المجيدة، وقد عمّدها بدمائها الزكية هو ورفاقُه الأبطال.

الشهيد علي محمد حسين عبدالمغني: 1935ــ أكتوبر 1962م، المولود في قرية "المسقاة" مديرية السدة، محافظة إب. في طفولته الأولى انفصلت أمه عن أبيه، وبعد أربع سنواتٍ على ميلاده توفي أبوه، فعاشَ حياة اليُتم إلى جانب طبيعةِ حياة الإمامة التعيسة نفسها.

التحقَ صغيرًا بكتّاب قرية "ذي نيعان" في نفسِ المنطقة، وفيه قرأ القرآن الكريم، وتخرج منه في العام 1942م، وهو في السابعة من العمر، وحظي بحفلةِ تخرج باذخةٍ على نفقةِ عمه، زوج أمه الحاج أحمد علي ضيف الله، وهو من أبناء ناحية النادرة، المجاورة لها، وقد صادف هذا اليوم زيارة عائلية من قبل العلامة حسين محمد الكبسي، وزير خارجية الإمام يحيى الذي كان له الدور الأبرز في تعليم الكثير من شبابِ السّدة والنادرة، وإدخالهم مدرسة الأيتام، وكان يتمتع بإصرارٍ عجيب ومتابعة حثيثة لأي فكرة يؤمن بها، وينقم على بيت حميد الدين لجورهم وطغيانهم؛ فشارك في الاحتفاء بهذا الطفل، كما كان له شرف التعاون معه في إلحاقه بمدرسةِ الأيتام بصنعاء لاحقا، مقدمًا له من الرعاية ما تيسّر.

شاء القدرُ بعد ذلك بسنواتٍ قليلةٍ أن يلتحقَ هذا الشاب بمدرسةِ الأيتامِ في مدينة صنعاء، في العام 1944م، وهو في سنِّ التاسعة، ولنبوغه المبكر وتقدم مستواه على بقيةِ أقرانه فقد قررت لجنة القبول إلحاقه بالصف الرابع مباشرة، متجاوزة الصُّفوف الثلاثة الأولى، فنبغ فيها يافعًا، كما نبغ في الكُـتَّاب طفلا، فكان من أبرز طلابها، حيث شارك زملاءه أنشطة طلابية مدرسية، حتى كان من أبرزِ طلبةِ المدرسة، يُشار إليه بالبنان.

في صنعاء عاصمة الحضارة والتاريخ رأى الثالثوثَ الإمامي الإرهابي المتوحش: الفقر والجهل والمرض رأيَ العين، وقد عايشه قبل ذلك طفلا في مسقط رأسه. رأى السُّجونَ والسَّجانين، رأى القيودَ تدمي سُوقَ المسجونين وأقدامهم، في الوقتِ الذي تنهشُ أجسادَهم النحيلةَ أمراضُ القرون الأولى، فاستفزه هذا الطغيان المدمّر، وأيُّ إنسانٍ حُرٍ وكريم وشهم لا تستفزه عصا الإمامة الغليظة ووحشيتها المتلمّظة بالدم؟! في صنعاء رأى ظلم الإمامة وكهنوتها الأرعن من مصدره، فنادى بالتغيير ولا يزال طالبًا في المدرسةِ التي احتضنت بدورها الكثيرَ من الطلبةِ الأحرار، وكانوا من رجالاتِ سبتمبر، ومن رموز العهدِ الجمهوري الجديد.

في العام 1946م، وخلالَ تردده بين الحين والحين على منزل العلامة حسين الكبسي في حي بستان السلطان بصنعاء تعرف فيه على صديقه الضابط العراقي الرئيس جمال جميل، أحد رموز ثورة 48م، ويُقال أن الشهيد جمال جميل سأله: فيم تكون السعادة؟ فرد: "السعادةُ تكونُ في الحرية"، فضمّه جمال جميل إلى صدره وقال وهو ينظر إليه بتأمل كبير: "لو فشلت ثورتُنا ــ لا سمح الله ــ فهذا الشبلُ هو الذي سيسحقُهم ويكمل ما بدأناه"، وهو ما كان فعلا. ثم أعطاه مبلغًا مجزيًا من المال، ناصحًا إياه بالاهتمام بالتعليم، فأودعَ المبلغَ لدى أحد أصدقائه، وكان ينفقُ على نفسه منه، كما كان يُساعد منه زملاءه المحتاجين أيضا. كان هذا وهو في سن الحادية عشرة تقريبا.

