آخر تحديث :الأربعاء-16 أكتوبر 2024-12:47م

تجديد الخطاب الديني ليس ترفا

الأربعاء - 16 أكتوبر 2024 - الساعة 12:58 ص

هاني سالم مسهور
بقلم: هاني سالم مسهور
- ارشيف الكاتب


من جهيمان العتيبي إلى أسامة بن لادن وصولا إلى يحيى السنوار، تتجلى حقيقة واحدة: هؤلاء ضحايا خلل فكري عميق. إن محاسبة السنوار وخالد مشعل ورفاقهما المتورطين في أحداث 7 أكتوبر 2023 أمر حتمي، وذلك عبر محاكمة شفافة تسلط الضوء على ضرورة إصلاح الخطاب الديني. هؤلاء الأفراد، إلى جانب حسن نصرالله وأبو بكر البغدادي وغيرهم من منتسبي حركات الإسلام السياسي، ليسوا سوى ثمرة لتراكمات فكرية مستمدة من كتب التراث العربي والإسلامي. هذا التراث غذى اعتقادهم بامتلاكهم مفاتيح خلاص الأمة، حتى لو كان ثمن ذلك جرها من كارثة إلى أخرى. إن فهم هذه الجذور وتفكيكها هو السبيل الوحيد لمنع ظهور المزيد من هؤلاء المتطرفين، وحماية المجتمعات من تبعات أفكارهم الهدامة.


لعلّ هذه اللحظة تُمثّل فرصة سانحة لمواجهة حاسمة مع رافضي تجديد الخطاب الديني، فهذه ضرورة مُلِحّة لا تحتمل التأجيل. فبعد وصول موجة الإسلام السياسي إلى أوجها مع سقوط شاه إيران عام 1979 وسيطرة الخميني على الحكم، بالتزامن مع موجة “الصحوة” في المذهب السني، خضع العالم لفكرة راسخة متجذرة في كتب التراث. يسعى كل من التيار السني والتيار الشيعي إلى إقامة دولة أممية، انطلاقا من الدعوة إلى استعادة الخلافة الإسلامية وصولا إلى إقامة دولة الولي الفقيه، غارقين في بحر من الأيديولوجيات التي تتجاوز الحدود الوطنية. فكما صدّرت إيران ثورتها، سعت جماعات أخرى إلى تصدير فكرة إعادة الخلافة. وقد أسفر استحضار الماضي في بيئات ملتهبة، في ظل صراع دولي بين كتلتين، اشتراكية ورأسمالية، عن مفاهيم متطرفة في العالم الإسلامي.


علينا أن نقرّ بأن كل المعالجات التي جاءت بعد هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001 على الولايات المتحدة لم تصل إلى النتائج المطلوبة. “الربيع العربي” وظهور داعش ثم الذئاب المنفردة والاستقطاب المذهبي الشيعي – السني وحتى هجوم 7 أكتوبر كلها حوادث تؤكد حقيقة أن المعالجات فشلت. والطبيعي أن تفشل معالجات قائمة على التفاف مكشوف لمواجهة الإشكالية العميقة الموجودة في كتب التراث. أظهرت التجربة أن لدى جماعات الإسلام السياسي قوة هائلة من القدرة على التكيف والتجدد. فكلما تم القضاء على تنظيم، ظهر آخر أكثر تطرفا وعنفا. هذه الدورة المستمرة من العنف والتطرف تؤكد أن المشكلة أعمق بكثير من مجرد وجود أفراد متطرفين أو تنظيمات إرهابية.


إن جذور المشكلة تكمن في التفسيرات المتشددة للنصوص الدينية والتاريخية، والتي يتم تداولها وتدريسها في العديد من المؤسسات التعليمية والدينية في العالم العربي والإسلامي. هذه التفسيرات، التي غالبا ما تكون خارج سياقها التاريخي، تغذي فكرة “الأمة المختارة” و”الحق المطلق”، مما يؤدي إلى رفض الآخر وتبرير العنف ضده. لذا، فإن المحاكمة العلنية للسنوار وأمثاله يجب أن تكون أكثر من مجرد إجراء قانوني. يجب أن تكون منصة لفتح نقاش مجتمعي واسع حول أصول الفكر المتطرف وكيفية مواجهته. هذه المحاكمة يمكن أن تكون فرصة لتسليط الضوء على كيفية استغلال النصوص الدينية لتبرير العنف، وكيف أن هذا الاستغلال يتعارض مع جوهر الدين الحقيقي الذي يدعو إلى السلام والتسامح.


من الضروري أن يتم خلال هذه المحاكمة استدعاء خبراء في الفكر الإسلامي والتاريخ لتفنيد الأفكار المتطرفة وتقديم تفسيرات بديلة للنصوص التي يتم استغلالها. هذا من شأنه أن يساعد في تقويض الأساس الفكري الذي تعتمد عليه الجماعات المتطرفة في تجنيد أتباعها. كما يجب أن تكون هذه المحاكمة فرصة لإعادة النظر في المناهج التعليمية في العالم العربي والإسلامي. فالكثير من هذه المناهج لا تزال تحتوي على أفكار تعزز التعصب ورفض الآخر. يجب أن يتم تطوير مناهج جديدة تركز على قيم التسامح والتعايش وقبول الاختلاف.


إن تجديد الخطاب الديني ليس ترفا فكريا، بل هو ضرورة ملحة لحماية مجتمعاتنا من المزيد من العنف والتطرف. هذا التجديد يجب أن يشمل إعادة قراءة النصوص الدينية في سياقها التاريخي، وفهم مقاصد الشريعة بشكل أعمق، والتركيز على القيم الإنسانية العالمية التي تدعو إليها الأديان. من المهم أيضا أن نفهم أن التطرف لا ينشأ في فراغ. فالظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية تلعب دورا كبيرا في تهيئة البيئة المناسبة لنمو الأفكار المتطرفة. لذا، فإن مواجهة التطرف تتطلب أيضا معالجة هذه الظروف، من خلال تحسين الأوضاع المعيشية للناس، وتوفير فرص التعليم والعمل، وإتاحة مساحات للتعبير السياسي السلمي.


محاكمة السنوار وأمثاله يجب أن تكون بداية لعملية إصلاح شاملة في العالم العربي والإسلامي. هذه العملية يجب أن تشمل إصلاح المؤسسات الدينية، وتطوير المناهج التعليمية، وتعزيز قيم المواطنة والديمقراطية. كما يجب أن تشمل فتح حوار مجتمعي واسع حول دور الدين في الحياة العامة، وكيفية التوفيق بين الهوية الدينية والمواطنة في العصر الحديث. إن مواجهة التطرف والعنف تتطلب جهدا جماعيا من كل أطياف المجتمع. يجب على المفكرين والعلماء والسياسيين والتربويين العمل معا لتطوير خطاب ديني وثقافي جديد يتناسب مع متطلبات العصر ويحافظ على القيم الإنسانية الأصيلة. فقط من خلال هذا الجهد الجماعي يمكننا أن نأمل في بناء مجتمعات أكثر سلاما وتسامحا، وحماية أجيالنا القادمة من الوقوع في فخ التطرف والعنف.


إن محاكمة السنوار وغيره من قادة الجماعات المتطرفة يجب أن تكون نقطة تحول في تاريخنا المعاصر. فرصة لمراجعة الذات ومواجهة الأفكار الخاطئة التي أدت إلى هذه المآسي. إنها لحظة حاسمة يمكن أن تكون بداية لعصر جديد من التنوير والإصلاح في عالمنا العربي والإسلامي.