في العام 1948م، وبينما هو طالبٌ في المدرسة، قامت ثورة 48م الدستورية، والتي آلت إلى الإخفاق، ورأى رأيَ العين، وعن قرب ما اجترحته الإمامة بحق نخبة البلاد، وما جناه سيف الوشاح على خيرةِ رجالات اليمن، فازداد يقينًا بأهمية التغيير، وبأهميّة الحرية للشعب اليمني الذي رضخ طويلا لنير الإمامة.
أكملَ الابتدائية، فالمتوسطة، فالثانوية التي تخرج منها في العام 1956م، حائزًا على المرتبة الأولى، وتم تكريمُه من قبل وزارة المعارف ومنحُه جائزة التفوق؛ ليعمل بعد ذلك سكرتيرًا في هذه الوزارة. وفي هذه السنة، وتحديدًا عقب العدوان الثلاثي على مصر أواخر هذا العام نظم مظاهرة طلابية للتنديد بالعدوان من قبل: إسرائيل وأمريكا وبريطانيا.

التحقَ بالكليّة الحربيّة في العام 1958م، والتي كانت قد فُتحت في العام الذي قبله، والتحق بها هذا الشاب، المتوهج نشاطا وثقافة وحيوية، وفي الكلية انفتح له أفقٌ جديد من آفاق النشاط السياسي والنضالي، مع الاهتمام بتميزه العلمي، حتى تخرج منها في العام 1960م، حائزًا على الترتيبِ الأول فيها أيضا، ويُقال أن الإمام أحمد أهداه قلمه الخاص في هذا الاحتفال، وكان هذا القلم هو الذي خط أدبيات الأحرار، وأدبيات الثورة والجمهوريّة بعد ذلك.

وخلال هذه السنوات كانت مدرسة الأيتام في صنعاء إلى جانب الكلية الحربيّة هما العُشَّ الأول للتيارات السياسيّة الوافدة من خلف الحدود، من البعثيين واليساريين والإخوان، وكانتا الحاضنتين السياسيتين للرموز الثورية فيما بعد، وفيهما نشأت "الأكواخ" الأولى للنضال، بحسب تسمية علي عبدالمغني نفسه الذي كان القائد العسكري في حزب البعث.

بعد العام 1960م انتقلَ الثائرُ البطل علي عبدالمغني إلى مدرسةِ الأسلحة، ومعه العديدُ من رفاقه الذين زاملوه في مدرسةِ الأيتام وفي الكلية الحربيّة، ومن أبرزهم: رفيقه في النضال الشهيد محمد مطهر زيد، وحمود بيدر، وعبدالله عبدالسلام صبرة، وناجي الأشول، وأحمد الرحومي، وغيرهم، وتخرج منها بعد عام واحد فقط، أي في العام 1961م.
ونتيجة لظروفه الدراسة، وظروفه الخاصة، فلم يتمكن من زيارة والدته وأهله في قريته بالسّدة إلا بعد تخرجه من الكليّةِ؛ حيث زارها مع بعضِ زملائه، أكثرَ من مرةٍ فيما بين العامين: 60 و 61م، كما زارَ عددًا من القرى المجاورة، متصلا بالناس، وخاصّة الشباب منهم، ومستطلعًا طبيعة الأوضاع ومدى تهيُّئها للثورة.

وما أن ألقت سنة 1961م رداءَها وغادرت بُرجها حتى كان تنظيم الضباط الأحرار قد تأسسَ في الشهر الأخير منها، وكان عبدالمغني من أبرز مؤسسية، ومن أبرز ناشطيه؛ ليكثف من نشاطاته بعد ذلك خلالَ الشهور التي تلته، وليؤسسَ فرع التنظيم في تعز.
كان من المقرر أن تقوم الثورة في 23 يوليو 62م، تأسيًا بثورة يوليو المصرية، وفقا لإشارة المناضل عبدالغني مطهر، ولكن عملية الإعداد لها لم تكتمل، فتم تأجيلها إلى وقت لاحق، وقد سافرَ عبدالمغني إلى مصر في شهر يوليو 62م، على ظهر الباخرة اليمنية "مارب"، عبر ميناء المخا، ووصل إلى ميناء شرم الشيخ، والتقى هناك الزعيم جمال عبدالناصر على متن باخرة مصرية، حيث حصل على وعودٍ من الزعيم جمال عبد الناصر بدعم ونصرة الثورة اليمنيّة. وعقب عودته كان ممن أشعلَ المظاهراتِ الطلابيّة في صنعاء وتعز ضد الطاغية الإمام أحمد.

على أيّة حال.. ما أن أشرقت شمس السادس والعشرين من سبتمبر العظيم 1962م حتى كان علي عبدالمغني على رأسِ تنظيم الضباط الأحرار، شعلة متوهجة، وشرارة مضيئة، يقود رفاقه الأحرار لصناعة أعظمِ ثورةٍ في التاريخ.
حقًا.. لقد كان علي عبدالمغني دينامو تنظيم الضباط الأحرار، ورأس حربته، وكان القائد العسكري الذي ارتبط بكل التنظيمات المدنية الأخرى من المثقفين والمشايخ والتجار، إضافة إلى تنسيقاته الخارجية مع مصر عبدالناصر يومها.

لقد كان علي عبدالمغني القائد المتفاني والقدوة في عمله، منذ المراحل الأولى للكفاح والنضال، وكان أسبقَ رفاقه إلى الفعل قبل القول، ولذا حين دعاه واجبُ الوطن للدفاع عن ثورته في مارب تحرك لتوه مع بعض رفاقه الأحرار إلى صرواح، وهناك في صرواح كانت رصاصة الغدر الإمامية تنتظره لتخترق قلبه الطهور، في يوم من أيامِ اليمنِ السوداء، بفعل الإمامة الظلماء، يوم الثامن من أكتوبر 62م، أي بعد قيام الثورة بأقلّ من نصفِ شهر..!

نزفَ دمه الطهور على جسده، ومع آخرِ قطرةٍ منه لفظ أنفاسه الحراء، فبكت جبالُ اليمن وسهولها وصحراؤها هذه القامة النضاليّة السامقة، كما بكته مصر العروبة، وبحسب المؤرخ والكاتب السياسي محمد حسنين هيكل: إن الرئيس جمال عبد الناصر لم يعرف البكاء في حياته إلا مرتين: مرة عند انفصال سوريا ومصر، والأخرى عند علمه بخبر استشهاد علي عبد المغني.

لقد رحل عبدالمغني جسدًا؛ لكن روحه باقية في ذاكرةِ كل يمني، قتلته الإمامة جسدًا فقط، فيما روحه شعلة متوقدة في وجدان كل مناضل حر، كما هو الشأن مع رفيقه أبي الأحرار الشهيد محمد محمود الزبيري الذي اهتزت روحُه لاستشهاد رفيقه، وحزنَ عليه حتى تساقطت الدموع من عينيه، ولم يلبث بعده كثيرا، حتى نالته يد الغدر والخيانة الإمامية في برط، في أبريل 1965م.

رحل البطلان: عبدالمغني والزبيري وفي قلبِ كل منهما اليمن، رحلا وفي دمهما اليمن. رحلا وهما يحملان همَّ كل يمني، رحلا وهما يؤسسان لنا وطنا خاليا من الكهنوت الإمامي البغيض، رحلا وهما يبحثان عن مستقبلٍ لنا.
حقا.. لقد كان دمُ عبدالمغني زيتَ شعلة النور التي أضاءت طريقنا، ومصباح طريق الجمهورية التي أنارت عقولنا، ومداد أقلامنا التي تهجينا أبجديات المعرفة بها.
المجد والخلود للقائد السبتمبري الأول، البقاء للشعب، النصر للجمهورية، والخزي والعار لكهنوت الإمامة البغيض، وعاشت اليمنُ حرة أبيّة شامخة.
د. ثابت الأحمدي